التشظي المذهبي بين المسلمين
[align=justify]لن أتوقف كثيراً عند تشظيات المسيحيين واليهود وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى في بلدان العالم الإسلامي، لقلة عدد هؤلاء جميعاً بالمقارنة مع عدد المسلمين في معظم هذه البلدان من جهة، ولضآلة تأثير تشظياتهم في تشظي مجتمعات بلدانهم من جهة أخرى.... وعليه، ربما تكفي الإشارة إلى أن المسيحيين يتشظون مذهبياً إلى: كاثوليك وبروتستانت وأرثوذكس وأرمن وموارنة وأقباط.. الخ، وبعضهم يتبع الكنيسة الكاثوليكية البابوية في روما، وآخرون يتبعون بابوية الإسكندرية وسائر المشـرق، وثمة من لا يتبع هذه البابوية ولا تلك.
أما اليهود، أو من تبقى منهم، في البلدان الإسلامية، بعد هجرة معظمهم إلى إسرائيل، عقب إقامتها، فينقسمون إلى مذاهب شتى أيضاً: حسيديون وقبالاه وسامريون وغير ذلك...
وأما المسلمون، فعلى الرغم من أمر الله لهم بالحفاظ على وحدة صفِّهم بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا...}/
( آل عمران، الآية (103))، محذراً إياهم من أن يحذوا حذو أمم سبقتهم {... تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}/
( آل عمران، الآية (105))، و{مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ}/
( آل عمران، الآية (19)، والشورى، الآية (14)، والجاثية، الآية (17))، فكانت النهاية الحتمية لتفرقهم واختلافهم انخراطَهم في نزاع بينيٍّ، ذهب بقوتهم ومِنعتهم جميعاً. ولكي لا تؤول حال المسلمين إلى مثل هذه النهاية السيئة، حذرهم الله جلَّ جلاله، ونهاهم عن التنازع فيما بينهم كي لا يضعفوا ويزولوا، كما زال من اختلفوا من قبلهم، فخاطبهم سبحانه آمراً محذراً: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}/
( الأنفال، الآية (46))..
وبحدسه النبوي الدقيق، خشـيَ الرسول صلى الله عليه وسلم افتراقَ المسلمين بعد رحيله عنهم، وقد شعر، في حجة الوداع، بأن فراقَه لهم بات وشيكاً، فبادر يحذرهم من الفرقة والخلاف والاقتتال فيما بينهم، بعد وفاته قائلاً: (لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّاراً يَضْـرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْض)(1) ، وكان صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك مراراً في أحاديثَ ومناسباتٍ كثيرة سابقة...
لكن المسلمين، وعلى الرغم من تحذير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لهم من الخلاف والفرقة والتنازع فيما بينهم، إذا بهم يختلفون، فور وفاته. وما هي إلا فترة قصيرة حتى صاروا فرقاً ومذاهبَ وأحزاباً، يُكنُّ كلُّ فريق العداء للآخرين والكراهية، بل لا يجدُ غضاضة في حربه، أحياناً، تحت ستار كثيف من الذرائع والحجج، محورُها جميعاً ادعاءُ الرغبة في الحفاظ على جوهر الإسلام نقياً، وعلى تعاليمه الأصلية كما كانت زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتحت هذا الستار من الذرائع الذي راح يتضخَّم حجمُه جيلاً بعد جيل، بفعل ما أضافه إليه كل جيل جديد من مسوغات جديدة للخلاف والفرقة، تشظى المسلمون إلى درجة بات يبدو للباحث معها أن من الصعب جداً، إن لم يكن من المستحيل، عودتهم إلى ما كانوا عليه، أي إخوة، كلُّهم على قلب رجل واحد، كما وصفهم الله بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}/
سورة الحجرات، الآية (10) يحب كلٌّ منهم لأخيه ما يحبه لنفسه، عملاً بقول رسولهم صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحب لنفسه)(2)، وامتثالاً لتحذيره لهم في خطبة الوداع من اعتداء أحدهم على أخيه، لأن الله، كما أخبرهم نبيُّهم في ذلك الموقف، قد (حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا..)(3)... ثم كمن خشـي ألا يكون هذا التحذير كافياً وحده لردعهم عن الاعتداء على بعضهم، أضاف صلى الله عليه وسلم محذراً: (وَيْحَكُمُ، انْظُرُوا لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)(4).
