التسجيل قائمة الأعضاء



 
القدس لنا - سننتصر
عدد مرات النقر : 137,860
عدد  مرات الظهور : 162,363,234

اهداءات نور الأدب

العودة   منتديات نور الأدب > رابطة نـور الأدب (مسجلة ومرخصة) > الأقسام > مكتبة نور الأدب
إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 29 / 06 / 2008, 40 : 11 PM   رقم المشاركة : [1]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

القرآن ومحمد .... لمؤلفه : د.يوسف جاد الحق

[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:95%;background-image:url('http://www.nooreladab.com/vb/mwaextraedit2/backgrounds/4.gif');border:4px outset green;"][CELL="filter:;"][ALIGN=justify]
هذا الكتاب " القرآن ومحمد " لمؤلفه د. يوسف جاد الحق ، صدر عن دار المسبار للطباعة والنشر والتوزيع في العام 2006 .. وهو في 600 صفحة من القطع الكبير .. ويسرنا في نور الأدب أن نقوم بنشر هذا الكتاب الهام ..
طبعا كما اشرنا سابقا ، كل الكتب المنشورة هنا متفق مع أصحابها لتنشر في " نور الأدب "
[/ALIGN]
[/CELL][/TABLE1][/ALIGN]


[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:95%;background-image:url('http://www.nooreladab.com/vb/mwaextraedit2/backgrounds/10.gif');border:4px groove green;"][CELL="filter:;"][ALIGN=justify]
مقـدمـة
ليس سهلاً على المرء الخوض في مسلَّمات الحقائق الناصعة، التي يتبدى صدقها في ذاتها، دونما حاجة إلى برهان، لكي يقتنع بها من لا يريد الاقتناع أصلاً، أو يسعى إليه، بسبب من موقف مسبق ناجم عن موروث ثقافي ما، أو بسبب من عنادٍ يحسب صاحبُه أنه يتعرض للمهانة إذا ما هو امتثل للحق وأقرَّ بالحقيقة، حتى وإن تأكدت لديه. وهذا دأب الكثيرين مكابرةً واعتداداً بالنفس والرأي ليس إلا.
ذلك، دونما ريب من أشق الأمور على من يتصدى لمهمة من هذا القبيل. فأن تحاول إقناع مكابر في رابعة النهار، بأن الوقت نهارٌ وأن الشمس ساطعة تغمر الدنيا بنورها لأمر ليس باليسير، إذا ما كان في مواجهتك من سيقول: أثبت لي ذلك بالبرهان..! فبماذا يمكنك عندئذٍ أن تجيب؟ أو كأن يكون المطر منهمراً والسماء مكفهرة ملبدة بالغيوم فيجبهك بقوله: لا.. إن الجو صحو والسماء زرقاء وعلينا أن نقيم صلاة الاستسقاء..!
في هذا الكتاب قد تكون المسألة من هذا القبيل. فأن تحاول إثبات ما هو ثابت، لذي عقل وذي عينين لمن لا يريد التسليم عناداً واستكباراً فالمهمة من الصعوبة بمكان.
موضوع هذا الكتاب الرئيس هو:
مصدر القرآن، على أنه كلام الله وليس كلام بشر. وشواهد ذلك أكثر من أن يحيط بها حصر سنأتي على جملة منها كأمية الرسول عليه السلام، ومنها إعجاز القرآن البلاغي والمنطقي والفكري من جهة، والعلمي من جهة أخرى، ومنها ما يتعلق بالحياة والكون والإنسان. ومنها التعريف بالخالق، ومنها ما يتعلق بالحساب والثواب والعقاب والعدل الإلهي، ومنها توجيهات في العبادة والمسلك والخلق لبني الإنسان ومنهجية التعامل فيما بينهم. قضايا جمة كان ينبغي أن تدرج في مساق المسلمات بعد كل هذا الزمان منذ بعث الرسول عليه السلام، في زمن أصبحت فيه وسائل البحث والتقصي وأدوات العلم ومناهجه في المتناول. بيد أنك مضطر ــ برغم ذلك ــ إلى الخوض فيها جملة حيناً وتفصيلاً حيناً.
ولقد حاولت الاجتهاد برأيي ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. وقد اعتمدت على ما قد أهتدي إليه عن طريق التأمل وإعمال الفكر والاستنتاج أكثر من اعتمادي على المراجع ــ إلا عند اقتضاء الضرورة فمنها ما لا غنى عنه كمصدر للمعلومات والأخبار ــ كيلا أكرر ما سبقني إليه آخرون. وليس غريباً أن أكتشف أو أن يكتشف غ3يري جديداً في هذا الشأن، مادام القرآن نبعاً غزيراً دافقاً لا يغيض ماؤه ولا يشحُّ عطاؤه، كمصدر لدراسات لا حصر لها جرت في الماضي، منذ نزوله وامتدت حتى يومنا هذا، ولسوف تظل كذلك إلى يوم الدين.
هذا البحث ليس في تاريخية النص القرآني، كأسباب النزول، أو تاريخية الوقائع، فأسباب النزول ـ كما وضعها الأولون ـ ليست مصدراً ذا دلالة قطعية. كما أنه لا يتعلق بمسائل فلسفية كخلق القرآن أو قدمه وأزليته مما ذهبت إليه جماعات كالمعتزلة وغيرهم من معارضيهم. أما تاريخية الوقائع فتأتي ضمن السياق لمقتضى الضرورة.
غاية البحث هي إثبات نسبة القرآن إلى مصدره، وتنزُّله على محمد عليه السلام قبل ظهور الدراسات والتفاسير اللاحقة لزمان نزوله. سبيلنا للبرهنة على ذلك هو ما صدَّقته الأيام، وما أثبتته البحوث العلمية في الكون والحياة وسائر أوجه النشاط البشري، وما أكدته النبوءات والإرهاصات لمستقبل ما بعد النزول، فتطابق مع ما سبق وروده في القرآن بتتابع الأيام على مدى القرون اللاحقة؛ معتمدين في ذلك جدلية المنطق بالمحاكمة العقلية لبلوغ اليقين. فحين يثبت أن القرآن هو، بالقطع، كلام الله تعالى فلا مناص بعدئذ من التصديق بالرسول والرسالة ــ الكتاب وما تضمنته آياته في كل مسألة.
المصدر الإلهي للقرآن، أي أنه كلام الله دون غيره وأن محمداً رسول الله، تلقَّاه وحياً نزل به الروح الأمين، هو موضوع هذا البحث.
ولا ريب في أن أيَّ دارسٍ منصفٍ، غير منحازٍ ولا متحامل لابد واجدٌ في القرآن نصاً يستحيل على بشر بمفرده الإتيان بمثله كنتاج لعقله وتفكيره، ناهيك عن الإحاطة بسائر ما احتواه على النحو الذي هو عليه. إذ هو معجزٌ في مضمونه الشامل المحيط، ومحتواه الضافي بكل ما في الكون من خلق وخلائق.
وينبغي ألا يفوتنا التنويه، بل التأكيد على أنه ما من كتاب ظهر للناس، على ظهر البسيطة، ومدى الزمان، يربط ما بين السماء والأرض كالقرآن. فهو الكتاب الوحيد الذي ظلَّ على صفائه، وبقي على نقائه كلمةً كلمة، وحرفاً حرفاً، دون أن يتعرض لتحريفٍ أو تعديلٍ أو تغييرٍ أو تبديلٍ من أيِّ قبيل. وهذا من أسرار إعجازه المبهرة. فقمة الإعجاز، قبل أي شيء، أن يبقى القرآن كما هو، كما تنزل على رسول الله (عليه السلام) بحكم إرادة إلهية مقتدرة أعلنت، منذ البداية، عهداً بحفظه وسلامته وديمومته. وكان ذلك في حدِّ ذاته بمثابة التحدي المعجز ــ الذي ما برح قائماً ــ بأن أحداً من البشر لن يستطيع العبث به، وأن أحداً منهم ــ ومن الجن أيضاً إمعاناً في التحدي ــ لن يستطيع تقليده من بعيد أو قريب.
ومهما يكن من أمر فلابدّ من الإقرار بأن هذا الذي نقدم في هذا الكتاب لا يعدو كونه جهداً متواضعاً محدوداً، أو لنقل إنه محاولة لفهم الظاهرة الفريدة المتفردة في حياة البشرية، والتي هي كلمات الله المنزلة على محمد عليه السلام. إنه لكتاب الله حقاً بحيث تجد أنك، بعد أن تضع بحثاً فيه بهذا الحجم، لم تتجاوز العتبة إلى المدخل، بل لعلك واجدٌ أنك لم تقترب منها إلا قليلاً. كمن يقف عند شاطئ المحيط، وفي ظنه أن في وسعه أن يمخر عبابه سباحة، طولاً وعرضاً، بيد أنه لا يلبث أن يدرك أنه لم يصب، بعد جهده كله، أكثر من غرفة من مائه بالكاد تملأ قبضة من كفيه.
ليس لي أن أزعم أنني (فقيه مجتهد) أو ما هو من هذا القبيل، بيد أني أتمثل معنى القول المأثور: للمجتهد أجران إن هو أصاب وأجر واحد إن جانبه الصواب.
والله ــ أولاً وأخيراً ــ من وراء القصد.
المؤلف

[/ALIGN]
[/CELL][/TABLE1][/ALIGN]

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 02 / 07 / 2008, 00 : 07 PM   رقم المشاركة : [2]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: القرآن ومحمد .... لمؤلفه : د.يوسف جاد الحق

