-5-
حيّرني أمر الجنرال الذي حضر دونما مواربة
خلع الرُتَبَ عن بدلته العسكرية ورماها عند قدميّ
لقد سئمت القتال من أجل حصد الأرواح
سئمت القتال من أجل القتال.
إليك رتبي وسلاحي، سأغادر على مركبك هذي البلاد
أفضّل مواجهة المجهول والعبث مع الجداول وشياطين البحر
دعني أحرق السأم وأقلب القيم المستحدثة
دعني أصبّ لعنتي ولعنة سلاحي على من يستحق ذلك.
لم ينتظر جوابي ومضى الى المركب محيّياً ومزمجراً
سرعان ما أخذ المقاتل في روحه يتكلّم
كان يرغب في ترتيب مركبي وفرض حالة من النظام
ولم يمضِ وقتٌ طويل حتّى تلقّى صفعة من الأعمى
وبعد ذلك حلّ صمت قاتل وتعانق الإثنان على عجل.
وما زلت أتساءل: لماذا لا يتركوني وشأني؟
أنا أبحث عن ذاتي بعد أن همس المولى في أذني
نظرت الى الملأ وكانت عيونهم تهمس قائلة:
ونحن نبحث عن ذاتنا! دَعنا نسير معك الى المجهول
ربّما تطهّرت أرواحنا بعد أن طال بنا السبات والقهر.
كانت تضع على رأسها منديلاً شفافاً أسود
وكان الحزن ظاهر في عينيها
الأرملة الشابّة جيهان
تنظر الى المركب وكلّها رجاء
كانت قد نذرت جسدها للصلاة وفاءً لعهد حبيبها
المغدور.
رفضت كافّة الرجال الذين تقدّموا للزواج منها
رفضت الاستلقاء في سرير رجلٌ آخر
وبقيت شفتاها شقّي حبّة تين سال الشهد من أطرافها
دعوة لمهادنة الدنيا والموت عند حدود اللذّة
صعدت جيهان الى المركب
تحفّز الرجال شهقت الحناجر، لكنّ سهام عينيها
أصابت منهم مقتلاً.
جيهان تركت قلبها عند مثوى درويش
وأحاطت جسدها بدرعٍ من نار
وبقيت ثمرة تكاد تسقط عن الأغصان شهية عبقة
وأنا لا أدري كيف أبحر بكلّ هذه الأحمال يا ربّي؟
كيف سأبحر بكلّ هذه الأشعار يا ربّي!
-6-
أخذ الدرك يكثرون من تجوالهم ومراقبتهم لمركبي
كانوا يسألون ويستفسرون عن سرّ هذا المركب!
وكان الحاكم قد أخذ يشعر بالقلق.
وكان الحاكم على حقّ
لقد أضحت رحلتي قيد أيّام
ولن أترك خلفي سوى ذيل أبيض يرغي زبداً
وكان النسيان في طريقه الى تلك البلدة
كان صاحب الدرك يتساءل عن سرّ هذا الهرج
جميع الذين صعدوا الى المركب أصيبوا بفرحٍ غريب
لا يوصف.
أخبر صاحب الدرك بأنّه سيفلت من مهمّته في اللحظة الأخيرة
سيصعد قبل إقلاع المركب ولن ينظر الى الخلف أبداً
وكان على خطأ!
كيف لكلّ هؤلاء أن ينسوا بداياتهم؟
كيف لهم لأن ينسوا أحبّتهم؟
كيف لهم أن ينسوا الورد الذي قطفوه ووضعوه في جدائل
فتيات الحيّ في ليالٍ تضيئها أقمار الحبّ!
كيف لهم أن ينسوا الكستناء المتفرقعة فوق كوانين الشتاء؟
حين تصبح المياه برّهم وتصبح الأمواج سماءهم
سيتذكّرون كلّ هذا
ويسيل الدمع حارقاً فوق الوجنتين يسقي جياع
اليمّ.
ومن بعيد انطلق صوت عزف بدا خافتٍ على البيانو
كانت الأصابع تتلاحق خلف الأوتار خشية أن تفلت نغمة
في عرض السماء
والملائكة تستمع وينداح النداء صلاة خاشعة تناجي القلوب
المتحجّرة
استيقظوا من النوم يا أبنائي لقد حان وقت الوداع
حان وقت الوداع.
ما الذي أنتظره يا تُرى؟
أخشى البدء بهذه المغامرة
أخشى اكتشاف الحقيقة
أخشى الصعود نحو الهاوية
أخشى نبضات قلب أمي
ولهفة الأخت التي لم تعد تنتظرني
وحيداً في مواجهة هذا القدر
سأمضي قريباً الى عين العاصفة
سأغوص عميقاً في قلب محارة
لن أخشى الموت مرّتين
لقد وُلِدْتُ يوماً ما وهذا يكفي
حَبْلُ الصُرّة انقطع ولا عودة عن الحياة
لا عودة عن الحياة؟