ولكن ما سبب الاختلاف بين أتباع الدين الواحد، قديماً وحديثاً؟ أهو الجهل بالدين نفسه وقلَّة العلماء من أتباعه بأحكامه وقيمه ومبادئه، أم اختلاف أولئك العلماء أنفسهم، في تفسير هذه الأحكام والقيم والمبادئ، ورغبة كلٍّ منهم في ليِّ أعناقها بحيث تتلاءم مع رغباته وأهدافه الضيقة، أنانيةً كانت أم أسرية أم قبلية أم قومية أم غير ذلك من الأهداف؟
في رأي بعض المتأخرين أن السبب الرئيس لاختلاف أتباع الدين الواحد هو تجاذبهم فيه بالأقوال والأفعال المنتهي بهم (إلى الخصومة والعداوة والتنازع)(5). أي ليس سبب الخلاف الجهل بالدين بل النوازع الفردية والقبلية والفئوية الضيقة في تفسير أحكامه وتطبيقها، كما أشار الله إلى ذلك صراحة بقوله، في وصف سبب اختلاف أهل الكتاب، أي اليهود والنصارى الذين لم يسبقوا الأمة الإسلامية في الظهور فقط، وإنَّما في الاختلاف أيضاً: {...وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ...}/
(آل عمران، الآية (19). وكان هذا السبب نفسه، كما سنرى لاحقاً، هو الذي أدى إلى افتراق المسلمين، فور وفاة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
إطلالة تاريخية على بدايات الخلاف بين المسلمين
في الواقع، ومهما كان الاعتراف بهذه الحقيقة مؤلماً، دبَّ الاختلاف بين المسلمين، فور وفاة نبيهم صلى الله عليه وسلم وتولِّي أبي بكر رضي الله عنه الخلافةَ التي يقول الشيعة إن علياً عليه السلام كان أحقَّ بها وصاحبَها، حسبما يُوردونه من أحاديث نبوية يؤكدون بها قَالَتَهم هذه. وفي الحقيقة، كان هذا الاختلاف المبكر الذي سارع عليٌّ نفسه إلى وَأْدِه بمبايعة أبي بكر، هو الاختلاف الأهم والأخطر، في تاريخ المسلمين، قياساً بما تلاه من اختلافات، على أهميتها؛ وذلك لسبب جوهري يتمثل باستمرار عقابيله، إلى عصـرنا الراهن، كواحدٍ من أهم عوامل فرقة المسلمين، في مختلف بلدانهم، ومن أهم عوامل تكريس انقسامهم وضعفهم أيضاً، كما سيتم تفصيل ذلك لاحقاً.
وقد كاد الخلاف الخطير الآخر الذي تلا اختلافَهم على شخص خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يقصم ظهر وحدتهم ويُفتِّت بنيتهم المجتمعية باكراً، لولا نجاح أبي بكر رضي الله عنه في التصدِّي له ووأده في مهده، ضمن ما اشتُهر في التاريخ الإسلامي بحروب الردَّة التي كان محرضَها وباعثَها رَفْضُ بعضٍ ممن تبعوا بعضَ أدعياء النبوة الذين كان مسيلمة أشهرهم، أداءَ الزكاة.
وبهزيمة المرتدين، استقرت أوضاع المجتمع الإسلامي الوليد قليلاً، في عصـر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بتأثير حزمه الذي اشتهر به، لتعود الخلافات، بعد اغتياله، فتذر بقرنها بين مجموع المسلمين في عصر عثمان بن عفان رضي الله عنه.
فعلى الرغم مما اشتهر به عثمان من صلاحِ سيرةٍ وحسن خلق ولِين عريكة وكرم، يَلْمِزُه كثيرون بأنه لم يكن قوياً بما يكفي ولا حازماً بما يكفي لضبط أحوال الرعية، ولعدم الوقوع تحت تأثير أقاربه من قريش، وخصوصاً زعماء البيت الأموي ووجوهه الذين دخلوا الإسلام متأخرين، بعدما ناصبوا الرسول صلى الله عليه وسلم العداء، لفترة طويلة من الزمن، وخصوصاً أبا سفيان الذي لم يدخل الإسلام إلا بعد فتح مكة.