[align=justify]
مدخل
للكائنات كافة غايات تسعى إليها. واعية كانت لغاياتها، بالفطرة أو بالغريزة، أو غير واعية.
الإنسان، دون سائر الكائنات، وحده من يدرك هذه الحقيقة، بما حباه الله من عقل وبصيرة. وما من إنسان، على ظهر البسيطة، منذ بدء الخليقة، إلا وله هدف يسعى إليه، مهتدياً بالعقل والبصيرة، أو منقاداً وراء الغريزة والفطرة. مسلَّمةٌ لا مراء فيها فيما يرى الفلاسفة والعلماء والمفكرون. ولسوف تختلف الأهداف والغايات باختلاف البشر، حسب الطموحات والقدرات والنوازع التي هي من مقومات الكينونة. من الناس من كان هدفه صغيراً ومحدوداً، لا يتجاوز شؤون العيش ومتطلبات البقاء، ومنهم من كان هدفه كبيراً وعظيماً بحجم قيادة أمة. والسعي في الحالة الأخيرة هذه، لابد أن يكون شاقاً مجهداً أكثر من سواه، مقتضياً من التضحيات ما هو بقدر عظمته وحجمه. وكثيراً ما تكون حياة المرء نفسها هي القربان. وليس شرطاً ألا تتحقق لهؤلاء أهدافهم دائماً، أو أن يتحقق بعضها دون بعضها الآخر. فمنهم من يبلغ به السعي ما أراد، ومنهم من يمتنع عليه ذلك. النتائج في سائر الأحوال لا تتوقف، بالضرورة، على جهد صاحب القضية نفسه أو إرادته أو رغبته. ذلك أن هنالك عوامل كثيرة أخرى معقدة، متداخلة ومتشابكة تلعب دورها في المسألة. كالظروف، والمحيط، والمجتمع، والبيئة وغيرها كثير. هذا فضلاً عما يملك الإنسان ذاته من المقومات والمكوِّنات الأساسية في مواصفاته. تلك جميعاً تهيئ أسباب النجاح أو تُعزى إليها أسباب الإخفاق. كما أن الأهداف نفسها تختلف في حدِّ ذاتها اختلافاً بيِّناً، باختلاف الساعين إليها، من جهة، واختلاف ماهيتها، من جهة أخرى. منها ما هو ذاتي شخصي، بمعنى نفعي، ومنها ما يتسم بالغيرية والتسامي فيرقى إلى ذروة من نكران الذات، من أجل مصلحة عليا أو مركز مرموق للأمة التي ينتمي إليها. وربما ـ في حالات خاصة جداً ـ إلى غاية أعلى شأناً، وأكثر شمولاً وعمومية من أجل خير الإنسان المطلق ومصلحة الإنسانية قاطبة. وهذه لعمري أسمى ما يمكن أن يرنو إليه الإنسان في أيِّ زمان وأيِّ مكان. وهذه كانت رسالة محمد عليه السلام.
الذين ينذرون أنفسهم من أجل غايات كهذه، قلة نادرة مصطفاة في سيرورة البشرية. هم مصلحون أو هم أنبياء. والأنبياء هم صفوة الخلق، يصطفيهم الله لكي يحملوا رسالاته إليهم، وإلا فأنَّى للإنسان أن يعرف، هكذا من تلقاء نفسه، أن للكون خالقاً، وأن عليه، من ثم، تبعات نحو ذلك الخالق، ثم حيال بني جنسه من البشر، وإزاء سائر المخلوقات؟ أنَّى له، كذلك معرفة المصير والمآل في نهاية المطاف وبعد انقضاء حياته على الأرض؟
منذ وجد الإنسان على هذه الأرض ما برح يتساءل عن مسألة الخلق هذه. كان يتلمس بفطرته، وفيما يجده في دخيلة نفسه من أشواق روحية، وأسئلة حائرة ما يدفعه إلى التوجه نحو قوة خفية غيبية أقوى منه، يحسُّ بحدسه، أو يدرك بثاقب بصره وبصيرته وفكره أنها موجودة، وأنها هي التي تتحكم في حياته ومصيره، وأنها هي المهيمنة على قوى الطبيعة وظاهراتها، من رياح وبحار وأنواء، من حيوان ونبات، من كواكب ونجوم وشمس وقمر، وسائر المخلوقات القريبة منه، والبعيدة عنه على حدٍّ سواء. ولأنه يرهب هذه القوة فهو يلجأ إليها ـ برغم عجزه عن إدراك كنهها وماهيتها ـ ملتمساً الحماية في كنفها من غوائل الطبيعة المخيفة، وغضبها المفزع. لجأ الإنسان من ثم، إلى عبادة صورٍ من ظواهرها وتجلياتها، في الشجر والحجر والنجوم والشمس والقمر، في مراحل تطوره جميعاً، إلى أن بعث الله الأنبياء والرسل على مراحل زمنية متفاوتة، وبين أقوام في بقاع من الأرض مختلفة، غالباً ما كانت في ربوعنا وديارنا.
كان الشرق ــ بلادنا تحديداً ــ مهداً لتلك الرسالات التي عرَّفت الإنسان بأن للكون خالقاً. وأنبأته بما هو كائن وبما سوف يكون. بأصله ومنشئه وخلقه، بالعقيدة والشريعة، بما هو خير وما هو شر، بالمآل والمصير، فكان الدين منقذاً للإنسان من حيرته، وحامياً له من فكرة العدم بعد الموت. وكان هذا باعثاً للأمل عنده في أن رحلته الدنيوية على هذه الأرض ليست عبثاً، وأن الحياة ها هنا ليست نهاية المطاف حين ينهيها الموت، أي أن المآل ليس ظلام القبر السرمدي. بهذا جاءت الرسالات السماوية جميعاً. وكان الإسلام آخرها مؤكداً لهذه الحقائق الأزلية في الكثير الكثير من آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول محمد بن عبد الله صلوات الله عليه وسلامه.
ولما كان موضوع كتابنا هو (القرآن ومحمد) عليه السلام، فإننا سوف نعالج مسألتين هما قوام الموضوع كله:
(1) الظاهرة القرآنية الفريدة التي تؤكد في فرادتها، ومفارقتها لسائر كلام البشر، بأن القرآن هو كلام الله،
(2) هل كان محمد باحثاً عن دور قيادي لأمة العرب، فانتحل صفة النبوة سبيلاً إلى تحقيق ذلك، كما زعم المرجفون والمشككون من أعداء الإسلام في مختلف العصور، أم أنه نبي تنزل عليه هذا القرآن؟
غني عن القول بأننا سوف لن نألو جهداً في السعي لأن يكون بحثنا علمياً وموضوعياً، ونكاد نقول حيادياً ـ في حدود الطاقة البشرية ـ كيلا نتهم بالغرضية، أو أننا نصدر فيما نعرض بناء على فكرة مسبقة نتبناها، على الرغم من يقيننا بصعوبة الحياد في هذا الشأن.
وقبل أن نجيب على السؤالين، وتمهيداً للبحث نعرض في الصفحات القليلة التالية، وباقتضاب شديد واقعة واحدة مما جرى بين محمد (عليه السلام) وقومه من قريش في بواكير الدعوة، كواحدة من معاركه الكثيرة، ترينا مقدار إيمانه وأمانته بالرسالة التي جاء يحملها إلى العالمين، وليس إلى قريش وحدها أو العرب دون غيرهم. كما سنرى في ثناياها مدى ترفعه ونزاهته وصموده أمام كل ما عرض عليه من مغريات، وما واجهه من مثبطات لكي يتخلى عما يدعوهم إليه.
(روي أن أشراف قريش اجتمعوا عند الكعبة ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه. فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك فأْتهم. فجاءهم رسول الله سريعاً، وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء، حتى جلس إليهم فقالوا له: يا محمد، إنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك، بذلنا لك من أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعْذر فيك)( ).
ماذا كان رد محمد عليه السلام على هذا العرض الذي كان من شأنه أن يبلغه أقصى أمانيه، ويحقق له سائر طموحاته وأحلامه، لو كان مبتغياً شيئاً من ذلك، وهو أقصى ما يسعى إليه عادة أيُّ طموح من أجل تحقيق مغانم دنيوية؟ ألم يكن حريّاً به أن يستجيب، على الفور، ليوفر على نفسه كل ما سيلقى فيما بعد من عنتٍ، وما سيواجه من مخاطر على مدى ما تبقى من سني حياته بعد ذلك، هو ومن معه من جانب، وقريش ومعظم قبائل عرب الجزيرة ويهودها، ثم دولتا الفرس والروم من جانب آخر؟
أجابهم (عليه السلام) بثقة مطلقة وببساطة متناهية ودونما تردد:
»ما بي ما تقولون. ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم. ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليَّ كتاباً، وأمرني أن أكون بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم«( ).
هل يصدق في أي منطق أن رجلاً يسعى إلى واحدة من هذه المزايا والمكاسب ـ ناهيك عن السعي إليها جميعاً ـ وقد يمضي جلَّ عمره دون بلوغها، ثم ها هي ذي تأتيه كلها دفعة واحدة، مشفوعة بالرجاء والإعزاز والتكريم، فيرفضها ذلك الرفض القاطع الذي لا يقبل مساومة، ولا يعتريه تردد أو ضعف أو وهن؟
ماذا يريد إذن؟ هل كان ينتظر أن يحقق ـ بطرق أخرى ـ أكثر من هذا المعروض عليه لو كان يملك من أمره شيئاً؟
ترى ماذا كان سيحدث لو أنه قال لهم (نعم..!)؟ كلمة واحدة.. لنتصور أنه قالها.. إذن لتغير مصير البشرية ومجرى التاريخ الإنساني كله.
لقد توقف مصير الدعوة كلها على كلمة واحدة تصدر عنه عليه السلام يومئذٍ. هذا بالمقياس البشري. فلو أنه قال (نعم) لما كان هناك إسلام ومسلمون على وجه الأرض. ولكنها رسالة الله التي أراد لها الظهور والانتشار في سائر الأرجاء، ليكون الإسلام، من بعد، أعظم انقلاب في تاريخ البشرية على كل ما سبقه، لخيرها في دنياها وآخرتها.
وحين توجه القوم إلى عمه أبي طالب يشكون إليه ابن أخيه ورفضه ما عرضوه عليه، ثم يطلبون إليه أن يواصل السعي لديه فلعله يستجيب إلى عمه فيما أخفقوا هم في دفعه إليه، فكان جوابه الذي طفق مدوياً في سمع التاريخ على مرّ الزمان:
»يا عم: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه«( ).
رفْضُ الشمس والقمر، تعبير كنائي بليغ، يقطع الطريق على أي أمل لهم أو محاولة منهم لترهيبه أو ترغيبه. وهو في الوقت عينه إعلان لهم عن استعداده لتقبل النتائج التي ستترتب على موقفه هذا. وهو ما حدث بالفعل فيما بعد. فلماذا إذن يركب محمد هذا المركب الصعب، لو كان هدفه مطلباً يندرج تحت بند الطموح الشخصي..؟
أكثر ما ساء قريشاً هو أن محمداً الذي لم يكن من بين أثريائهم وكبرائهم يدعي بأن الله اختصه بالرسالة. فلقد كان أمثال عمرو بن هشام (أبو جهل)، وأمية بن خلف، والوليد بن عتبة، وأبو سفيان يطمعون في أن تسند إليهم مهمة وجيهة كهذه يرون أنهم أولى بها. أما أن يحمل لواءها محمد الذي لم يسعَ إلى وجاهة أو غنى من قبل، فهذه سبة في حقهم..! من ثم نزلت على محمد عليه السلام آيات في هذه الحالة ترد عليهم:
وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (الزخرف:31-32)
هل كانت المسألة حسداً أم كانت استكباراً؟ أم كانت تشبثاً بما وجد القوم عليه آباءهم من عقيدة وإرث ثقافي أو عرفي؟ أم تراها كانت حرصاً منهم على مكانة حسبوا أنهم خاسروها؟
لعلها كانت ذلك كله؟
يقول وحيد الدين خان:
(إن السجل التاريخي الممتاز لحياة الرسول محمد قبل إعلان النبوة ليس له مثيل في العالم. ولم يسبق أن أحرز مثله أي شاعر أو فيلسوف أو مفكر أو كاتب)( ).
يقول الدكتور بورسورث سميث، رغم أنه من المستشرقين المعادين:
(عندما ألقي نظرة إجمالية أستعرض فيها صفاته وبطولاته، ما كان منها في بدء نبوته، وما حدث منها فيما بعد. وعندما أرى أصحابه الذين نفخ فيهم روح الحياة، وكم من البطولات المعجزة أحدثوا.. أجده أقدس الناس، وأعلاهم مرتبة، حتى إن الإنسانية لم تعرف له مثيلاً)( ).
لم يعرف الناس أحداً يبلغ به نكران الذات حدّاً يدفعه ـ مختاراً ـ إلى حرمان أسرته وذويه الأقربين من حقوق مشروعة، متاحة لغيرهم من الناس في كل مجتمع، ولكن محمداً عليه السلام فعل ذلك فأعلن على الملأ حتى بعد أن حقق الفتوحات وأنشأ دولة مترامية الأطراف قولته:
»نحن معشر الأنبياء لا نورث. ما تركناه صدقة«( ).
من الحقائق الثابتة أنه ما من شيء يؤرق الإنسان كما يؤرقه مصير أسرته من بعده خشية العوز والفاقة. فما معنى أن يحرم محمد أسرته حقوقاً طبيعية لها، متاح مثلها للكافة، لا ينكرها عليه أحد لو أنه ترك الأمر على سجيته. ناهيك عما جبل عليه الإنسان من حبّ للتملك، الأمر الذي يتنزه عنه رسول الله، طائعاً مختاراً، أو تلبية لتوجيه رباني.
وقد جاءت الوقائع، فيما بعد، مصدقة للحديث الشريف، ولموقفه عليه السلام من المسالة مع أثيرته فاطمة الزهراء، رضي الله عنها، في خلافها مع الخليفة أبي بكر. تقول الرواية:
(لما قُبِض النبي طلبت فاطمة ابنته إلى أبي بكر أن يردَّ عليها ما ترك من أرض بفدك وخيبر. لكن أبا بكر أجابها بقول أبيها »نحن معشر الأنبياء لا نورث..« ثم قال لها: فأما إن كان أبوك قد وهب لك هذا المال فإني أقبل كلمتك في ذلك وأنفذ ما أمر به. أجابت فاطمة بأن أباها لم يفض إليها بشيء من ذلك، وإنما أخبرتها (أم أيمن) بأن ذلك كان قصده. عند ذلك أصرَّ أبو بكر على استيفاء فدك وخيبر وردهما إلى بيت مال المسلمين).
(أم أيمن) هي التي روت عنها فاطمة ما قال النبي. ويبدو أن أبا بكر لم يشأ أن يأخذ بقول أم أيمن. وما كان في وسعه أن يرفض لو أن فاطمة روت ذلك عن النبي بنفسها.
فلننظر إلى هذه النزاهة التي عزَّ نظيرها. ألم يكن في وسعها، رضي الله عنها أن تحسم الموقف لصالحها بكلمة واحدة تنطق بها؟ كلا.. وحاشاها أن تفعل وهي ابنته صلوات الله عليه، وربيبته في مناقبه السامية العليا وخلقه العظيم.
ظاهرة أخرى جديرة بالالتفات إليها:
من خصائص النفس البشرية ألا يزهد الإنسان في مديح أو إطراء أو ثناء يتلقاه على منجزات تحققت على يديه. بل إن من الناس من يجنح به الغرور إلى التعالي والتفاخر والاستكبار بما أنجز. يحدث هذا حتى في حالات لا ترقى إلى مستوى يؤهل صاحبها لمثل ذلك. بيد أن محمداً خرج على هذه القاعدة. فنحن لا نجد في سيرته شيئاً من هذه السمات، حتى بعد أن حقق ما لم يُسبق إليه على صعيدي الدعوة والدولة. لم يصبه الغرور، ولم تتغير سيرة حياته في مسلكه وتعامله مع الناس والأحداث.
لو لم يكن نبياً لأصابه ما يصيب الناس، عادة في مثل هذه الأحوال، ولأضفى على نفسه ما شاء من أوصاف ومزايا ومناقب، وما كان لأحد أن ينكرها عليه، إذ هي حقائق لا مفتريات. بيد أنه ما كان لينقل للناس إلا ما يتنزل به الوحي قرآناً، وما يُلهم من ربه حديثاً ومسلكاً.
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى. وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (لنجم:1-4)
القرآن نفسه لم يحدثنا عن سيرة محمد (عليه السلام) في طفولته وصباه ـ سوى ذكر يتمه في سورة الضحى ـ كذكر أبويه، أو تفاصيل عن حياته قبل البعثة. بل إن ذكره بالاسم لم يرد في القرآن سوى خمس مرات في حين ذكر المسيح عيسى بن مريم خمساً وعشرين مرة، وأما موسى عليه السلام فقد جاء ذكره أكثر من ذلك بكثير، ليس من أجل التفضيل ولكن لاقتضاء المناسبة.
وهناك سورة لمريم ابنة عمران عليها السلام، وليست هناك سورة لآمنة بنت وهب أم الرسول أو أخرى لابنته الأثيرة فاطمة الزهراء. ولا جَرَم هنا أن نتساءل:
هل عرف الناس أحداً بينهم لا يرى في أمه خير النساء قاطبة. أو أن امرأة ــ كائنة من كانت ــ تَفْضُلَ أمَّه؟ فما بالنا إذا كانت المسألة تتعلق بطامح إلى الشهرة والظهور، ناهيك عن الزعامة والقيادة؟
ألا يدل هذا دلالة قاطعة على حقيقة مصدر النص؟
حتى سورة (محمد) ذاتها لم تتضمن شيئاً من سيرة حياته. وقد ورد اسم السورة فيها ـ بمناسبة التنزيل عليه:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (محمد:2)
كان يمكنه ـ لو كان هو صاحب النص كما يزعمون ـ أن يسهب في الحديث عن نفسه بما يزيد عما ورد عن الأنبياء والرسل الآخرين. وكيف يأتي بسورة عنوانها (محمد) ولا يتحدث فيها عن (محمد) بإسهاب واستفاضة؟ أليس هذا مما يخالف طبيعة الأشياء مما عرف عن نوازع النفس البشرية، على مر العصور، قديماً وحديثاً؟
ولماذا يهوِّن إنسان من شأن نفسه في عيون من يسعى إلى تزعمهم؟ أليس خليقاً به أن يعمل على ما يرفع من شأنه في أنظارهم لكي يتسنى له تحقيق مآربه؟ فها هي ذي آية تقول:
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ.. (آل عمران:144)
لماذا يعلن هذا على ملأ من قومه وغيرهم، إذا كان هو صاحب القول؟ ما النفع الذي قد يجنيه من وراء ذلك؟
كيف استطاع محمد عليه السلام أن يصنع أمة، وأن ينشئ حضارة تمتد، من بعده، كل هذا الزمن وفي شتى بقاع الأرض، لو كانت دعوة مفتراة، أو كانت نتاج العقل البشري المحدود والذي لا يمكنه ــ بطبيعة التكوين ــ الإحاطة بشتى شؤون الكون والحياة والإنسان. ناهيك عن أن يكون المضمون والمحتوى شرعة ومنهاجاً، بريئاً من الشوائب والأخطاء، سليماً صالحاً لكل زمان ومكان؟
وأين هو أي كتاب ظهر للناس لبث صالحاً لسائر الخلق على مدى خمسة عشر قرناً من الزمان، لم تبطل القرون كلها مضموناً لنصٍّ فيه سورة كانت أو آية؟
أين هو الإنسان القادر على ذلك إن لم يكن نبيّاً حاملاً لرسالة أنزلها عليه بارئ الخلق جميعاً؟
ألم تصبح الأمة التي أنشأها محمد أعظم أمة في التاريخ وأوسعها امتداداً في الزمان والمكان؟
وهل استطاع كل ما شرع في وجهها من خصومات وتحديات، من حروب وعداوات، لم تتوقف ولم تفتر في يوم من الأيام، أن يصل إلى مبتغاه في القضاء عليها أو إلغاء رسالتها.؟
لو أن ما تعرضت له هذه الأمة حلَّ بغيرها لما بقي لها وجود ولكان مآلها إلى الزوال والاندثار.
وإنا لنراها اليوم وفي عصرنا هذا الجبار، بكل ما يحفل به من منجزات العلم، وما يسوده من سيل دافق من النظريات والفلسفات والأيديولوجيات ناهيك عما يواجهها من شراسة الحق وضراوة العدوان، نراها تستأنف مسيرتها لاستعادة مكانها على مسرح التاريخ والأحداث على نحو يثير قلق أعدائها الكثر ممن هم ـــ بما يملكون من قوة مادية ــ أمسوا أرباب السطوة والنفوذ والبأس في عالم اليوم. وحسبنا أن نذكر من نظرياتهم الراهنة التي يستهدفون بها الإسلام تحديداً ما أطلق عليه (صراع الحضارات) و(نهاية التاريخ) لمواجهة ما أسموه (الصحوة الإسلامية) منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران بغية قتل هذه الصحوة في مهدها لو استطاعوا، إذ يبدو أنها أمست تقض مضاجعهم بسبب من جهلهم لمحتواها من جانب، والعداوة التي تأصلت لديهم على مدى القرون من جانب آخر.
لقد كانت رسالة محمد عليه السلام منذ بعثه شغل البشرية الشاغل على مدى الأحقاب، سواء من كان معها، منضوياً تحت لوائها، أو من كان ضدَّها مناوئاً لها. الذين حملوها وعملوا على نشرها، والذين عادوها ووقفوا في وجهها، الأمر الذي لم تعرفه دعوة أو نظرية أو أيديولوجية أخرى على رحابة هذا العالم في المكان وامتداده في الزمان.
* * *

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 05 / 07 / 2008, 51 : 06 PM   رقم المشاركة : [3]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: القرآن ومحمد .... لمؤلفه : د.يوسف جاد الحق

