الى طالب في الغربة
غيث أيها الحبيب ... وابن الأخ الحبيب ... حملتني كلماتك وأشواقك وآهاتك إلى ثلاثين عاماً انقضت وأنا في السعودية، فأحسست الآن وأنا أقرأك ، أن قلمي هو الذي يكتب، وقلبي هو الذي يملي ، في رحلة غربتي الأولى التي لم تنطفئ فيها جذوة أشواقي لبلدي وأهلي ، ولم يخب لهيبها حتى كتبت لي العودة للوطن بعد عشر من السنين القاسية لأنثى مثلي في مقتبل العمر ، تبدأ حياتها الجديدة بعيداً عن حضن الوطن والأهل وفي بلداً كالسعودية الذي يعتبر كمجاهل أفريقيا في ذاك الوقت ...... ومع كل هذا بقيت عندي هاتيك الأيام الخوالي أجمل أيام العمر ، والمنحة الإلهية التي أكرمني بها ربي ، والأمل الجميل الذي حققته لي الأقدار ، وحلم به غيري لكنه بقي عنده مجرد أمنية لم تتحقق ... سني الغربة الأولى في ربيع العمر ، تبقى المميزة ، وهي التي تشكلنا ، وهي التي تصنع فينا العجب ، فعلى قدر قسوتها تمنحك قوة لا تكسبها وأنت في بلدك ، وبين أهلك فتجعل منك الإنسان الذي كلما ازداد حنينه ، ازداد ثباته .... وكلما بلغ منه الشوق مبلغة ، ازداد صبره ... وكلما تعثرت خطواته ، اندفع بعيداً بمسيرته ... وكلما ازداد نهلا من معين المعرفة التي لن يجدها في بلده ، سيجد نفسه غيثاً آخر ، وسيطلب المزيد والمزيد .... وتتأكد حينها يا غيث أن ربك قد فتح لك باباً من أبواب العطاء ، فلا تفكر يا حبيبي في إغلاقه ..... أرجو منك أن لا تتراجع عن مسيرة رسمها لك ربك الذي أحبك ، ووجه لك شراعك شمالاً فلا تحوله فأنت برعايته وحفظه وعنياته ...... عرفتك عن قرب ، أثلج قلبي ذاك الشاب الوسيم بمظهره ، المستنير عقله ، القريب لله قلبه ، الكريم خلقه ، الواسع اطلاعه .... أنا لا أكتب مديحاً أو تملقاً ، أو دفاعاً عمن أحب " كما يقولون عني " أشهد أن هذا ما رأيت ولهذا أدهشت .... وجهك المضئ بالنور ترك في قلبي المجروح لمسة فرح وأملاً ونشوى ، أدخل عليك الغرفة فأرى قرآنك بين يديك ، أو متوجهاً لقبلتك تصلي صلاتك ، كنت متوازناً متزناً تجمع بين الثقافة الطبية ، والدينية ، والعلمية فقضينا معك أمسيات جميلة ، جمعتنا فيها المصيبة ، ووحدنا فيها الألم ..... لقد بارك الله خطواتك وفتح لك آفاق المستقبل في أعظم بلد وأعرق حضارة وفي أحضان أحن الأحباب ...... لتبدأ مسيرة العلم وبناء المجد .... فهل يمكن أن تترك لوسوسة ، أو لحظة ضعف أن تؤثر على قراراتك، فتندم كما ندم الكثيرون من أصدقائنا، حين ضعفوا في أيام الغربة الأولى، وعادوا لبلادهم، لكنهم عاشوا حياتهم كلها ندماً وحرقة على فرصة أضاعوها، وقطار غادروه بارادتهم
ثم انتظروا عودته لهم، لكنه أبداً لن يعود.
لا تكن أيها الحبيب من هؤلاء، فلن ينفعك ندم.. تابع السير، وتوكل على رب أحبك وفضلك ومنحك مكرمة من عنده.. ادعوه ليثبتك، ويقوي عزيمتك، ويشدد أزرك، وسندعو معك، ونحن بانتظارك، فالسنين تمر سريعاً، وستعود الينا مكللاً بالنصر، ومحملاً بالعلم باذن الله، وقد حققت آمالك وآمال أحبتك.. عندها ستتذكر كلماتي، وتستعيد حكايتي، وتقول معي: ان سني الغربة مع قسوتها هي أحلى سني العمر.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|