وبهذا الصدد، ثمة من يرى أن البيت الأموي الذي كان زعماؤه مسيطرين على زعامة قريش والعرب إلى حد ما، في الجاهلية، تمكنوا من استرجاع سيطرتهم هذه بعد دخولهم في الإسلام، وذلك بعدما تمكَّن معاوية من هزيمة علي بن أبي طالب، ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، في معركة صفين، وانتزاع الخلافة منه، ثم نجاحه في تجاوز مبدأ الشورى الإسلامي لاختيار الخليفة، وتحويل تداول الخلافة إلى عملية وراثية، تابَعَها بنو مروان بعده، لتصير الخلافة الإسلامية، ومنذ ذلك التاريخ، مَلَكِية، يرثها الابن عن أبيه، أو عن أخيه، ولا تخرج بحال من الأسرة المالكة إلا بزوال هذه الأسرة، كما حدث حين تمكَّن العباسيون من القضاء على الدولة الأموية، تحت ستار من الذرائع التي سوَّغوا فيها ما وصفوه بأحقيتهم في تَسَلُّمِ الخلافة وحدهم دون مشاركة أحد من المسلمين الآخرين..
وصحيح أن مبدأ الشورى ظلَّ شعاراً كبيراً مرفوعاً، إلا أنه في الواقع العملي، كان مجرد شَكْلِيَّةٍ من شكليات الحكم الإسلامي يتمُّ الحرص على التمسك بها ظاهرياً، من أجل إضفاء الشـرعية على استمرار تولِّي أفراد الأسرة الحاكمة السلطة، والإيهام بأن تولِّيهم لها كان وليد إجماع المسلمين وليس اغتصاباً لها ممن قد يكونون أحقّ بها منهم.
ومع توالي الخلفاء، حتى بعد ضعف العباسيين، وظهور الفاطميين وغيرهم من الخلفاء الأقل شأناً والذين صاروا يلقبون بالأمراء، في سورية ولبنان وفلسطين وغيرها من دول المشـرق والمغرب في الإمبراطورية العباسية التي تشـرذمت، وخصوصاً بعد انتهاء حكم المعتصم بالله، ترسَّخت في الحياة السياسية الإسلامية مفاهيم الانقياد القسـري أو الطوعي للسلطان، دون انتخاب حقيقي حرٍّ له من عامة المسلمين، وصار مبدأ الشورى العظيم أثراً بعد عين في الممارسة السياسية على أرض الواقع. بل إن المعارضين للاستئثار بالسلطة، ومنذ عهد معاوية، بدأوا يتعرضون للاضطهاد والنبذ والملاحقة، وربما التصفية الجسدية بالقتل في معظم الأحيان.
وكان أول من تَعرَّض لهذا الأذى من المعارضين الإسلاميين الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه، في عصـر عثمان بن عفان رضي الله عنه، لاعتراضه على استمرار تولِيَةِ معاوية إمارة الشام، على الرغم مما شابَ نهجَ حكمه من انزياحٍ عن نهج الإسلام، في مواطن كثيرة، من أهمها إدارته المالية لبيت مال المسلمين.... لقد كان أبو ذر صريحاً، علنياً وقاسياً في انتقاداته لتلك الإدارة التي رآها مخالفة لمبادئ الإسلام، ولذلك تعرَّض لمضايقات كثيرة انتهت بإصدار الخليفة عثمان قراراً بنفيه إلى بادية الربذة حيث قضـى نحبه وحيداً هناك، مع أسرته، تماماً كما تنبَّأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ظل الأمر في حدود هذا اللون من التصدِّي لمعارضي النهج الأموي في الاستئثار بالحكم والخلافة، وتعطيل فاعلية مبدأ الشورى، حتى اعتلى عرش الخلافة عبد الملك بن مروان الذي انتقل في مواجهة معارضيه خطوة أبعد، حين شنَّ عليهم ما يمكن أن يوصف بالمصطلحات الحديثة، حروبَ إقصاءٍ، نفَّذها، في ذلك الحين، وكيلُه وساعده القوي الحجاج بن يوسف الثقفي الذي لم يتورَّع عن قتل عدد من كبار الصحابة والتنكيل بهم، لتحقيق أهداف خليفته، ثم تجاوز قَتْلَهم إلى ما هو أعظم حرمةً، فرمى الكعبة بالمنجنيق وهدمَ جانباً منها، أثناء حربه ضد المعارض الأقوى، آنذاك، وهو الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم وسع عبد الملك حربه الطاحنة ضد معارضيه، مستعيناً بساعد الحجاج وبفتكه وانعدام رحمته، ليؤسِّس بذلك لهيمنة بني مروان على الحكم بالقمع ومصادرة الحريات العامة وتصفية أصحاب الرأي المخالف وتكميم أفواههم أو قتلهم، وذلك لفترة زمنية طويلة جداً ما تزال مستمرة حتى اليوم.. حتى استقر في روع غالبية المسلمين والكثير من غير المسلمين أن الإسلام دينٌ ضد حرية الرأي وضد الاختيار الحر للحاكم وأنه يُحرم المعارضة.