الفصل الأول / قبس من السيرة

[align=justify]
قبل البعثة
ولد محمد عليه السلام عام 570 ميلادية، عام الفيل، بمكة في دار جده عبد المطلب، الذي سماه محمداً. أرضعته حليمة السعدية حتى بلغ الخامسة من عمره. وفي سن السادسة خرجت به أمه آمنة بنت وهب إلى المدينة ليرى فيها أخوال جده من بني النجار، والبيت الذي مات أبوه عبد الله فيه وهو جنين، والمكان الذي دفن فيه، فكان ذلك أول معنى لليتم انطبع في نفس الصبي.
(ولما تمَّ مكثهم بيثرب شهراً اعتزمت آمنة العودة. فلما كانوا في أثناء الطريق مرضت آمنة بالأبواء وماتت ودفنت فيها. وعادت الجارية أمُّ أيمن بالطفل إلى مكة منتحباً وحيداً، يشعر بيتم ضاعفه القدر، فيزداد وحشة وألماً. وها هو قد رأى بعينيه أمه تذهب، كما ذهب أبوه من قبل لتدعه يحمل همَّ اليتم كاملاً.
(ولعل جوى هذه الذكرى كان يخفُّ بعض الشيء لو أن عبد المطلب عمّر أكثر مما عمر، لكنه مات في الثمانين من عمره ومحمد ما يزال في الثامنة. وحزن محمد لموت جده حزنه لموت أمه. كفله عمه أبو طالب فأحاطه بالعناية والحماية التي امتدت إلى ما بعد بعثته ورسالته، ودامت إلى أن مات عمه. وكان عمه، على فقره، الأنْبل والأكمل في قريش مكانة واحتراماً)( ).
وقد أحب أبو طالب ابن أخيه كحب عبد المطلب له، حتى إنه كان يقدمه على أبنائه. وكان يجد فيه من النجابة والذكاء والبرّ وطيب النفس ما يزيده به تعلقاً. ولقد أراد أن يخرج يوماً في تجارة له إلى الشام حين كان محمد في الثانية عشرة من عمره، استجابة لرغبة محمد في مصاحبة عمه.
صحب الغلام القافلة حتى بلغ بصرى في جنوب الشام. وتروي كتب السيرة( ) أنه التقى في هذه الرحلة بالراهب بحيرى، وأن الراهب رأى فيه إمارات النبوة على ما تدله عليه كتب النصرانية. وتذهب بعض الروايات إلى أن الراهب نصح أهله ألا يوغلوا به في بلاد الشام خوفاً عليه من يهود أن يعرفوا هذه الإمارات فينالوه بالأذى.
وأقام محمد مع عمه قانعاً بنصيبه، يقوم من الأمر بما يقوم به من هم في مثل سنه. فإذا جاءت الأشهر الحرم مكث بمكة مع أهله، أو خرج وإياهم إلى الأسواق المجاورة لها، بعكاظ ومجنَّة وذي المجاز يستمع لإنشاد أصحاب المعلقات والمذهبات، وتلتهم أذناه بلاغتهم في غزلهم وفخرهم وذكرهم أنسابهم ومغازيهم وكرمهم وفضلهم، ثم يعرض ذلك على بصيرته تلفِظ منه ما لا تسيغ وتعجب بما تراه جديراً بالإعجاب.
ومما زاده انصرافاً إلى التفكير والتأمل اشتغاله برعي الغنم سني صباه، تلك التي أتاحت له فسحة الجو الطلق أثناء النهار، وفي تلألؤ النجوم إذا جنَّ الليل موضعاً لتفكيره وتأمله يسبح معه في هذه العوالم، يبتغي أن يرى ما وراءها، ويلتمس في مظاهر الطبيعة تفسيراً لهذا الكون وخلقه.
بلغ عمه يوماً أن خديجة بنت خويلد تجهِّز لخروج تجارتها إلى الشام. وكانت خديجة من بني أسد، قد تزوجت مرتين في بني مخزوم مما جعلها من أوفر أهل مكة غنىً. وقد ردَّت خِطْبة الذين تقدموا إليها من كبار قريش، لأنها كانت تعتقد أنهم ينظرون إلى مالها.
(نادى أبو طالب ابن أخيه، وكان يومئذٍ في الخامسة والعشرين من عمره. وقال له: يا بن أخي. أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا، وقد استأجرت فلاناً، فهل لك أن أكلمها؟ قال محمد: ما أحببتَ. فخرج أبو طالب إليها. ثم عاد إلى ابن أخيه ليخبره بموافقتها، وهو يقول: هذا رزق ساقه الله إليك)( ).
استطاع محمد بأمانته ومقدرته أن يتَّجر بأموال خديجة تجارة أوفر ربحاً مما فعل غيره من قبل، واستطاع أن يكسب محبة ميسرة غلام خديجة، الذي روى لها عن محمد ورقة شمائله وجمال نفسه. أحبت خديجة محمداً وهي في الأربعين من عمرها. وكانت ردَّت من قبل أعظم رجالات قريش شرفاً ونسباً. ودَّت أن تتزوجه. أبلغته ذلك عن طريق صديقتها نفيسة بنت منبه. وتم الزواج. وهنا تبدأ صفحة جديدة من حياة محمد. تبدأ حياة الزوجية والأبوة: الزوجية الموفقة الهنيَّة من جانبه وجانب خديجة معاً.
ما أوردته كتب السيرة بإجماع عن حياة الرسول قبل البعثة تتفق شتى مصادره على أن محمداً بن عبد الله كان مثالياً في سلوكه لدى مجتمعه المكي القرشي، وسائر علاقاته مع أهله وعشيرته، وكل من صادفه أو التقى به. لم ينقل عنه خبر واحد خلاف ذلك. حتى الهفوات الهيِّنة والمآخذ الصغيرة التي قد لا تكون ذات بال، والتي قلما يخلو منها أحد، لم يشر إليها من أعدائه وخصومه الكثر، أو من متبعيه، أو أولئك الذين لا هم بين هؤلاء ولا هؤلاء، حتى يهود تلك الديار، الذين حرصوا على تسقُّط الأخبار، والتربص بعيون مفتوحة، علَّهم يفلحون في الإمساك بمثلبة أو شبهة، لم يستطيعوا أن يظفروا بطائل. وإذا كان اليهود قد عمدوا إلى الإساءة للدعوة بما ملكوا من أسباب وذرائع ـ مناوأة وتكبراً وإصراراً على كفرهم ـ فإنهم لم يستطيعوا الطعن في أخلاقه ومناقبه.
عرفت قريش محمداً بهذه الصفات أربعين سنة، إلى أن جاءها معلناً رسالته السماوية ونبوته، فتبادر إلى الذهن تساؤلات من قبيل:
هل يمكن لإنسان هذه صفاته على مدى عمر طويل عاشه بينهم أن ينقلب على من هم حوله، مرة واحدة، ورأساً على عقب فيتحول الصدق إلى كذب، والأمانة إلى خيانة، وإلى حد ادِّعاء النبوة..؟
ولماذا لا يطعن أحد في مسلكه وصدقه لو كان هناك ما يمكن أن يوفر سبباً للطعن والاتهام؟
صحيح أنهم لم يصّدقوا، ولكنهم لم يطعنوا في شخصه. وعدم تصديقهم كان حرصاً منهم على مصالحهم، ومكابرة وغروراً واستكباراً ليس إلا. ما الذي يدعو محمداً إذن إلى تعريض نفسه، نتيجة لإعلانه دعواه، وتبليغ رسالة ربه لاحتمال ما تعرض له فيما بعد؟


* * *

من الزواج إلى البعث
أقام محمد عليه الصلاة والسلام، وقد أغناه الله بزواج خديجة في ذروة من النسب، وسعة من المال، وأهل مكة جميعاً ينظرون إليه نظرة غبطة وإكبار. زاده ذلك تواضعاً على جمِّ تواضعه. كان حسن الإصغاء إلى محدِّثه لا يلوي عن أحد وجهه، قليل الكلام، كثير الإنصات، ميَّالاً للجد من القول. كان يكتم غيظه ولا يظهر غضبه، لما جبل عليه من سعة الصدر، وصدق الهمة والوفاء للناس. هذه الصفات مجتمعة فيه كانت ذات أثر عميق في كل من اتصل به، فمن رآه بديهة هابه، ومن خالطه أحبّه.
لم ينقطع محمد ــ قبيل البعثة ــ عن مخالطة أهل مكة، والأخذ معهم بنصيب في الحياة العامة، وكانوا يومئذٍ في شغل بما أصاب الكعبة بعد أن طغى عليها سيلٌ عظيمٌ انحدر من الجبل فصّدع جدرانها.
شرعت قريش ـ بعد تردُّدٍ وجدالٍ فيما بين قبائلها ـ في إعادة بناء الكعبة. فلما ارتفع البناء إلى قامة الرجل، وأن يوضع الحجر الأسود المقدَّس في مكانه من الجانب الشرقي. اختلفت قريش أيُّهم يكون له فخار وضع الحجر في هذا المكان، إلى أن كادت الحرب الأهلية تنشب بسببه، فلما رأى أبو أمية بن المغيرة المخزومي، ما صار إليه أمر القوم، وكان فيهم شريفاً مطاعاً، قال لهم: اجعلوا الحكمَ فيما بينكم أوَّل من يدخل من باب الصفا، فلما رأوا محمداً أول من دخل قالوا: هذا الأمين رضينا بحكمه، وقصّوا عليه قصتهم. رأى العداوة في عيونهم. فكَّر قليلاً ثم قال: هلُمَّ إليَّ بثوبٍ، فأُتيَ به، فنشره وأخذ الحجر فوضعه بيديه فيه، ثم قال: ليأخذ كبير كل قبيلة بطرف من الثوب، فحملوه جميعاً، إلى ما يحاذي موضع الحجر من البناء. ثم تناوله محمد ووضعه في موضعه. وبذلك انحسم الخلاف وانفضَّ الشرّ. وأتمَّت قريش بناء الكعبة. قال ابن اسحق:
كان ابن خمس وثلاثين سنة. وإن إسراع قريش ــ وفيها من فيها من كبار القوم ــ إلى الرضا بحكمه وتصرُّفه في مسالة الحجر، ما يدلُّ على ما كان له من مكانة سامية في نفوس أهل مكة، ومن تقدير جمّ، لما عرف عنه من سمو النفس ونزاهة القصد والخلق الرفيع.
عاش محمد حياة طمأنينة ودعة في هذه السنين من عمره. ولولا احتسابه ابنيه القاسم وعبد الله لكانت حياة رضية بمودَّة خديجة ووفائها. من ثم كان طبيعياً أن يترك محمد نفسه لسجيتها في التفكير والتأمل، وأن يكون أشدَّ من كل قومه تدبُّراً وتفكيراً. وهو لا يمكن أن يظل مطمئناً إلى ما غرق الناس فيه إلى الأذقان من ضلال، ولابد أن يلتمس في الكون أسباب الهدى. وهو مع توجُّهه إلى الناحية الروحية وشديد تعلقه بها، لم يكن يريد لنفسه أن يكون من طراز الكهَّان، ولا أراد أن ينصِّب نفسه حكيماً على نحو ما كان ورقة بن نوفل وأمثاله، إنما كان يريد الحق لنفسه، فكان لذلك كثير التفكير، طويل التأمل، قليل الإفضاء إلى غيره بما يجيش في نفسه من آثار تفكيره وتأمله. وكان يمكن أن يظلّ كذلك ما بقي من حياته لولا أن جاءه أمر ربّه.
وقد كان من عادة العرب، إذَّاك أن ينقطع مفكروهم للعبادة زمناً في كل عام يقضونه بعيداً عن الناس في خلوة، يتقربون إلى آلهتهم بالزهد والدعاء، ويلتمسون عندها الخير والحكمة. وكانوا يسمون هذا الانقطاع للعبادة التحنُّف أو التحنُّث. وكان من هؤلاء شعراء وخطباء كأمية بن أبي الصلت، وعديّ بن زيد، وقسّ بن ساعدة (وكان لهم مسحة خاصة في شعرهم وخطبهم، عليها طابع الدين ومتأثرة بتعاليم النصرانية تزهِّدُ في الدنيا وشؤونها، وتدعو إلى النظر في الكون والاعتبار بحوادثه)( ). وقد وجد محمد في مثل هذا الانقطاع خير ما يمكِّنه من الإمعان فيما شغلت به نفسه من تفكير وتأمُّل. كما وجد فيه طمأنينة، وشوقه إلى نشدان المعرفة واستلهام ما في الكون من أسبابها. وكان بأعلى جبل حراء ـ قريباً من مكة نحو ثلاثة أميال منها غارٌ اتخذه مكاناً للانقطاع والتحنُّث، فكان يذهب إليه طوال شهر رمضان من كل سنة، يقيم به مكتفياً بالقليل من الزاد يُحمل إليه، ممعناً في التأمل، ملتمساً الحق والحقيقة العليا، حتى إنه كان ينسى نفسه وطعامه وكل ما في الحياة. لأن هذا الذي يرى في حياة الناس ليس حقّاً. فما لهذه الأصنام التي لا تضرُّ ولا تنفع، ولا تخلق ولا ترزق ولا تدفع عن أحد غائلة شرٍّ تصيبه. هبل واللات والعزى القائمة في جوف الكعبة لم تخلق يوماً ذبابة، ولا جاءت مكة بخير فكيف يعبدونها؟
وهذه الحياة التي نحيا اليوم فتنقضي غداً ما أصلها وما مصدرها وما هو منتهاها؟ وهذه الأرض أمصادفة وجدت؟ والشمس والقمر والكواكب والنجوم، وما يأتي الناس من خير أو شر، أفيأتونه طواعية واختياراً..؟ في هذا ومثله كان يفكر محمد أثناء تعبده في غار حراء، فإذا انقضى شهر رمضان عاد إلى خديجة، ومازالت التساؤلات والتفكير في شؤون هذا الكون قائماً يملأ فكره وقلبه. وبعد سنوات شغلت أثناءها هذه الحقائق العليا نفسه، صار يرى في نومه الرؤيا الصادقة، ويرى معها باطل الحياة، وغرور زخرفها، إذَّاك أيقن أن قومه قد ضلّوا سبيل الهدى، إذ يعبدون الأصنام من دون الله.
وشارف محمد الأربعين، فتوجه إلى غار حراء يتحنَّث وقد امتلأت نفسه إيماناً بما رأى في رؤاه الصادقة. وقد خلصت نفسه من الباطل كله، وقد اتجه بقلبه إلى الحقيقة الخالدة، إلى الله بأن يهدي قومه بعد أن ضربوا في بيداء الضلال.
ولكنه لم يدُرْ في خَلَده، على الإطلاق، أن يدعوهم إلى شيء مما آمن به. كان يفكر لنفسه، ويبحث عن الحقيقة لتشوُّقه إليها، إلى أن جاءه الوحي على غير توقع منه، ربما أو انتظار.
ما هي المظاهر الخارجية التي تؤيد كون محمد (صلى الله عليه وسلم) نبيّاً حقّاً؟ وما هي الخصائص والميزات التي اجتمعت فيه ولا نجد لها تفسيراً إلا إذا قلنا إنه كان نبيّاً. وهنا لابد من مقياسين لاختبار الأنبياء:
أولاً: أن يكون رجلاً مثالياً بصورة غير عادية، فإن الذي يُصطفى ليكون (رسول الله)، وليكشف للإنسان كنه الحياة بأسرها. لابد أن يكون أسمى في النوع الإنساني، تتجسد فيه مثل الحياة العليا. فإذا كانت حياته الذاتية متجلية فيها هذه الصفات فذلك أنصع دليل على ما يقول. فهل يستقيم عقلاً صاحب دعوى باطلة مع صاحب سمات كهذه؟
ثانياً: أن يكون كلامه، ورسالته حافلين بمعاني وخصائص يتعذّر توفرها لدى إنسان عادي كسائر الناس. كما أنها لا تؤمل ولا ترتجى إلا ممن ظفر بمعرفة إله الكون، فلا يتسنى ـ والحالة هذه ـ للعامة محاكاة ما جاء به من وحي الله.
(لقد شهد التاريخ والمجتمع الإنساني أن محمداً (صلى الله عليه وسلم) كان يتمتع بسيرة غير عادية. وإذا كان يمكن للمتعصبين إنكار أية حقيقة فإن الذي لا يشكو من داء التعصب، ويهيئ عقله لمطالعة الحقائق بقلب مفتوح واعٍ، فإنه سوف يسلِّم، بعد دراسته، بأن حياة محمد كانت أرقى وأعظم حياة شهدها البشر)( ).
ويضيف وحيد الدين خان، في مكان آخر:
(إن المثل الأعلى الذي ضربه النبي في حياته من الأخلاق العالية والزهد في الأموال والملذات شيء لا مثيل له في التاريخ. لقد كان تاجراً ناجحاً في مكة. وكانت زوجه السيدة خديجة من أثرى نساء العرب. ولكن ثراء زوجته وتجارته ذهبا في سبيل الدعوة. وهو ما عانى كل ما عانى إلا لأجل دعوته. لقد كان من الممكن أن يعيش حياة أخرى، تختلف كل الاختلاف عن تلك الحياة البائسة التي عاشها في سبيل رسالته. ولقد عرضت عليه حين كان بمكة عروض مغرية تكفل له العيش الرضيّ والمجد السنيّ (المال والجاه والملك) ولكنه أبى)( ).


* * *

بعد البعثة
غادر محمد حياة الدعة والسلام، والعيش الهادئ الهنيء في كنف زوجه الودود، ومع عزلته التأملية، وأفكاره وخيالاته المحلقة في رحاب الكون وخالقه، والحياة وبارئها. فقد حان وقت العمل.
حياة جديدة سوف يقودها ما بقي له من عمر. مكرِّساً نفسه، بكل ما وهبه الله لحمل أشرف رسالة أنزلت للبشر. ولعله هو نفسه لم يكن يخطر له ببالٍ من قبل أنه سوف يكون نبيّاً ورسولاً للعالمين. كان الوحي الذي هبط عليه طارئاً ومفاجئاً. يكفي أنه يرى ملاكاً رأي العين، الأمر المذهل والمخيف لأشجع الرجال وأرجح العقول. ليتصور أحدنا ماذا يمكن أن يحلَّ به من خوف وهلع لو رأى ما رأى محمد عليه السلام، لو ألفى أمامه بغتة، كائناً غريب التكوين، ليس من جنس البشر، ينظر إليه ويُسمعه صوته، مخاطباً إياه بكلام غير مألوف على الإطلاق عنده أو عند قومه، يطلب إليه ما لا يقل غرابة عما يرى. أن يقرأ، وهو يعرف عن نفسه أنه لا يقرأ ولا يكتب. لم تسعفه عند ذلك رباطة جأشه، إذ كان ما يرى وما يسمع فوق طاقة بشر، فالبشر لم يخلقوا مؤهلين (فيزيولوجياً) لمثل ذلك، فارتجف خوفاً وهو يرى إلى ذلك الكائن أمامه في آفاق السماء جميعاً كلما حاول أن يصرف وجهه وبصره عما يرى. هرع إلى خديجة وهو يضطرب خوفاً، ويردد فور دخوله عليها: زملوني زملوني.. فانتقل الروع إليها مما شاهدت من حاله، بيد أنها تماسكت وتمالكت نفسها. وكان من أمرها ما كان، مما تركه رد فعلها من أثر في نفس محمد عليه السلام، ومن عون في قيامه بعبء ما كلفه به ربه. ولكي ندرك أهمية موقف خديجة هذا علينا أن نتذكر أن ما جاءها به زوجها لم يكن أمراً عادياً ومألوفاً، وإنما كان مذْهلاً وخارقاً قد يُعذر المرء في إحجامه عن تصديقه لغرابته. لكنه زوجها محمد الذي عرفته الصادق الأمين الوفي، فكيف لا تصدقه مهما كانت غرابة ما حمل إليها من نبأ؟
صحيح أن محمداً لم يكن بعيداً عن التفكير في أسرار الخلق وروح الكون، لكنه لم يتصور أبداً مثل هذا الاحتمال. هذه، على الأقل، ظواهر الأمور. أما دواخلها وأسرار ما بين محمد وربه فعلم ذلك عند علاَّم الغيوب.
هبَّ محمد عليه الصلاة والسلام يشقُّ الطريق ويواجه الخصوم لنشر دعوته التي حملها. وكان في هذا الصدد فريداً في مضماره بين الرسل، من نجح منهم ومن أخفق في حمل قومه على الهدى وتقبل الرسالة. كانوا يحملونها دعوة تتمثل في الحوار والجدال والنقاش، وتقديم البيِّنات، وربما المعجزات والخوارق، والرد على الجفاة، وتبيين خطل الرأي واعوجاج السلوك، وما إلى ذلك من قضايا مرَّ بها الرسل والأنبياء، في مواجهات أقوامهم، لكنَّ أيّاً منهم لم يخض مع أولئك المناوئين حروباً وصراعات على مستوى الجيوش والسرايا المقاتلة.
محمد عليه السلام كان الوحيد من بين الرسل من حمل، إلى جانب القول والبيان والتنزيل، السلاح أيضاً حماية للدعوة حين جوبهت بالسلاح. فقاتل، وواجه، وخاض المعارك بنفسه مع أتباعه وأصحابه والمؤمنين بدعوته. حارب قريش في جبروتها، وجفاة العرب في الجزيرة، أو لنقل من وقف منهم في وجه الدعوة ليحول بينها وبين عامة الناس. كما خرج عن هذا النطاق ـ على اتساعه ومداه ـ إلى الصدام ثم الحروب الضارية مع أعظم دولتين وأقواهما في ذلك الزمان، إمبراطوريتي الفرس والروم، وما أدراك ما هما في ذلك الزمن. كان الوحيد ــ بين الأنبياء ــ الذي فتح بلاداً، وهدى أقواماً، ووَّطد رسالة، وخلَّف تراثاً حضارياً بقي على الأيام، وكوَّن أمة بعد أن رفع من شأنها وأخرجها من الوثنية إلى الإيمان بالله، قامت على رقعة شاسعة من كوكبنا، وامتدت على الزمن طوال القرون التي انقضت منذ بعثته، وتواصلت حتى يومنا، وستظل حية حاملة رسالة الحق والإيمان ما بقي على الأرض الإنسان.
حدث هذا كله حين جاء العالم بقرآن مجيد كان المحرك والباعث والمحقق لكل ما أنف ذكره من إنجاز.
قد يخطر لبعضهم أن يذكر مواجهة موسى نبي الله لفرعون، ومواجهة عيسى عليه السلام يهود عصره وولاة روما، من قبيل المقارنة. لاريب أننا أبعد ما نكون عن الاستهانة أو التهوين لما قاما به وما لقياه من عنت، وما واجهاه من تعصُّب، في صراعهما مع قوى طاغية باغية. يحمل أحدهما ـ موسى عليه السلام ـ إلى فرعون المتجبر المتألِّه التوراة فيها نور وهداية، ويحمل ثانيهما ـ عيسى عليه السلام ـ إلى بني إسرائيل، أشرس الخلق وأكثرهم ضلالاً في ظل حكمٍ روماني قاسٍ متجبر لا يرحم، الإنجيل كتاب الله ونوراً منه. إلا أنهما ــ مع ذلك ــ لم يتعرّضا لمثل ما تعرَّض له محمد. ولم يواجها مواجهته. وكان ذلك تدبير الله، وتبعاً للظروف والأحوال التي أحاطت في عصريهما المختلفين ثم عصر محمد عليه السلام.
صحيح أن النبي موسى عليه السلام وأخاه هارون ذهبا إلى فرعون الذي طغى، يحاولان هدايته، لكن فرعون أبى واستكبر، وعلا في الأرض. ثم كان ما كان من أمره الذي أفضى في نهاية المطاف إلى خروج موسى من مصر، هرباً بقومه من وجه فرعون وطغيانه. لم تحدث مواجهة ولا وقع قتال. تكفّل الله سبحانه بإهلاك فرعون وجنوده. ونجَّى موسى ومن معه. لكن هؤلاء ــ قوم موسى ــ نقضوا العهد، واتخذوا لهم عجلاً له خوار يعبدونه في غيبة موسى عنهم متوجهاً إلى حيث أمره ودعاه ربه، لتلقي الألواح من أجل هدايتهم. تاهوا في أرض الله أربعين سنة. ثم عادوا إلى ضلالهم، ولبثوا بعد ذلك مصدراً للشرور، وموئلاً للإجرام في حق البشرية جمعاء، منذ ثلاثة آلاف وخمسمائة من الأعوام، أو نحوها حتى يومنا الراهن.
صحيح كذلك أن المسيح عيسى بن مريم واجه ولاة الرومان. كما واجه فرِّيسي اليهود وكهنتهم وأحبارهم، وكان هؤلاء قساة جبارين، كالرومان أنفسهم، إن لم يكن أشد. دعاهم لمدة أعوام قليلة حاملاً إليهم رسالة المحبة والسلام، داعياً إلى الله ومعه (الإنجيل) كتابه. لم يحمل في وجوههم سلاحاً. لم يدع إلى عصيان أو قتال، بل عالج المريض، وأبرأ الأكمه، وأحيا الميت. لم يعجبهم ذلك، بطبيعة الحال. من ثم تربَّصوا به، وتآمروا عليه لدى الأجنبيِّ عنهم وعنه، إلى أن تمكَّنوا منه، وعملوا على إخراجه من الحياة (صلباً) كما ارتأوا وحسبوا، وشبه لهم، و(رفعاً) إلى السماء كما شاء الله وليُّه ومولاه.
حقٌّ ذلك كله، بيد أن ما عاناه محمد عليه السلام، على مستويات مختلفة من العداء والمواجهة، إلى جانب المدى الزمني الطويل الذي عاشه في خضم حرب ضروس، لم يهدأ لها أوار، منذ بدء التنزيل وحتى ختامه. كان فريداً في بابه بين حملة الرسالات جميعاً.
حسب (محمد)، بعد البعثة، هذا النور الذي أشرق على العباد، وعمّ سائر الأرجاء على يديه. فكان خاتم الرسل والأنبياء. بقيت رسالته وستبقى إلى يوم الدين، كوعد رب العالمين، بأن »يظهره على الدين كله ولو كره الكافرون«. ولكي تبْقى »كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى ولو كره المشركون«. هؤلاء وأولئك ــ إسرائيل وأمريكا وآخرين ــ ممن خرجوا حتى على دياناتهم نفسها: التوراة الداعية إلى العدل، والمسيحية السمحة الداعية إلى السلام.
أيُّ نكران للذات؟ لم يجن (محمد) مالاً، ولم يسعَ إلى مكسب مادي دنيوي. وحتى أسرته تركها لم يخلِّف لها إرثاً، حين أوصى بأن (الأنبياء لا يورثون) كما سلفت الإشارة.
حتى ما هو حق طبيعي لسائر الناس لم يمنحهم إياه، إمعاناً في الطهارة والنقاء الأمر الذي لم يعهد مثله في تاريخ البشرية قديماً وحديثاً.
لم يكن له من مطلب شخصي عند إتمام رسالته بشهادة القرآن:
..الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً.. (المائدة:3)
أهذا كل ما هنالك بعد سني العناء والشقاء الطويلة القاسية، والحياة الحافلة بالجهاد في سبيل الله لنشر دينه الذي ارتضى لهم؟
ــ بلى..
مطلبه الوحيد كان المودة في القربى.. ولا شيء غير ذلك لقاء ما جاءهم به:
.. قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى .. (الشورى:23)


* * *


أسلوب القرآن في البدايات
أول ما تنزل على الرسول عليه السلام السور القصيرة بآياتها القصيرة أيضاً، فلا تتجاوز السورة السطر أو السطرين، داعية إلى عقيدة التوحيد، إلى معرفة الله أولاً وقبل كل شيء واحداً أحداً. والإقرار بأنه خالق السموات والأرض وما بينهما، والشمس والقمر والنجوم والكواكب وما في الأرض من بشر وشجر وخلائق. وآيات فيها التحذير والنذير من عذاب النار، والترغيب والتبشير بنعيم الجنة وروحها وريحانها، في كليهما: أهوال تلك ونعيم هذه. وآيات تؤكد صدق الرسول ومصدر القرآن. وآيات تدعو إلى النظر في آيات الله في خلقه، وآلائه ونعمائه عليهم، التي لا تحصى ولا تعد.
كانت الآيات في أسلوبها قصيرة صاعقة، أشبه بالبلاغ الزاجر، من ناحية، والبشير المطامن، من ناحية، مما يلقي في النفس الرهبة والروع ثم الطمأنينة، فقريش، سيدة الفصاحة، لم يسبق لها أن استمعت إلى كلام مثير على هذا القدر من التأثير الذي يتوعدهم بما ترتجف له أوصالهم إذا ما لبثوا على كفرهم، كقوله تعالى:
يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ. وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ. وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً. يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ. وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ. وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ. وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ. كَلَّا إِنَّهَا لَظَى. نَزَّاعَةً لِلشَّوَى. تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى. وَجَمَعَ فَأَوْعَى (المعارج:8-18)
وقوله في سورة الحاقة:
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ. فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ. إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ. فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ. قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ. وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ. يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ. مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ. هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ. خُذُوهُ فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ. ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ. إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ. وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ. فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ. وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ. لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (الحاقة:18-37)
وفي سورة أخرى:
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ. يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ. تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ. أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (عبس:33-42)
وفي سورة أخرى:
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ. حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ. كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ. لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ. ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ. ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (التكاثر:1-8)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ. فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ. إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ. فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ. قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (الحاقة:18-24)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (الأحقاف:13-14)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (الرعد:35)
كلام لم يسمعوا مثله من قبل، مفردات وجملاً، صياغة وجرساً وإيقاعاً، وبلاغة، ناهيك عن محتواه ومضمونه، يأتي به إليهم محمد الأمي بغتة، وبعد أن لبث بين أظهرهم أربعين سنة منذ مولده. من أين انبثق هذا كله فجأة؟ ولماذا لم ينطق بكلمة أو عبارة مماثلة من قبل. وليس في لغته وكلامه الذي ألفوه منه بينهم فيما مضى شيء من هذا؟ كيف تأتَّى له؟.
وهو فوق ذلك يبلغهم بأن هذا ما سيلاقيه واحدهم فور تخطيه عتبة الحياة إلى الدار الآخرة. فإما نعيمٌ مقيم وإما سعيرُ جهنم. وهذا جديد عليهم تماماً لغة ومضموناً مما يثير فيهم الحيرة ويدعوهم إلى التساؤل وإعمال الفكر والتدبر.
(وقد حدا هذا بأشد قريش خصومة أن يسألوا أنفسهم: أحقّاً أنه يدعو إلى الدين القيِّم، وأن ما يعدهم وما ينذرهم هو الصحيح؟ خرج أبو سفيان بن حرب وأبو جهل بن هشام والأخنس بن شريق ليلة ليستمعوا إلى محمد وهو في بيته. فأخذ كل منهم مجلساً يستمع فيه وكلٌّ منهم لا يعلم بمكان صاحبه. وكان محمد يقوم الليل إلا قليلاً يرتل القرآن في هدوء وسكينة. ويردد بصوته العذب آياته القدسية على أوتار سمعه وقلبه. فلما كان الفجر تفرق المستمعون عائدين إلى منازلهم، فجمعهم الطريق، فتلاوموا وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأضعف ذلك من أمركم ولنصر محمداً عليكم)( ). وتكرر ذلك ثلاث ليال متتالية (ولما أدركوا ما بهم لدعوة محمد من ضعف تعاهدوا ألا يعودوا لمثل فعلتهم، وإن ترك ما سمعوا من محمد في نفوسهم أثراً جعلهم يتساءلون فيما بينهم عن الرأي فيما سمعوا، وكل يخشى أن يضعف وهو سيد قومه فيضعف قومه ويتابعوا محمداً معه)( ).
كان الحسد والتنافس والتنازع على الوجاهة والمكانة والمصلحة موانع أمام كبراء قريش عن متابعة محمد (عليه السلام). كل من زاويته وموضعه. فأمية بن أي الصلت لم يرض أن يتابع من ظن أنه أولى منه بسبب من غلبة الحكمة على شعره. ولكنه أدرك أن شعره لا شيء بالقياس إلى ما يجيء به محمد. أما الآخرون كأبي جهل عمرو بن هشام وكأبي سفيان والوليد بن المغيرة وأبي مسعود بين عمير الثقفي فلأسباب أخرى. فهذا الوليد بن المغيرة يقول: (أينزل على محمد وأترك أنا كبير قريش وسيدها ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير سيد ثقيف ونحن عظيما القريتين) وإلى هذا يشير قوله تعالى:
وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.. (الزخرف:32)
ألم يكن حرياً بهما بعد أن استمعا إلى هاتين الآيتين في حقهما أن يقرا صاغرين بأنه من عند الله. فمن أدرى محمداً بما حدث وبما تفوها به، وهما اللذان تواصيا مع آخرين أن يتكتموا على أخبارهم. ألم يدركا أن من أنبأ محمداً نبأهما هو الله العزيز العليم؟
أما ما كان من الأخنس ومن أبي جهل فقد ذهب الأول إلى الآخر في بيته يسأله (يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعنا من محمد؟) فكان جواب أبي جهل: (ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الرُّكب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبيّ يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه)( ).