وساعدت فتاوى علماء السلطة على ترسيخ هذا المفهوم الخاطئ بتفسيرٍ مُلْتَوٍ لبعض الآيات القرآنية، وخصوصاً للآية التي تقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}/
(النساء، الآية (59)، معتبرين طاعة الخليفة أمراً إلهياً لا تجوز مخالفته، حتى وإن خالف شرعَ الله...! ومن هذا الطرح الخاطئ نبتَتْ فكرة الحق الإلهي للحاكم المسلم، والشبيهة بما كان يزعمه بعض ملوك أوروبا, بدعم من الكنيسة الكاثوليكية لهم، حول وجود حق إلهي لهم في الحكم يجعله محصوراً فيهم ومحرماً على غيرهم من محكوميهم..
وفي العصـرين المملوكي ثم العثماني، غالى الملوك والسلاطين في قمع أي معارضة ضد توليهم الحكم أو توريثه لأولادهم وأحفادهم، واتبعوا في ذلك أساليب من التعذيب والقهر تقشعر لها الأبدان، وما تزال الصفحات التي كُتبت بها بعض تلك الأساليب تقطر بدم ضحاياها الذين كان المطلب الوحيد لمعظمهم حرية الرأي والتعبير والحق الإسلامي الشرعي في تداولٍ حرٍّ للسلطة بإجماع المسلمين دون قسـر أو إكراه لهم على القبول بهذا الخليفة أو ذاك والتظاهر بحبه والطاعة له والموافقة عليه، ولو غصباً.
ومن الجدير بالإشارة هنا أن معاوية هو أول من ابتكر أسلوب أخذ البيعة بالإكراه(6) لمن بعده، كما جاء في بعض كتب التاريخ. وفي خضم ما أفرزه هذا الالتفاف الأموي على مبدأ الشورى الإسلامي، وما نجم عن تعطيل العمل به، فعلاً لا ادعاء أو تظاهراً، وقعت معارك كثيرة بين المسلمين، لم تكن صفين سوى بدايتها المروعة، ثم تلتها معارك أخرى، كان من أهمها وأشهرها واقعة كربلاء التي قُتل فيها الحسين بن علي حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع عدد من صفوة أبناء البيت النبوي.
وتُعَدُّ كربلاء فيصلاً بين مرحلتين هامتين، أو بداية لمرحلة تكريس الانقسام الحقيقي الكبير بين جموع المسلمين إلى ما صار يُعرف بعد ذلك بالسنة والشيعة، والمقصود بالسنة الذين يؤكدون أنهم المتمسكون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، بينما المقصود بالشيعة الذين يصفون أنفسهم بأنهم شيعة علي رضي الله عنه وأنصارُ آلِ بيته والمدافعين عن حقهم في خلافة المسلمين، وسعيهم الدائب إلى اليوم لإعادة الخلافة إليهم! هذا، مع أن مصادر كثيرة تؤكد أن شيعة العراق هم الذين خذلوا علياً ثم ابنه الحسين عليهما السلام، وكانوا سبباً في استشهادهما!!
وكان أن زادت هذه الفرقة بما شابَ تعاليم الطرفين وممارساتهما من البدع، وانتهاج كل فريق منهم أسلوب تكفير الفريق الآخر إلى حد إجازة قتله بوصفه مرتداً عن الإسلام... وهذا طبيعي في مجتمع غاب فيه الحوار الحر وحرية الرأي، وسادت فيه شريعة (من ليس معي فهو ضدي)، ومعارضي هو عدوي الذي إن لم أبادر إلى التخلص منه فلن يتورع عن السبق إلى التخلص مني.