فتور الوحي
مواقف عصيبة كثيرة مرت بالرسول عليه السلام إبَّان دعوته الناس إلى الإسلام، تركت في نفسه الكثير من الضيق والألم والحزن. منها موت زوجه خديجة التي صدقته حين كذَّبه الناس، والتي كانت له خير سند وأقوى معين، وظلت كذلك حتى انتقالها إلى الرفيق الأعلى، راضية مرضية. كذلك كان موت عمه أبي طالب الذي كان شديد الحدب عليه، مدافعاً عنه أمام الخصوم، دافعاً عنه أذى قريش حتى وهو لم يسلم. ولكن كانت هنالك، فضلاً عما سلف، مسألتان من أشد ما مرّ به عليه السلام وقعاً على نفسه. إحداهما لها علاقة بالوحي، والثانية مواقف بعض مناوئي الدعوة منه.
بعد أن أبلغ الرسول عليه السلام من جبريل عليه السلام بأمر الرسالة، وبعد أن شرع في إبلاغ قريش بأن الله اختاره نبيّاً ورسولاً. وما كان بعد ذلك من لقائه ورقة بن نوفل، والموقف المعادي للقرشيين لدعوته، انقطع عنه الوحي لأمد، فلم يعد جبريل يتنزل عليه، وهو الذي ينتظر دعوته لكي يهديه في أمر الرسالة التي كلف بحملها. وطال انتظاره حتى أن خديجة نفسها عليها السلام قالت له في معرض الحرص والخشية: ما أرى ربك إلا قد قلاك، وتولاه الوجل والخوف، عاد إلى حراء من جديد، وهو يتساءل: لم قلاه ربه بعد أن اصطفاه. وفيما هو كذلك، وإذ بالوحي يجيء بعد فتوره الطويل، متنزلاً بسورة الضحى مبتدئة بقسم إلهي عظيم من ربه:
وَالضُّحَى. وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (الضحى:1-2)
ثم بإعلانه:
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى. وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولَى (الضحى:3-4)
ثم وعد بعطاء غير محدود،
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (الضحى:5)
ثم تذكير له بما مضى من حياته. اليتم، وشظف العيش، ومعاناته طفلاً، وما كان عليه من تيه وبعد عن الهداية إلى الحقيقة قبل أن يبلغ أمر ربه، يبحث هنا وهناك عن الحق والحقيقة.. ما وراء الحياة، ومن هو صانع الكون وخالق كل شيء.
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى. وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى. وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى. فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ. وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ. وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (الضحى:6-11)
انجابت مخاوفه، واطمأنت نفسه الحيرى إلى رضى ربه عنه، وغمرته الفرحة الطاغية، على الرغم من معرفته بما سوف يلقى من عنت القوم وصدِّهم.
يخطر هنا السؤال:
لماذا لم يعمد محمد إلى تأليف آيات من عنده يقدمها للناس في هذا الوقت إبان الانقطاع إذا كان هو الذي يؤلف، لاسيما وأن الفترة التي فتر فيها الوحي عنه امتدت إلى ما يزيد عن سنتين، كما تقول كتب السيرة؟ وأين ذهب الملقنون والمعلمون عنه في هذه الأثناء؟ ثم ماذا حدث لكي يعودوا إليه من جديد؟ هل سويت الأمور بينه وبينهم وعلى أي أساس؟ وهل بقي ذلك سراً خفيّاً على الجميع لا يعلم به أحد سواء في حياته أو بعد وفاته؟!!
* * *

موقف ثقيف وإساءات قريش
أما الموقف العصيب الآخر فقد كان يوم دعته مناوأة قريش وإسرافها في أذاه لأن يتوجه إلى الطائف، ملتمساً نصرة ثقيف، راجياً إسلامهم، بيد أنه لم يجد عند هؤلاء إلا ما هو أسوأ مما وجده عند قريش. فهم لم يكتفوا برفض الدعوة بل مضوا إلى أبعد من ذلك، فأغروا به سفهاءهم. مضى عنهم عائداً أدراجه إلى مكة. جلس ـ في طريقه ـ إلى حائط في ظل شجرة عنب. وكان صاحبا الكرم عتبة وشيبة ابنا ربيعة يرقبانه. بلغت به شدة الكرب أن شرع يناجي ربه، رافعاً رأسه إلى السماء ضارعاً يقول:
((اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين. أنت رب المستضعفين وأنت ربي. إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني أو عدو ملكته أمري. إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحلّ عليّ سخطك. لك العتبى حتى ترضى. ولا حول ولا قوة إلا بك)).
أشفق ابنا ربيعة عليه وهما يرقبانه، فبعثا إليه غلامهما النصراني عدّاساً يقطف من عنب كرمهما. وقبل أن يتناول حبة من العنب قال: باسم الله. دهش الغلام وقال: هذا كلام لا يقوله أهل هذه البلاد. سأله محمد عليه السلام عن دينه وبلده. فأنبأه هذا بأنه نصراني من نينوى. فعرفه النبي بنفسه نبياً، فأكب عداس على محمد عليه السلام يقبل رأسه ويديه. إلى آخر ما ورد من هذه القصة في كتب السيرة بإجماع.
كان يزيد من همومه، في هذه الأثناء، ما يتعرَّض له أنصاره من الفقراء والمستضعفين والعبيد من عذاب وقهر، على أيدي طغاة قريش، أمثال أمية بن خلف والوليد بن المغيرة وعمرو بن هشام (أبو جهل).
كان الرسول يرى بلالاً الحبشي، وياسر وزوجه أم عمار (سمية) وعماراً وغيرهم يسامون سوء العذاب. ولا يستطيع أن يصنع لهم شيئاً. بل إن منهم من قضى نحبه لما تعرَّض له من تعذيب. من هؤلاء سمية وقد طعنها أبو جهل بحربة فكانت أول شهيدة في الإسلام. ثم زوجها من بعدها. أما (بلال) فكانوا يلبسونه الحديد برمضاء مكة لكي يشرك لكنه يأبى ويردد قوله: أحد.. أحد. برغم ما هو فيه إلى أن أعتقه أبو بكر مقابل فدية تقاضاها سيده أمية( ). كان يمر بهم رسول الله فيحترق ألماً وحزناً ولا يملك إلا أن يحثهم على الصبر. من ذلك قوله لآل ياسر: ((صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)) ( ).
ألم يكن محمد في غنى عن هذا لو أنه رضي بما عرض القوم عليه من قبل. ما الذي يلجئه إلى هذه المواقف العصيبة؟ ألم يكن أسهل عليه لو أنه أظهر لهم شيئاً من الليونة أو الحيلة متظاهراً بالعودة عما دعاهم إليه؟ وكانوا بالقطع سوف يرضون بأقل من ذلك. لم يفعل وهو نبي الله ورسوله.
وحسبنا أن نأتي بلمحات عن إسلام عدد من كبار رجالات قريش ـ كما ثبت فيما بعد ـ وهم ممن لا يمكن لمدقق منصف أن يتهمهم بالسذاجة، أو سهولة الانقياد لأمر لم تتولد لديهم القناعة اليقينية به.
* * *

إسلام علي بن أبي طالب
كان يقيم مع الرسول عليه السلام والسيدة خديجة وبناتهما، ابن عمه علي بن أبي طالب، الذي كان صبيّاً لم يبلغ الحلم. ذلك أن محمداً عليه السلام رأى أن يخفف عن عمه أبي طالب بسبب كثرة عياله بالتكفل بعلي، في حين تكفل عمه العباس بأخي علي جعفر بن أبي طالب.
وفيما محمد وخديجة يصليان يوماً دخل عليهما عليٌّ الغلام، فرآهما يركعان ويسجدان ويتلوان مما أوحاه الله من القرآن. وقف الغلام دهشاً حتى فرغا من صلاتهما. ثم سألهما: لمن تسجدان؟ فأجابه عليه السلام: إنما نسجد لله الذي بعثني نبياً وأمرني أن أدعو الناس إليه. ودعا محمد عليّاً ابن عمه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى دينه الذي بعث به، وإلى إنكار الأصنام كاللات والعزَّى. وتلا محمد ما تيَّسر من القرآن، مما أسر لب عليّ وقلبه بجماله وإعجازه بما فطر عليه عليّ من موهبة مبكرة في البلاغة والفصاحة، فهو أفصح الناس بعد رسول الله ـ كما يتبين فيما بعد ـ. استمهل عليٌّ ابن عمه حتى يشاور أباه. لكنه قضى ليله مضطرباً مفكراً، حتى إذا أصبح أعلن إليهما أنه ليس في حاجة لرأي أبيه قائلاً: (لقد خلقني الله من غير أن يشاور أبا طالب، فما حاجتي أنا إلى مشاورته لأعبد الله) فكان عليّاً أول صبي أسلم. ومن بعده أسلم زيد بن حارثة مولى النبي. وبذلك بقي الإسلام محصوراً في بيت محمد: زوجته وابن عمه ومولاه( ).
أليس في هذه القصة ما يؤكد صدق صاحب الدعوة. صحيح أن علياً كان صبياً لما يبلغ الحلم، ولكنه كان منذ صباه ثاقب النظر، ذكي العقل والفؤاد. والأهمية هنا تأتي من كونه كان يعايشهما (محمداً وخديجة) معاً تحت سقف واحد. فهو أعرف الناس بهما وأشدهم تأثراً بما انطويا عليه من صدق ومحبة. من ثم كانت استجابته السريعة تلك. وكان منه ما كان في قادم الأيام من حسن بلاء وصدق ووفاء لابن عمه رسول الله. كان خير عون له في سائر مراحل الدعوة، لاسيما في خوض غمار الحروب والغزوات التي لم يتخلف عن أيٍّ منها، وكان المجلِّي فيها دائماً الذي لم يعرف الهزيمة أبداً، وما من معركة أو مبارزة إلا وكان المبادر المنتصر فيها على الدوام. أما من ناحية العلم والخلق فكان المثال الرائع المحتذى، حتى لقد قال فيه عليه السلام الكثير، ومنه قوله: ((أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها)). رضي الله عنه وأرضاه وآل البيت أجمعين.
لم يعرف عن عليِّ (رضي الله عنه) منذ صباه الباكر، وعلى مدى حياته كلها، الجنوح إلى حياة دعة أو راحة أو هدوء. لقد ضحى عن طواعية ورضى، بكل ما يمكن أن ينال من الحياة، من أجل الدعوة، وهو يقف إلى جانب رسول الله في سائر مراحلها. لم يطمع في مكسب شخصي، أو جاه خاص، أو منصب، مكرِّساً حياته كلها في سبيلها.
ولا ينسى له التاريخ مواقفه العظيمة في نكرانه للذات إبَّان خلافة الراشدين الثلاثة الذين سبقوه إليها. كان معهم بإمكاناته العظيمة كلها. وقدراته الجليلة الخارقة التي ندر مثيلها. لم يبخل ببذل أو عطاء قط. ثم رأينا ما كان منه بعد ذلك في زمن خلافته الراشدة، توطيداً وترسيخاً لبناء الدولة الوليدة التي سوف تمضي من بعد إلى الامتداد والانتشار على سعة العالم المعروف يومئذٍ.
فضلاً عن هذا كله، كانت للإمام علي (رضي الله عنه) إسهاماته الجلَّى في الفقه والتفسير لكتاب الله، والفتوى والاجتهاد، في الفكر والحكمة والقول، مأثوراته ومآثره لا يحيط بها حصر، من أهمها واشهرها ذلك السفر العظيم »نهج البلاغة«. وغيره كثير وغزير تمثلت فيه الفصاحة والبلاغة وروعة البيان، خلَّفها للمسلمين إرثاً وتراثاً لا يبلى، ينير للأجيال الطريق على مرِّ الزمن.
تربَّى عليّ رضوان الله عليه في مدرسة الرسول عليه السلام فكان خير من حمل الراية من بعده مع الرعيل الأول من الصحابة، بناة صرح الأمة الإسلامية العظيم.
قال عليه السلام في علي رضي الله عنه: ((من آذى عليّاً فقد آذاني))، وقال ((من كنت وليُّه فعليٌّ وليُّه)) ( ).


* * *

إسلام أبي بكر
كان أبو بكر بن أبي قحافة التيمي صديقاً لمحمد (عليه السلام)، يعرف فيه الأمانة والنزاهة والصدق. فكان أول من دعاه محمد إلى عبادة الله وترك عبادة الأوثان. أفضى إليه بما رأى وبما أوحي إليه، لم يتردد أبو بكر في إجابة محمد إلى دعوته والإيمان بها.
فضلاً عن تجنيد نفسه؛ منذ الساعة، للذود عنها وعن صاحبها. كرَّس أبو بكر، منذ اللحظة، نفسه وماله لخدمتها والعمل على انتشارها وإعلاء كلمة الله، في صحبة محمد صديق عمره الأثير الأمين.
أذاع أبو بكر إيمانه بالله ورسوله بين أصحابه. وكان أبو بكر محببَّاً إليهم، عليماً بقريش وما كانت عليه من خيرٍ وشرٍّ. وكان أيضاً تاجراً خلوقاً، عارفاً بالرجال والأنساب.
جعل أبو بكر يدعو للإسلام من يثق به من قومه، فتبعه عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوَّام، وأبو عبيدة عامر بن الجراح وغير هؤلاء من المكيين. وكان أحدهم يذهب إلى النبي يعلن إسلامه ويتلقى عنه تعاليم الإسلام. وكانوا جميعاً يستَخْفون لعلمهم بما تضمر قريش من عداوة لمن يخرج على عبادة أوثانها. فكانوا، من ثم، إذا أرادوا الصلاة انطلقوا إلى شعاب مكة ليصلوا فيها. لبثوا كذلك ثلاث سنوات ازداد الإسلام فيها انتشاراً بين أهل مكة، وكان الوحي في هذه الأثناء يتنزل على محمد عليه السلام ليزيدهم إيماناً وتثبيتاً. لم يتخلف أبو بكر عن رفقة الرسول والعمل معه لحظة واحدة.
كان لإسلام أبي بكر أثر كبير في حمل الكثير من عامة الناس على الدخول في الدين الجديد. كذلك من بين أشراف مكة، وتجارها ووجهائها، ممن طهُرت نفوسهم وخشعت قلوبهم لذكر الله وآيات الكتاب التي يتلوها عليهم محمد، ومن بعده أبو بكر وسائر الأولين ممن دخلوا في دين الله.
كان أبو بكر حصيفاً، نافذ البصر والبصيرة، عارفاً بأقدار الرجال، دقيق الحكم والميزان. رجل كهذا ليس سهلاً انقياده لما لا يؤمن به، فكان من ثم الأول من الرجال في تلبية دعوة محمد والدخول في الإسلام.
ولا ينسى تاريخ الأمة الإسلامية لأبي بكر (رضي الله عنه) مواقفه العظيمة، طوال حياته كلها، باذلاً من أجلها النفس والمال والجهد الدؤوب، والتعرض لشتى المخاطر والاحتمالات، في مواجهة قريش وغيرها من أعداء الإسلام الألداء. وكان لأبي بكر، بحصافته وما ملك من رجاحة العقل، الفضل في إنقاذ الموقف الخطير يوم وفاة الرسول، حين كذَّب كثيرون الخبر، فلم يصدِّقوا أن الرسول يحق عليه الموت مثلهم. لقد هالهم الخطب فذهب بهم الشطط شتى المذاهب، فما كان من أبي بكر ــ الألصق والأحب لرسول الله من كثير منهم ــ إلا أن وقف بينهم قائلاً: (من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت). ثم مذكِّراً إياهم بقوله تعالى:
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ(آل عمران:144).
ثاب القوم إلى رشدهم وأذعنوا لقضاء الله وقدره.
ويجدر بنا أن نقف مليّاً عند هذه الآية ــ النبوءة التي تنبأت بهذا الذي حدث عند موت الرسول إذ أوشك بعضهم أن يرتد على عقبيه. ولم تقف المسألة عند هذا الحد، فالنبوءة صدقت كذلك فيما وقع من المرتدين عن الإسلام إثر وفاة الرسول. أولئك الذين انقلبوا على أعقابهم بالفعل. كما صدقت في أن أولئك ما كان لهم أن يضرُّوا الله شيئاً كما قالت الآية، إذ باءوا بالهزيمة والخذلان المبين. وكان ذلك على يد أبي بكر ومن معه من الصحابة المؤمنين الذين بادروا إلى محاربة هؤلاء لوضع الأمور في نصابها. تذكر كتب السيرة أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) نصح لأبي بكر الخليفة بأن يأخذ هؤلاء بشيء من اللين، ولكن أبا بكر ــ المعروف عنه اللين والرفق بالفعل على عكس عمر ــ صاح بعمر قائلاً: أجبَّار في الجاهلية خوَّار في الإسلام يا عمر؟ والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم فيه.
على الرغم مما قد تشي به هذه المواقف من أن الرجل ينطوي على جفاء وقسوة فهو في حقيقة الأمر لم يكن كذلك. كان عطوفاً رحيماً إزاء بني البشر، أيَّاً كانوا. وإنه لحريٌّ بنا أن نذكِّر دعاة حقوق الإنسان المعاصرين المتشدقين بمبادئ وقيم لا يطبقونها بما كان من أبي بكر من مواقف إنسانية حينما كان يرسل جنوده لقتال المرتدين وغيرهم من أعداء الدولة الناشئة. وصيته إلى جنوده يومئذٍ جدير بها أن تكون نبراساً يهتدي به البشر في الشأن الإنساني. لقد نهاهم أبو بكر، بل أصدر إليهم أوامره بألا يقطعوا شجرة ولا يهدموا بيتاً. حتى الأسرى لم يتعرضوا لعذاب أو إهانة، فقد كان الموقف منهم إما (المنُّ) بإطلاق سراحهم دونما مقابل، وإما (الفداء) حسب تعليم كتاب الله.
رجل آخر من نجباء وعظماء مدرسة محمد عليه السلام فيما أتى به من كتاب وما ترك خلفه من سنة.