ورغم تحذيرات بعض كبار علماء المسلمين، في مختلف العصور الإسلامية من مغبة هذه الفرقة واستمرارها، ودعواتهم إلى الإصلاح ولَمِّ الشمل ورأب الصدع، عن طريق تقريب وجهات النظر وتجاوز الخلافات، عبر تنمية أدب حوار حقيقي حر بين أئمة الطرفين وأتباعهم، إلا أن الخلاف استمر إلى اليوم.
وهكذا زاد التشظي، مع توالي الأيام والعصور، زيادة هائلة بشعة... لكنْ، من الجدير بالملاحظة هنا أن الذين عُرفوا باسم أهل السنة والجماعة، فيما بعد، لم يتشظوا مذهبياً إلى شظايا كثيرة، كما حدث بالنسبة للشيعة مثلاً، بدليل أن المذاهب الفقهية التي يتبعونها حتى الآن، لم تزد على الأربعة التي ظهرت، منذ بدايات عصـر الراشدين وخلال العصـرين الأموي والعباسي، وهي: (الشافعي والحنفي والمالكي والحنبلي).. كما أن من المُلاحظ أيضاً أن أتباع أيٍّ من هذه المذاهب لا يُكفِّرون بعضهم بعضاً، بل يجوز للمنتمي إلى أيٍّ منها أن يأخذ من أيِّها ما يراه أسهل أو أنسب لظرفه وطاقته مثلاً. وهذا يعني أنهم لا يُكفِّرون بعضهم، ولا يُكنُّون لبعضهم العداوة والبغضاء، بدليل أن التاريخ الإسلامي لم يُسَجِّلْ صراعات حقيقية بينهم، على خلفية الانتماء المذهبي/الفقهي، إلا فيما ندر.
لكنْ، ما إِنْ يبتعد الباحث قليلاً عن ساحة التآلف الفقهي الظاهري بين أهل السنة والجماعة، حتى يتبيَّن وجود تصدعات عميقة تحت بنية تآلفهم الظاهري هذا، ساهمت في إحداثها، ومن ثَمَّ في تمكينها من تَشْظِيَة تلك البنية، عواملُ عديدة، بعضها داخلي كالنزعات القبلية، وبعضها خارجي ذو طبيعة فكرية وافدة، كتلك التي أنتجت فِرَقاً مثل (المرجئة والقدرية والمعتزلة والمُشَبِّهَة...) وغيرها من الفرق المماثلة القديمة/الحديثة التي كانت محلَ نقدِ غالبية السنة، وهو نقدٌ تجاوزَ، قديماً وحديثاً، حدود الجدال بالألسن إلى الصـراع فالصدام، خصوصاً حين كان يبلغ اتهام المتجادلين لبعضهم حدَّ تكفير كلِّ طرف للآخر..
هذه حال أهل السنة، أما الذين عُرفوا في التاريخ الإسلامي باسم الشيعة، وهو اسمٌ مُشتقُّ من وصفهم لأنفسهم بمشايعة علي رضي الله عنه وآل البيت ضد من خرجوا على خلافته، فلم يكونوا أحسن حالاً، ولا أكثر تماسكاً.. ذلك أن احتمالات تشظيهم بدأت بالظهور منذ المرحلة الأولى لالتفافهم حول علي، ليخوضوا معه معركة صفين، ضد معاوية، إذ سرعان ما انقسموا، وهم مازالوا في أرض المعركة، إلى شيعة وخوارج، إثر التحكيم الذي أنهى المعركة لصالح معاوية والأمويين، ورفضَ الخوارجُ نتيجتَه، مطالبين علياً بمواصلة القتال، وحين رفض أرسلوا إليه وإلى معاوية وعمرو بن العاص من يغتالهم، فلم ينجح سوى عبد الرحمن بن ملجم الذي أُرسِل لاغتيال علي.