* * *

إسلام عمر بن الخطاب
كان عمر بن الخطاب يومئذ ما بين الثلاثين إلى الخامسة والثلاثين من العمر. كان رجلاً قوي الشكيمة، حادّ الطبع، سريع الغضب، محباً للهو والخمر. وفيه إلى ذلك برٌّ بأهله ورقة لهم. وكان من أشد قريش أذى للمسلمين. فلما رآهم هاجروا إلى الحبشة، شعر لفراقهم بوحشة، ولفراقهم وطنهم ألم يحزُّ في نفسه.
(كان محمد يوماً مجتمعاً بأصحابه الذين لم يهاجروا، في بيت عند الصفا. ومن بينهم عمه حمزة وابن عمه عليّ بن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة وغيرهم من سائر المسلمين الأولين. وعرف عمر اجتماعهم، فقصد إليهم يريد أن يقتل محمداً كي تستريح قريش وتعود إليها وحدتها بعد أن فرَّق محمد أمرها وسفَّه أحلامها وعاب آلهتها. لقيه عمه نُعيْم بن عبد الله في الطريق، وعرف أمره فقال له: والله لقد غشَّتك نفسك من نفسك يا عمر! أتُرى بني عبد مناف تاركيك تمشي على وجه الأرض وقد قتلت محمداً!؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك وتقيم أمرهم؟ وكانت فاطمة أخت عمر وزوجها سعيد بن زيد قد أسلما. فلما عرف عمر ذلك كرَّ راجعاً إليهما، ودخل البيت عليهما، فإذا عندهما من يقرأ القرآن. كان ذلك خبَّاب بن الأرث. فلما أحسُّوا دُنُوَّ داخلٍ عليهم اختفى القارئ، وأخفت فاطمة الصحيفة. سأل عمر ما هذه الهينمة التي سمعت. فلما أنكرا صاح بهما: لقد علمت أنكما تابعتما محمداً على دينه. وبطش بسعيد، فقامت فاطمة تحمي زوجها فضربها فشجها. فهاج إذ ذاك هائج الزوجين وصاحا به: نعم، أسلمنا فاقض ما أنت قاض. واضطرب عمر حين رأى ما بأخته من الدم. وغلبه برُّه وعطفه، فارعوى وسأل أخته أن تعطيه الصحيفة التي كانوا يقرؤون ـ طلبت إليه الاغتسال أولاً فإنه كتاب لا يمسُّه إلا المطهّرون ففعل ـ فلما قرأها تغير وجهه وأحس بالندم على صنيعه. وقد اهتزَّ لما قرأ من آيات وأخذه إعجازها وجلالها، وسموّ الدعوة التي تدعو إليها. فخرج وقد لان قلبه، واطمأنت نفسه، فقصد إلى مجلس محمد وأصحابه عند الصفا. فاستأذن وأعلن إسلامه. وأصبح منذ اللحظة النصير القوي المنافح عن الإسلام. وكان لإسلامه بالذات أثرٌ أيما أثر في قريش أسفر عن دخول الكثيرين في الدعوة الوليدة( ).
جاء في بعض كتب السيرة أن النبي عليه السلام كان يدعو ربه ــ قبل إسلام عمر ــ بالقول: اللهم أعزَّ الإسلام بأحد العمرين عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام. فكانت الهداية من نصيب عمر رضي الله عنه. وكتب التاريخ حافلة بما كان من شأن عمر إبَّان خلافته على المسلمين بعد أبي بكر رضي الله عنه. وقد عرف بقوة الشخصية والإرادة الحازمة والفكر النيِّر إلى جانب الصرامة في الحق حتى لقب بالخليفة العادل الفاروق.


* * *

إسلام حمزة عم الرسول
مرَّ أبو جهل بمحمد يوماً فآذاه ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتهوين من أمره، فأعرض محمد عنه وانصرف ولم يكلمه، تمشياً مع قوله تعالى ((وأعرض عن الجاهلين)).
وكان حمزة عمّه لايزال على دين قريش. كان رجلاً قويّاً مهيباً، ذا ولع بالصيد. فإذا رجع من صيده طاف بالكعبة، قبل أن يعود إلى داره. فلما جاء في ذلك اليوم وعلم بما أصاب ابن أخيه من أذى أبي جهل، ملأه الغضب، وذهب إلى الكعبة ولم يقف مسلِّماً على أحد ممن كان عندها كعادته. دخل المسجد فألفى أبا جهل فقصد إليه، حتى إذا بلغه رفع القوس فضربه به فشجّه شجَّة منكرة. وأراد الرجال من بني مخزوم أن ينصروا أبا جهل، فمنعهم حسماً للشر ومخافة استفحاله، معترفاً أنه سبَّ محمداً، ثم أعلن حمزة إسلامه، وعاهد محمداً على نصرته والتضحية في سبيل الله حتى النهاية( ).
كان من شأن ذلك أن ازدادت قريش ضيقاً بمحمد وأصحابه إذ رأتهم يزدادون قوة، لا يثنيهم الأذى ولا يصرفهم العذاب عن إيمانهم والجهر به. فخيل إليهم أن يتخلصوا من محمد، بما توهموا من إرضاء مطامعه فبعثوا إليه عتبة بن ربيعة وكان من سادات قريش ليعرض عليه ما هو معروف في كتب السيرة جميعاً ــ وما أسلفنا الإشارة إليه ــ الإمارة والمال وكل ما يرغب فيه ويطمح إليه. وكان رد محمد المعروف. وتلا أمامه سورة السجدة، معرضاً عن عرضه، مترفعاً عن كل ما سمع منه. استمع عتبة إلى أحسن القول ورأى أمامه رجلاً لا مطمع له في شيء من عرض الدنيا، فعاد الرجل إلى قريش مأخوذاً بعظمة محمد وسحر بيانه مما لم يرق لقريش، فعادت إلى مناوأة النبي ومن معه.
لم يكن حمزة بالرجل السهل. وهو لم يُسْلم كردِّ فعلٍ فقط بسبب ذلك الحادث الذي دفعه إلى نصرة ابن أخيه، كما قد يبدو للوهلة الأولى. ولكن حمزة بحكم قربه من محمد، ومعرفته الجيدة به، كان على أهبة التسليم بما جاء به، فكان الحادث صاعق التفجير لما كان كامناً في أعماقه وما كان يمور في دخيلة نفسه ووجدانه.


* * *

الخمسة الكبار وأثر إسلامهم
كان لإسلام أولئك الخمسة أثر لا يضاهى في مسيرة الدعوة، ونصرة صاحبها، كل حسب موضعه وموقعه وطبيعة أثره وتأثيره ومقومات شخصيته.
أما السيدة خديجة فقد آوته ونصرته يوم خذله الناس وصدقته يوم كذبه الناس. آمنت به وبما جاء به وكانت أول من دخل الإسلام، شدَّت من أزره ووقفت إلى جانبه، حين كان وحيداً بلا نصير ولا معين ولا مجيب.
ولم تكن أدوار أبي بكر وعمر والفتى علي وعمه حمزة بأقل شأناً. إسلام هذا النفر الذين تفرد كل منهم بخصائص عظيمة، تعاضدت وتآزرت فأنشأت أساساً راسخاً شكل قاعدة ودعامة للدين الجديد، يقوم عليها بنيانه، ليعلو ويكبر ويتعاظم فيما بعد، إلى أن يعم الدنيا بأسرها. أجل كان لهؤلاء الكبار من عظام الرجال ــ وخديجة ــ من الأثر في قريش، وسائر العرب ما مكَّن للإسلام الانتشار في تلك الربوع، ثم انطلاقته كالإعصار إلى سائر أرجاء الأرض. منذ دخل هؤلاء في الإسلام اطمأن محمد إلى حدٍّ كبير إلى أن الله ناصره. فمضى في دعوته غير عابئ بما يضع الخصوم من قريش في طريقه من عقبات، وما يثيرون في مواجهته من متاعب. وحين كان يعجزهم أمر محمد نفسه فلا يتجرؤون عليه ولا يتمكنون من تجاوز حدود معينة في معاداته، كانوا يلجأون إلى التنكيل بالمستضعفين من أصحابه، كبلال الحبشي، وياسر، وسمية وغيرهم، يسومونهم سوء العذاب ــ كما سلفت الإشارة ــ ويوقعون بهم من الأذى ما يفوق طاقة بشر على الاحتمال. بيد أنه كان من شأن ذلك أن يزيدهم إيماناً وإصراراً على ما عاهدوا الله عليه.
كان لكل من الخمسة العظام هؤلاء دوره العظيم الرائع في رسوخ الإسلام في النفوس أولاً، ثم في أماكن انتشاره ثانياً، في سائر الأمصار سواء في زمانهم أو من بعد ذلك. فما بنوه وشيدوه لبث قائماً شامخاً، وسيظل كذلك أبد الدهر، برغم ما جرى وما يجري من تراجع حيناً، ومن إساءة فهم حيناً، ومن هزائم حيناً في هذا البلد أو ذاك من بلاد المسلمين لأسباب وعوامل لم تعد خافية على أحد. ولكن وعلى الرغم من كل ذلك كانت للإسلام خاصية غريبة وعجيبة، هي أنه كلما ضعف أهله أو حسب الخصوم أنهم أوشكوا على الانتصار عليه باغتهم بالعودة إلى ما كان عليه من قوة ومضاء، فخيَّب آمالهم وأحبط سعيهم.
مادامت غاية هذا المبحث التأكيد على المصدر الإلهي للقرآن، من جهة، وكذلك التأكيد على أمية محمد عليه السلام، من جهة ثانية ـ ذلك أن ثبوت هذه الحقيقة الأخيرة من شأنه تأكيد صدقية الحقيقة الأولى ـ فقد عرضنا لقضية إسلام خمسة من أوائل كبار صحابة الرسول عليه السلام، ممن لعبوا أدواراً أساسية فاعلة وحاسمة في نشر الإسلام، في عديد من الأمصار في زمانهم، ليتبعها انتشار شامل من بعد ذلك. هذا فضلاً عن ترسيخ الإسلام وتوطيده دعائم في النفوس والعقول، وفي الأفراد والمجتمعات، على حدِّ سواء ــ كما ذكرنا في غير مكان من هذا الكتاب، من ثم أمكننا القول بأن هؤلاء كانوا الأقرب إليه عليه السلام، والأكثر التصاقاً به ومعايشة يومية له. ومادام الأمر كذلك فقد أتيح لهم بحكم هذه الصلة مشاهدة الرسول ومعاينته في معظم أوقات نزول القرآن عليه. كان يتلوه عليهم فور نزوله غضَّاً طريّاً ندياً. ما الذي يمكن استخلاصه من ذلك إذن؟
لم يشكَّ أحدٌ منهم فيما يراه رأي العين. بل كانوا يزدادون إيماناً على إيمانهم في كل مرة، وعند كل تنزيل. لم يكن أيٌّ منهم ـ فضلاً عن ذلك ـ ممن يستهان بذكائه وقدرته على الحكم والتمييز. كانوا أولى الناس وأقدرهم على كشف الزيف لو كان ثمة زيف. بل لعل هؤلاء تحديداً كانوا أول من سيحمل لواء المعارضة والتكذيب. عمر وأبو بكر وحمزة منهم، وهم من عرفنا هل كانوا يسكتون على ادعاء بهذا المستوى من الأهمية والخطر؟ ولرب قائل إن الزوجة هي الزوجة وإن علياً ليس إلا غلاماً يافعاً.. ولكن ما بال الآخرين!؟ الزوجة كانت ترى بنفسها ما يعتريه وما يحل به عند نزول كل وحي تشهد. وعليٌّ كان يرى ويسمع ويشهد أيضاً، وقد تخلَّق بأخلاق النبوة لما كان يشهد ويرى ويسمع.
أما الجانب الآخر فهو أميَّة محمد عليه السلام. ألم يكن هؤلاء ـ وهم أقرب المقربين ـ أعرف الناس بالمسألة؟ وهل كان في وسعهم التستر على ادعائه الأمية لو لم يكن محمد أميّاً بالفعل؟ وهل كانوا سيمضون في تصديقه في شأن الدعوة والتنزيل حين يرون أنه يزعم أميته وهم يعرفون أنه ليس بأمي؟ بل هل كان في وسع محمد نفسه ادعاء الأمية أمام زوجه وابن عمه وعمه والصديقان الأثيران؟ وكيف يبرر لهم ذلك؟ ولماذا يفعل؟
لم يكن أيٌّ من هؤلاء إذن ممن تنطلي عليه الحيلة أو يتقبل إهانة الخديعة والاستهانة بذكائه. وهم إذن قد آمنوا عن حق بأن وحياً يتنزل على محمد، وهم كذلك قد عرفوا بأمية محمد، وكان أن آمنوا بما سمعوا من آيات في هذا الشأن. وكانوا يتلونها في صلواتهم وخلوات تعبدهم.
ولا ينبغي لنا أن نغفل هنا أدوار آخرين من خيار صحابة الرسول عليه السلام في بداية الدعوة، في توطيد دعائمها وفي نشرها بين القبائل في الجزيرة العربية، ثم في الطور المدني فيما تمثل في بذلهم وجهادهم في سبيلها، أكان ذلك في حياة الرسول ومعه، أو كان بعد وفاته، يحملون لواءها إلى العالمين، فكانت منعطفاً في حياة البشرية، وصورة العالم اليوم فيها الكثير من آثارها، ليس أقلها هذه الملايين من البشر يدينون بالإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، شمالها وجنوبها، وسائر ربوعها وأقطارها. بما في ذلك (الحضارة الغربية) الراهنة التي يزعمون أنها نتاج الغرب وحده فيما هي قد تأسست على قواعد ودعائم شادت أسسها الحضارة الإسلامية، وأقامت عليها بنيانها الراهن.
من أولئك الرجال صحابُ محمد عليه السلام أمثال: عثمان، وطلحة، والزبير بن العوام، وبلال، وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وابن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، وخالد بن الوليد.. وغيرهم كثير رضوان الله عليهم أجمعين.
تلك هي مدرسة محمد التي أنجبت أفذاذ الرجال وعظماء القادة الذين أسهموا بالرسالة التي حملوها إلى العالم، في تغيير وجه التاريخ، وتغيير مسار البشرية. ومازلنا نعيشها ويعيش العالم آثارها وتطوراتها وتفاعلاتها إلى يوم الناس هذا؛ وأشادوا ببنيان دولة الإسلام التي امتدت في الزمان والمكان إلى ما شاء لها الله..


* * *

أخلاق الرسول
سبب آخر كان يثير حفيظة رهط قريش. ذلك ما كان يتلو محمد عليهم من قرآن يصف شخصه، مغدقاً عليه الثناء، مطنباً في وصف ما انطوى عليه من خلق عظيم، وسجايا حميدة رائعة( ).
ولعل محمداً عليه السلام كان مدركاً لما سيكون عليه رد فعلهم على ذلك حسداً أو استكباراً، ولكنه مع ذلك، ولأنه الأمين على ما يتنزل عليه من وحي ربه، لم يكن يتردد في تلاوته على الملأ، أيّاً كانت العواقب، ودونما اعتبار لردة الفعل عند قريش. ولو كان يأبه لمثل ذلك لامتنع عن تبليغهم آيات تسفِّه أحلامهم، وتندد بعبادتهم لأوثانهم. وهي أمور أشد خطراً، بل هي جوهر المسألة في المعركة المحتدمة بينه وبينهم. وهل هناك ما هو أكثر خطراً من أن يتعرض امرؤ لمعتقدات شعب أو قبيلة؟ لآلهتها ومعبوداتها؟ إنها لمسألة تبذل دونها المهج وتفتدى بها الأرواح.
لم يعرف عنه، عليه السلام أنه أساء إلى أحد بقول أو فعل، أو أنه ضرب أو آذى رجلاً أو امرأة أو خادماً أو أسيراً. كما لم تعهد عليه سرعة الانفعال أو الغضب من أجل نفسه، حتى بعد أن دالت له العرب، وانتشر الإسلام في سائر ربوع الشرق. بل كان ينهى عن ذلك فيصف الرجل من هذا القبيل (بالصرعة) إذ يقول: »ليس المؤمن بالصرعة وإنما المؤمن من يملك نفسه عند الغضب«. لم يزده النصر ودخول الناس في دين الله أفواجاً إلا تواضعاً على جمِّ تواضعه. لم ينزع إلى التكبر والاستعلاء على أحد من الخلق، متمثلاً قوله تعالى في كثير من آيات كتابه نهياً عن التكبر والاستكبار فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (النحل:29).
كان يلقي السمع إلى محدثه، ملتفتاً إليه بكلِّيته، لا يقاطعه ولا يسكته، بل ينصت إليه حتى يتم حديثه، ثم لا يقول إلا حقاً. وإذا غضب لم يظهر عليه إلا نفرة عرق بين حاجبيه، يكظم غيظه ولا يظهره وهو القادر على أن يفعل. لكنه يؤثر سعة الصدر والرفق في التعاطي مع الناس، إذ يرى أن من الحكمة مخاطبة الناس على قدر عقولهم. حتى مظاهر التكريم وطقوس التعظيم لشخصه كان يرفضها. من ذلك أنه كان ينهى الناس عن أن يقوموا له إذا حضر مجالسهم: (لا تقوموا لي كما كان الفرس والروم يقومون لأباطرتهم وأكاسرتهم) ثم يجلس حيث انتهى به المجلس. من أقواله الدالة على عظمة خلقه وجمال نفسه وتواضعه: »ما أنا إلا ابن امرأة كانت تأكل القديد وتمشي في الأسواق«.
ولقد تحلَّى بنكران الذات والصبر على الأذى، والعفو عند المقدرة. كان يغلِّب جانب التسامح، ويرجح مصالح المسلمين قبل أي اعتبار آخر. لا يغضب لشخصه أبداً. من مواقفه الأخلاقية التي لم تعرف لها البشرية مثيلاً ما كان منه نحو هند ابنة عتبة، زوج أبي سفيان. لقد عفا يومئذٍ عن أعدائه وخصومه يوم فتح مكة. والتقى هنداً وقد أصبح في وسعه أن يصنع بها ما يشاء انتقاماً لفعلتها مع عمه حمزة يوم أحد، إذ مثَّلت بجسده الطاهر ولاكت كبده، فتوعدها يومئذٍ وقد بلغ منه الحزن ما بلغ على حمزة، والغضب على ما بدر منها من فظاظة قلَّ نظيرها بين النساء خاصة. فماذا فعل؟ قالت له وقد أعلنت إسلامها بجرأة تبلغ حدَّ الوقاحة (أنبيٌّ وحقود)؟. لكن هنداً فيما أرى لم تقل ذلك إلا اعتقاداً منها بعظمة خلقه، ومن ثم اقتناعها بأنه لن ينالها بسوء. وهو ما قد حدث. عفا الرسول عن هند قائلاً ((الإسلام جبَّ ما قبله)).
من الآيات التي تنزلت في وصفه عليه السلام تنفي عنه تخرصاتهم وافتراءاتهم، مشفوعة بقسم عظيم. والمقسم هو الله بارئ الخلق. أما القسم فكان بالقلم.. تعظيماً وتكريماً لشأنه، باعتباره الأداة والوسيلة لبلوغ العلم وآفاق المعرفة، إذ يقول تعالى:
نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ. مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ. وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ. وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم:1-4)
ألا يدعو للتأمل والتفكر أن يكون المخاطَبُ هنا أميّاً لا شأن له بالقلم؟ ثم يكون من شأن هذا الأمي نفسه وما أتى به مصدراً لأقلام لا حصر لها في قادم الأيام، تنشغل به على مدى القرون انشغالاً لم يحدث مثله لبشر على ظهر هذه الأرض. بل كان شغلها الشاغل على مدى الزمان.
أليس غريباً إذن أن يجرؤ إنسان على إعلان خصومه بأن الله ـ خالق كل شيء ـ يضفي عليه أوصافاً كهذه؟ لكن محمداً فعل ذلك دون أن يجد فيه غضاضة أو حرجاً. ولكن الغريب أيضاً أن أحداً في قريش لم يجبهه بالقول: لا.. أنت لست كذلك. بل إن أحداً لم يجادله في الأمر، على الرغم من كل ما بينه وبينهم. وإن قريشاً كانت حين يبلغ منها الغيظ والحقد والمناوأة مبلغها، كان أقصى ما تذهب إليه هو وصفه بالساحر أو المجنون. أما أخلاقه فلم تكن أبداً موضع طعن أو مسبّة. لقد كان لمحمد في هذه المسألة حصانة صنعها تاريخه فيهم على مدى السنين.
ولننظر في قوله تعالى:
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (آل عمران:159)
هذا الخطاب موجه في شطر منه إلى صحابة رسول الله. كما أنه يتلو الآية وفيها الأمر بالشورى. لم يكن من شأنه أن يتفحَّص القول المنزَّل من القرآن ليرى إن كان في صالحه ــ حسب ما قد يتراءى للبعض ــ فيعلنه وإن لم يكن كذلك فيخفيه. هنا يتبدى لنا جانب آخر من شخصية الرسول محمد على حقيقتها المثالية. فها هو يخبر القوم بأن الله يأمره بمشاورتهم ((وشاورهم في الأمر)) ولا يخطر له أبداً أن في هذا ما يضعف موقفه منهم. فهو ليس مستبداً بالرأي، ولا متفرداً فيه. وقد أصبحت الشورى منذ اللحظة مبدأً للمشاركة، يُعتدُّ به في وجه دعاة ((الديمقراطية)) التي يعلنونها تشدقاً، فيما هي أبعد ما تكون تطبيقاً على أرض الواقع. وقد عرفناها ــ الشورى ــ منذ أربعة عشر قرناً في آية كريمة تنزلت على الرسول، ولم تُفرض فرضاً بالإكراه وبقوة السلاح تمويهاً وتضليلاً كما هو حادث في عالم اليوم.
لقد أقرَّ القرآن مبدأ الشورى. وهذه آية ثانية بشأنها تقول:
وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (الشورى:38)
وهناك مقاربة (روجيه غارودي) بين الشورى والديمقراطية، وإن لم يكن هناك تطابق بينهما لصدور كل منهما عن مصدر مختلف، الأولى تنزيل إلهي والثانية اجتهاد بشري.
كان الرسول يشاور أصحابه في الشأن السياسي، واختيار المواقف والوسائل. وكان في سلوكه متواضعاً ليِّن القلب عفَّ اللسان. وكذلك كان أمر معظم صحابته من بعده. فسادت من ثم، الوحدة المنسجمة بين مواطني الدولة التي أقامها الرسول في المدينة.
وفي تنزيه الرسول عن الهوى والغرور والرغبة في الاستعلاء يقول تعالى:
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ. وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (آل عمران:79-80)
كما نرى أن الله جل جلاله يشهد لرسوله بذلك إذ يقول في محكم كتاباً مقسماً بالنجم:
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى.مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى. وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (لنجم:1-3)
حتى خصوم محمد الألداء، منذ بداية الدعوة وحتى نهاية حياته، لم يشهدوا عليه بغير ذلك. لقد كذّبوا القرآن والرسول، وافتروا ما وسعهم الافتراء. بل هم حاربوه على مدى سنين طويلة وسالت بينه وبينهم دماء غزيرة، بيد أنهم، برغم ذلك كله ــ وهم الحريصون على تسقط الهفوات بل المثالب والأخطاء ــ لم يسعهم سوى الإقرار بسمِّو نفسه وعظمة خلقه في سائر المواقف والظروف.
سئل رسول الله: من أحبُّ عباد الله إلى الله تعالى؟ قال: (أحسنهم خلقاً) »كذا في الترغيب 4/187/«.
أما عن رحمته بالناس ومحبته فقد روت كتب السيرة عنه الكثير. منها أنه عليه السلام قبَّل الحسن وهو في حجره طفلاً. فقال له الأقرع بن حابس: لقد ولد لي عشرة ما قبلت واحداً منهم، فقال النبي عليه السلام ((لا يرحم الله من لا يرحم الناس)) »أخرجه البخاري« (2/887 عن أبي هريرة).
ومن أخلاقه العظيمة أنه لم يعرف عنه الاستهانة أو السخرية من أحد بين الناس، عظُم شأنه أم صغُر. فجاءت الآية الكريمة متوافقة مع ما هو عليه، وهو القائل عن نفسه: (أدبني ربي فأحسن تأديبي).
حفلت كتب السيرة والصحاح وغيرها بوصف مناقب الرسول محمد عليه الصلاة والسلام. كما وضعت مجلدات ومؤلفات، بلا حصر، منذ ذلك الزمن وحتى يومنا الراهن في وصف أخلاقه العظيمة ومواقفه الأخلاقية الإنسانية مما لم يتصف به أحد من بني آدم عليه السلام من قبله ومن بعده، سوى الأنبياء والمرسلين، ثم آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم بما علَّمهم إياه وأوصاهم به وورثوه عنه.
كان كذلك مع الأقوياء والضعفاء على السواء، مع الفقراء والأغنياء، مع الأصدقاء والأعداء، في الحرب كما في السلام.
غني عن البيان أننا لا نملك المضي في هذه المسألة حتى حدودها، إذ لا يسعنا المقام لأكثر من هذه الإشارات العابرة، اعتماداً منا على أن من شاء المزيد من المعرفة والتعرف على تلك الصفات والمناقب يمكنه الرجوع إلى كتب السيرة، وإلى ما كتب حولها على مدى القروة الماضية.


* * *

صفات وأخلاق إسلامية
تعليماً للمسلمين في آداب السلوك يقول تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (الحجرات:11)
وتذهب الآية التي تليها إلى ما هو أبعد من ذلك، فتحذِّر من مجرد الظن، ومن الغيبة، فهل هناك ما هو أسمى وأرقى من مبادئ الأخلاق هذه في تعامل بني البشر فيما بينهم. وهل يعرف أعداء الإسلام اليوم هذه الحقائق عنه، والتي قد لا تجدها، أو ما يماثلها في أرقى مبادئ التربية والتعليم الحديثة أوَ لسنا مقصرين في حق الإسلام بإحجامنا عن تعريف غير المسلمين بحقيقته؟ ويقول تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (الحجرات:12)
كما يوصي الإسلام بتوخي الحذر في الأحكام قبل التأكد من صحتها خشية الإساءة إلى أبرياء.
ولقد سبق الإسلام كل ما جاء بعده على أيدي وألسنة دعاة ما يسمونه اليوم (حقوق الإنسان) وإدانة العنصرية وما إليها. لقد جاء الإسلام بتعريف غير مسبوق للبشر. إذ يعلن أن الله خلق الناس من ذكر وأنثى، فهم من ثم أخوة. وأنه جعلهم شعوباً وقبائل من أجل التعارف ليس إلا. لنتصور نحن كيف يكون حال البشر لو لم يكن الأمر كذلك. لو أن الله خلق الناس بمواصفات واحدة، أو عدد محدود من المواصفات، كموديلات السيارات وأجهزة التلفاز والساعات اليدوية..! كيف كانت تتحدد الهويات؟ وكيف تعرف الأنساب وتبنى العلاقات بشتى صورها في حياة البشر إذا ما خلقوا متشابهين؟ أجل لو لم يخلق الله البشر على النحو الذي هم عليه، ولم يكونوا شعوباً وأفراداً مختلفي السمات والصفات ليمكن التعرف على واحدهم تحديداً فيما بينهم كيف يكون عليه الحال عندئذٍ؟ ثم هو بعد ذلك يجعل المفاضلة في نهاية المطاف التقوى وحدها، وليس العنصر أو القوم:
يقول تعالى في هذا الشأن:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات:13)
ولكي يكون المسلمون مثالاً حياً للخير يصفهم سبحانه بقوله:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ .. (آل عمران:110)
وها هو النبي صلى الله عليه وسلم يعلن في حجة الوداع:
((أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى))( ).
ومن الصفات التي تحلَّى بها عليه السلام، العفو عند المقدرة، امتثالاً لقوله تعالى في مواضع كثيرة منها:
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (البقرة:109)
وقوله تعالى:
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (المائدة:13)
من ذلك ما أوردته كتب السيرة عن سلوكه يوم فتح مكة. وقد دخلها منتصراً على أعداء لم يدعوا وسيلة إلا ولجأوا إليها للإساءة إليه وإجهاض دعوته وإحباط رسالته. فضلاً عن حروبهم الدموية التي أضرموها طوال السنين التي سبقت الفتح دونما تراخ أو هوادة. فماذا يمكن أن يتصور المرء ــ حسب مشاهدات عبر التاريخ، وحسب ما هو قائم في عالم اليوم ــ من تصرف المنتصر إزاء المهزوم؟ وهذه الحرب بين قريش ومن معها والنبي ومن معه لم تكن حول مغانم بل كانت حول عقيدة ومبدأ ومثلٍ أعلى من جانبه. ودفاعاً عن معتقدات لهم آمنوا بها وتوارثوها عن الآباء والأجداد من ناحيتهم؟ كان ممكناً لو أن قريشاً نجحت في مساعيها الحثيثة لهزيمة الإسلام والمسلمين يومئذٍ، ألاَّ نكون قد عرفنا الإسلام، وألاَّ تكون قد قامت له قائمة. لكن الله أراد غير ذلك. ماذا نتوقع من محمد إذن، وصحبه الذين قتل لهم إخوة وأبناء على أيدي القرشيين المعادين للدعوة، لا لشيء إلا لأن هؤلاء آمنوا بالله وكتابه وصدقوا رسوله.
الأمر الطبيعي هو أن يعمل فيهم محمد وصحبه السيف تقتيلاً وتنكيلاً، وله الحق كل الحق في ذلك حسب السائد المعروف في كل الحروب. وأن ينتقم منهم أشد الانتقام بعد أن غلبوا واستسلموا. وقريش نفسها كانت تعلم أنها تستحق أن تفعل بها الأفاعيل. لكن محمداً لم يكن ذلك الجبار المنتقم.. بل كان رسول الرحمة والسلام في الأرض. فما الذي حدث يوم الفتح؟ هذا هو مشهد دخوله مكة:
(نزل النبي بأعلى مكة. وهنالك ضربت له قبة على مقربة من قبرَيْ أبي طالب وخديجة. وسئل: هل يريد أن يستريح في بيته؟ فأجاب: كلا! فما تركوا لي بمكة بيتاً. ودخل إلى القبة يستريح وقلبه مفعم بشكر الله أن عاد به عزيزاً منتصراً إلى البلد الذي آذاه وعذَّبه وأخرجه من بين أهله ودياره. أجال بصره في الجبال التي كان يأوي إلى شعابها حين يشتد به أذى قريش وقطيعتها. ومن بينها حراء حيث كان يتحنَّث حتى نزول الوحي عليه. بلغ من خضوعه لله، وهو يرنو إلى مكة يتوسطها البيت الحرام، أن ترقرقت في عينيه دمعة شكر للحق.
(ثم خرج وامتطى ناقته القصواء وسار بها حتى بلغ الكعبة، فطاف بالبيت سبعاً على راحلته. ثم دعا عثمان بن طلحة ففتح الكعبة. فوقف محمد على بابها. وتكاثر الناس في المسجد، فخطبهم وتلا عليهم قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات:13)
((يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟)) قالوا:
(خيراً.. أخ كريم وابن أخ كريم).
قال: ((فاذهبوا فأنتم الطلقاء))( ).
بهذه الكلمات صدر العفو العام عن قريش وعن أهل مكة جميعاً. برغم كل ما اقترفوا في حق الدعوة وفي حقه من جرائم وآثام على مدى ينوف على عشرين سنة. قريش هذه التي لو استطاعت قتله وإحباط دعوته ومنع ظهورها إلى الوجود، ها هي الآن بين يديه، إثر هزيمة لها منكرة يسائلهم محمد: ماذا تظنون أني فاعل بكم. يجيبون: أخ كريم وابن أخ كريم. فيعلنها: »اذهبوا فأنتم الطلقاء«. هل شهد العالم سموّاً في النفس كهذا الذي بدا للملأ من محمد المنتصر. لم تأخذه خيلاء انتصاره على أعدائه وأعداء دينه بل أعداء الحياة. أمكنه الله من عدوِّه فعفا. فضرب للدنيا بأسرها وللأجيال مثلاً في البرِّ والوفاء. أليس في هذا وحده الدليل الدامغ على نبوّة محمد وخلقه العظيم؟
تبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة في مسيرته لبناء دولة الإسلام، من المدينة المنورة التي لم يشأ أن يخذل أهلها بالعودة إلى مكة، وفاء لهم واعترافاً بما كان لهم من فضل في نصرته يوم جاءها مهاجراً.
أليس هذا الفتح المبين برهان آخر على صدق الرسالة؟ أوَ ليس هذا أيضاً تحقيقاً لوعد الله رسوله، منذ البدايات، يوم أن كانوا قلة قليلة، بحيث لا يستطيع رجل يملك عقلاً راجحاً أن يتوقع لهم غير الهزيمة المنكرة، والاضمحلال السريع، حين يقارن ضعفهم، وضآلة عددهم، وفقرهم بما ملك الجانب الآخر من وفرة في الغنى، وحشد للقوة، وقريش الأكثر نفراً وعدَّة..؟
تصف الآية الكريمة حالهم هذا بقوله تعالى:
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (لأنفال:26)
كيف اطمأن محمد إلى نصر الله لو لم يكن نبياً موعوداً، ولو لم تكن دعوته صادقة، وقرآنه من لدن بارئ الخلق؟ ألم تكن مغامرة مجنونة أن يقدم على ما أقدم عليه لو كان باحثاً عن زعامة، ساعياً لقيادة، وعوامل الفشل بادية للعيان مؤكدةً؟ فما بالك إذا كانت الزعامة والقيادة عرضتا عليه من قبل، ودونما حاجة إلى خصومة تنهض وعداء يستفحل؟ كان في وسعه أن يوفر ضروب المعاناة، ونزف الدماء، وبدد السنين التي انقضت منذ بدء الدعوة بكلمة أو كلمتين حاسمتين مستجابتين من الطرف الآخر: (قبلت عرضكم يا قوم..). هذا الذي كان سيحدث لو كان الرجل إنساناً عادياً مدعياً، يحاور ويناور لكي يصل إلى مبتغاه، وليحقق طموحه ويحصل على ما يريد. فما الذي كان يريده إذن؟
لم يكن ذلك سوى ما تحقق بالفعل. نشر دين الله الذي بعث به للعالمين، ليعم نوره من بعد، مشارق الأرض ومغاربها. ولتمتد في الزمان إلى ما شاء الله. وها هي رسالة الإسلام تعمر اليوم قلوب زهاء ربع سكان المعمورة بعد انقضاء أربعة عشر قرناً من الزمان. فهل بعد هذا لجاحدٍ أو منكرٍ أو مكابرٍ أن يزعم أن القرآن لم يكن كلام الله لمحمد.. بل كلام محمد للناس؟
ليقرأ هؤلاء هذه الآيات المحكمة:
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (هود:118-119)
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (النساء:166)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا. قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً. مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (الكهف:1-3)