وقد كان من المفترَضِ منطقياً ألا تتشظى هاتان الفرقتان إلى فِرَقٍ أصغر، بل أن تحاولا التصالح والاتحاد، لتتمكنا من مواجهة الأمويين معاً، بعد صفين، لكنَّ ما حدث كان العكس، إذ ما لبثت كل فرقة منهما أن تشظَّت إلى فرق كثيرة صغيرة.. فانقسم الخوارج إلى أكثر من عشـرين فرقة من أشهرها: (الأزارقة والنجدات والصفرية والعجاردة والإباضية... وغيرها)(7)؛ وانقسم الشيعة إلى (زيدية وإمامية/اثنا عشـرية وكيسانية، ثم إلى جعفرية وباقرية وإسماعيلية.. إلخ)(8). وبينما انتهت ظاهرة الخوارج تحت ضربات الأمويين، لاسيما في زمن الحجاج، استمر الشيعة إلى اليوم، فرقاً تتشظى في كل عصـر إلى شظايا أصغر فأصغر ما تزال قابلة لمزيد من التشظي، كما يُستشَفُّ من سيرورتها الراهنة، ولاسيما في إيران والعراق وسوريا واليمن ولبنان وغيرها..
لكن، وعلى الرغم من كل هذا السوء وكل هذا الاضطراب في علاقات المسلمين ببعضهم، وعلى الرغم من تشظياتهم المبكرة المشار إلى أبرزها آنفاً، وإلى ما نجم عنها من آثار مروعة أَوْهَنَتْ علاقاتهم ببعضهم، استطاع الأوائل منهم، في أغلب الأحيان، أن يتجاوزوا خلافاتهم البينية، مذهبية كانت أم قبلية أم من أيِّ نوع آخر، كلما وجدوا أنفسهم في مواجهة المعادين للإسلام وأتباعه جملةً، بغضِّ النظر عن مذاهبهم وتشظياتهم. وبتمكُّنهم من تحقيق هذا النوع من التجاوز، طوعاً أو بإكراه من السلطة التي كانت تمسك زمامَ أمورهم، استطاع المسلمون، ولاسيما في القرون القريبة من عصر النبوة، أن ينشـروا الإسلام بتعاليمه السمحة في كثير من أصقاع الأرض، فكان أن سادوا كقوة من أكبر القوى في التاريخ القديم، وخصوصاً في أوائل الفترة العثمانية(9).. لكنْ، وفي كل مرحلة، استطاع، خلالها، الخلاف المذهبي بين المسلمين أن يتسلل من القبضة القوية للسلطة الحاكمة، كان يقسمهم إلى قسمين كبيرين متناحرين، لينتهي تناحرهما بإضعافهما معاً لصالح عدوهما غير المسلم الذي كان يتربص بهما الدوائر، والذي تمكَّن، في النهاية، من تحطيم إمبراطورية العثمانيين، ليستعمر الدول والممالك التي كان مجموعها يُشَكِّل ما كانته تلك الإمبراطورية ذات يوم.[/align]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) صحيح البخاري، الجزء الأول، ص: (217).
(2) أخرجه البخاري (1/11)، ومسلم (1/49) ، وأبو عوانة في "صحيحه" (1/33)، والنسائي (2/271، 274).
(3) صحيح البخاري، باب حجة الوداع، الجزء (14)، ص: (338).
(4) المصدر السابق نفسه.
(5) (الاختلاف في أصول الدين) لمؤلفه (د. إبراهيم بن محمد بن عبد الله البريكان)، المكتبة الشاملة.
(6) في كتابه (الدولة الأموية، عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار)، ينفي الدكتور علي محمد الصًّلاَّبيَّ، أن يكون معاوية قد أخذ البيعة لابنه يزيد بالإكراه. المكتبة الشاملة.
(7) (الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية)، لمؤلفه: عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي أبو منصور، دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الثانية، 1977.
(8) للتوسع والاطلاع، انظر كتاب (أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية عرض ونقد)، لمؤلفه: ناصر بن عبد الله بن علي القفاري. المكتبة الشاملة، وانظر كتاب (اعتقادات فرق المسلمين والمشركين)، لمؤلفه: محمد بن عمر بن الحسين الرازي أبو عبد الله، دار الكتب العلمية، بيروت، 1402، تحقيق: علي سامي النشار.
(9) لأنهم فيما بعد، انقسموا، في عصر محمد الفاتح من جديد، واستقل الشيعة فيما كان يسمى بلاد فارس، بزعامة إسماعيل شاه الذي أسس الدولة الصفوية الشيعية، وتحالف مع أعداء العثمانيين من غير المسلمين، وفي مقدمتهم البرتغاليون والأسبان. راجع كتاب (سوندرز) عن العالم الإسلامي، ترجمة د. ظافر الصواف.