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 14 / 07 / 2008, 21 : 12 AM   رقم المشاركة : [4]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: القرآن ومحمد .... لمؤلفه : د.يوسف جاد الحق

الفصل الثاني
التشكيك في مصدر القرآن


[align=justify]
التشكيك في المصدر
التشكيك في مصدر القرآن مسألة على قدر من الأهمية والخطر ــ في نظر أصحابها ــ تفوق كل ما عداها. التشكيك يهدِّد الدعوة من أساسها، فهم إذ يحاولون نفي المصدر الحقيقي ونسبته إلى مصدر بشري ــ سواء كان الرسول نفسه أو آخرين ــ إنما يسعون إلى نفي النبوة عن محمد عليه السلام، ومن ثم إبطال الدعوة. فالدين الإسلامي يقوم في الأصل على رسالة نبي هو محمد عليه السلام. فإذا قيِّض لهؤلاء القدرة على أن ينفوا عن القرآن مصدره الحقيقي انهار البنيان كله. وهو ما سعت إليه قريش وأعداء الدعوة من معاصري الرسول، ثم من بعدهم سائر خصوم الإسلام حتى يوم الناس هذا.
يرد القرآن على دعاوى المشركين واليهود مكذّباً ما ادّعوا، وداحضاً ما زعموا بقول قاطع مفحم:
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً. وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (الفرقان:4-6)
وآيات أخرى في السياق ذاته، منها:
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (النساء:82)
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (محمد:24)
إنه لمما يثير الدهشة في العقول والخشوع في القلوب والنفوس أن نرى أن ما ورد في هذه الآيات من وصف لهؤلاء ما برح ماثلاً أمام الأعين، منطبقاً ـ كوصف لحالة قائمة دائمة ـ كأنما تنزل الوحي بها في زمننا هذا. المشككون المكابرون ما برحوا سادرين في غيهم، وما انفكوا عن الظهور في دنيانا على مرّ الزمان. أقوالهم هي هي، وذرائعهم الباطلة وحيثياتهم المراوغة لم تتغير في جوهرها، وإن هي تمثلت في كل عصر وحقبة بما كانت أو تكون عليه معطيات تلك الحقبة وذاك العصر.
يقول محمد عبد الله الدراز:
(هل أدل نفسياً على انفصال شخصية الوحي عن شخصية الرسول من مخالفة القرآن لطبعه، وعتابه الشديد له في مثل هذه الآية؟ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (لأنفال:67-68)
(فلو أنك تأملت فيما عاتبه الله عليه، وهو قبول الفداء من أسرى بدر، لكان اقرب إلى نفسه الكريمة، وطبعه الرحيم، وهو خير ما يختاره من عرف برحمة أهله وهداية قومه، وتأليف خصمه. وإنما نبهه القرآن إلى ما هو أرجح في ميزان الحكمة الإلهية. فهل ترى في ذلك ذنباً يستوجب عند العقل هذا التأنيب والتثريب؟ أم هو مقام الربوبية، ومقام العبودية، وسنة العروج بالحبيب في معارج التعليم والتأديب( )؟
وكل هذا مما يفنِّد المزاعم القائلة بأن القرآن من آيات العبقرية المحمدية.
(يجب أن ننفي عنه صلى الله عليه وسلم هذه الصفة إطلاقاً إن كانت العبقرية كما قال كرتشمر ـ أحد علماء النفس ـ تقتضي العبقرية لزوم عنصر المرض النفسي كعامل جوهري في شخصية العبقري، بحيث لو فرضنا أن صاحبه يستطيع التخلص منه ـ بوصفه مرضاً ـ لكانت النتيجة المحتومة أن يفقد عبقريته)( ).
منذ بدء الوحي القرآني إلى نهايته نجد أن النبي عليه السلام لم يتحدث مع الذات الإلهية كما كان الحال مع موسى وعيسى عليهما السلام. كما أنه لم يحدث إطلاقاً أن وقف مناجياً ومحاوراً الله تعالى. أي أن القرآن كان فريداً في هذا المساق.
وشخص الرسول حين يرد في مواضع من القرآن لا يرد إلا في صورتين. فإما أن يكون مخاطباً وإما أن يكون في موضع المتحدَّث عنه. في الحالة الأولى كقوله تعالى:
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (الإسراء:22)
(عفا الله عنك
(فأعرض عنهم وتوكل على الله
(وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن
والخطاب في الآيات التي تبدأ بلفظ الأمر »قل«.
وفي الحالة الثانية كقوله تعالى:
(محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم
(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل
يقول الأستاذ محمد الفاضل:
(نجد حضور ذاته العلية من خلال نصوص التوراة والإنجيل حضور المخاطّب المتوجَّه إليه بالدعاء أو المناجاة أو حضور المتحدَّث عنه بطريق الحكاية والتبليغ لتعريف الناس به ودعوتهم إليه. فكان للقرآن دون غيره من الكتب السماوية هذه الميزة الفريدة السامية باعتبار أنه (كلمة الله). أعني أن الله تعالى بذاته الجليلة هو المتكلم نفسه بالكلمة القرآنية كما يدل عليه ضمير المتكلم( ) كقوله:
نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً (الإنسان:28)
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (البقرة:186)

* * *

المصادر المدَّعاة
منذ بعث الرسول محمد عليه السلام دأب أناس على التشكيك في مصدر القرآن، وإثارة الشبهات من حوله عن غير بيِّنة، مستخدمين منطقاً متهافتاً لا يصمد أمام الحقيقة والحجة الدامغة. كان هؤلاء دوماً، على أهبة أن يتقبلوا أي مصدر مدَّعى غير المصدر الذي جاء منه. بل هم يتقبلون الذهاب إلى أن محمداً نفسه هو واضع القرآن، أو نسبته إلى أفراد عُرفوا، في تلك الحقبة، متحنثين أو كهنة أو أحباراً. أما أن يكون من عند الله فلا..!
هو العناد إذن والمكابرة إلى حد الإصرار على الخصومة واللَّدد، حتى لو أُقنعوا بخطئهم. ولقد وجد أمثال هؤلاء في كل عصر ومصر. أي أنهم يرضون أن يتخذوا من الكذب لو عرض عليهم، حقيقة يصدقونها مراء، ضاربين عرض الحائط بأي حجة، رافضين منطق العقل، في الوقت الذي يدَّعون العقلانية، ويزعمون الموضوعية والعلم والمعرفة، فيما هم أبعد ما يكونون عن ذلك كله.
لقد كان القرآن موضوعاً ومصدراً لدراسات مستفيضة لم تتوقف على مرّ الزمن لكتابات واجتهادات في شتى ضروب المعرفة الإنسانية والكونية، مما أفضى إلى نهضة حضارية، للأمة الإسلامية بعد ذلك، انطلقت منه كأساس لبناء صرح عظيم لم يعرف له العالم مثيلاً في أي حضارة غابرة أو معاصرة. فالحضارة بمفهومها الأخلاقي وتعريفها الفقهي والإنساني لابد أن يكون (الإنسان) موضوعها وغايتها. الحضارة قيمة ومبدأ قبل أي شيء آخر. أما (الحضارة) التي تشمل ـ حسب فهمهم لها ـ وبما يتفرع عنها ويندرج تحت عنوانها، كالمخترعات والتقنية والعمران فهي (مدنية) وليست حضارة بالمعنى الذي أسلفنا. ففي المدنية ــ بما تملكه من أدوات ووسائل القوة المادية ــ ما يلحق الضرر بالإنسان بقدر ما فيها مما يعود عليه بالنفع. ومثال واحد على ذلك مما نشهده اليوم فيه الكفاية والدليل، هو تصنيع السلاح، بدءاً من الديناميت والبندقية حتى الصاروخ والطائرة الحربية والقنبلة الذرية التي قد تمحق البشرية ــ لو أطلقت من عقالها ــ فلا تبقي ولا تذر. وما نحسب أحداً يماري في أن المدنية المادية المعاصرة ــ بوصفها التقني والآلي والمعلوماتي ــ ملك للبشرية عامة، أقروا ذلك أم رفضوه، إذ هي نتيجة تراكمية للتطور العلمي عبر المسيرة البشرية مذ وجدت، في حين أن (الحضارة) خصوصية تختلف من أمة لأخرى ومن عصر لعصر. وعادة ما يكون (الإنسان) هو محور اهتمامها وهو مصدرها أو صانعها.
لقد سخّر الغرب العلم في حقل المادة، في كيفية التصرف بها والسيطرة على استخدامها واستغلالها لمصلحته. وحيثما تناقضت هذه المصلحة بادر إلى توظيفها في تدمير الآخر المتناقض معه. بحيث أضحت (حضارة) الغرب مصدراً للتعاسة والخراب والدمار لثلاثة أرباع البشر.
(المتحضر) لا يستخدم السلاح لتدمير الآخرين إذا هم اختلفوا معه فكراً أو عقيدة، أو تضاربت مصلحته المادية أو غيرها مع مصالحهم. ولكن هذا ما هو حادث اليوم تماماً. من ثم يمكننا القول إن الغرب (متمدن) ولكنه ليس (متحضراً).
وجدير بالذكر أنه حين يرد ذكر للإنسان والإنسانية، ــ في أدبياتهم ومفاهيمهم ــ فلا يرد على أذهان الغربيين سوى الغربيين أنفسهم، على أنهم هم الذين تنطبق عليهم وحدهم هذه الصفة. لكأن الآخرين ليسوا من بني الإنسان. ومن هنا كان التصنيف المتعسِّف السائد بتقسيم العالم والبشر إلى عوالم (أول) و(ثانٍ) و(ثالث). (شمال) و(جنوب). ناهيك عن التقسيم العنصري حسب ألوان الجلود والعيون.. والإثني والمذهبي.. إلى آخر ما هنالك مما تتفتق عنه أذهانهم وعبقرياتهم من تصانيف. المدنية الغربية ـ في حقيقة الأمر لم يواكبها تحضر إنسانها الغربي، هذا الذي سخّرها وسيلة للدمار ولتعاسة الآخرين، فيما انقلب هو نفسه ــ متسلحاً بها ــ إلى ما لا تتدانى إليه الوحوش الكاسرة.
وعود ـ بعد هذا الاستطراد الذي لابد منه ـ إلى صلب موضوعنا فنقول بأن علوم القرآن وحدها، وشروحه وتفاسيره شغلت حيِّزاً هائلاً لا مثيل له لدى أمة من الأمم أو في شأن كتاب من الكتب. ومازال الكثير منها بين أيدينا، أو مشتتاً على أرفف المكتبات في أرجاء العالم الفسيح. وإن يكن أكثر من هذا وذاك قد تبدَّد، أو أحرق، أو أغرق في حملات الحروب المعادية من صليبية غربية، ومنغولية وتتارية بربرية. أضف إلى ذلك ما تبدد في أيامنا الراهنة على أيدي التتار الجدد في بلاد الرافدين، وفلسطين وسائر بلاد الشرق.
وسنتعرض هنا لتلك المفتريات حول من زعموا أنهم المصدر لما جاء به محمد من قرآن، بعد أن أغضى هؤلاء عن نسبته لمحمد نفسه، مستدلِّين على ذلك بدعاوى غريبة، منها نسخ آيات لآيات سبقتها في النزول، فادَّعوا أن محمداً يبدل أقواله من حين لحين، وأن هذا دليل على أنها ليست من عند الله. لكن آيات نزلت للرد على هؤلاء في حينه منها قوله تعالى:
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (النحل:101-102)
ثم تأتي مباشرة بعد هاتين الآيتين، الآيات التالية رداً مفحماً على من زعموا بأن هناك من يلقن محمداً ما يتلوه عليهم في قوله:
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ. إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (النحل:103-105)
الآية (103) ترد بجزم قاطع وبإفحامٍ بيِّن على تخرصاتهم. كأنها تقول لهم: كيف يعلِّم أعجمي لا يتقن العربية ولا يفهمها محمداً مثل هذا البيان العربي البليغ يا أهل البلاغة من قريش؟
وهنا ترد على الخاطر تساؤلات من قبيل:
ــ هل يمكن أن يرد محمد بآية كهذه ــ من عنده ــ على من كان يعلمه وهو هنا، وبالضرورة، لابد مقيم معه أو قريباً منه؟ ألم يخش محمد أن ينبري له هذا الغلام( ) الفذ غاضباً لكي يرد على الرد المهين له، ويفضح المسألة بحيثيات تعينه عليها قريش وتكافئه من أجلها؟ ولم لا يفعل ذلك ـ بحكم الطبيعة البشرية ـ مادام من يتلقى عنه قد تجاهله وتنكر له..!؟
ــ لو كان ذلك صحيحاً، فلماذا لا يظهر ذلك الغلام نفسه بهذا القرآن، وتصبح له في العرب مكانة ما بعدها مكانة، فضلاً عن أن يحظى بمجد أدبي وفكري غير مسبوق، عوضاً عن بقائه في الظل والخفاء مغموراً؟
ــ لماذا يدع الغلام الأعجمي (جبر) محمداً يستأثر من دونه بهذا الشرف العظيم الذي هو له في الأصل؟
ــ أين كان هذا الغلام الأعجمي مختفياً كل ذلك الوقت قبل إعلان محمد عن رسالته؟
ــ كيف لبث هذا ملقِّناً لمحمد آيات تناسب كل مقام وموقف ومناسبة على مدى سني البعثة، دون اكتشاف أمره في ذلك المجتمع الضيق. هل كان هذا ملازماً له كظله دون أن يراه أحد؟ وأين كانا يلتقيان؟
ــ مقابل ماذا كان يقدم هذه الخدمة لمحمد؟ ولماذا لمحمد بالذات دون غيره؟ ولو أنه قدمها لسادات قريش المتربصين والأثرياء في الوقت ذاته لكان ذلك أجدى وأنفع، ولابد أنه ملاقٍ عندهم من الحظوة ما لا يملك محمد مثلها، بل إنه لن يلقى مع محمد سوى المعاناة والمشاركة في النضال المرير حتى يلقي محمد وجه ربه. غلام كهذا ما الذي يدعوه إلى تقديم (روائعه وبدائعه) إلى الجهة الأضعف بين الفريقين؟
ــ لماذا لم يعلن عن نفسه بعد أن نجحت الدعوة وأصبح لها من القوة والمنعة والانتشار ما لها، وما كان ذلك كله إلا بفضله؟
لو شئنا الاسترسال في طرح التساؤلات لما وسعنا المقام، ولأتينا ولأمكن لغيرنا أن يأتي بالكثير من قبيلها. ولا يفوتنا ـ مع ذلك ـ أن نتوجه بسؤال آخر يقطع الشك باليقين. هو:
إذا كان هذا قد تيسر لمحمد مع الغلام على مدى السنوات المكِّية، فكيف تسنى له أن يواصله في السنوات المدنية، ثم تكون الآيات متجانسة على مدى ثلاث وعشرين سنة الآيات التي تشكل منها القرآن بمجمله في النهاية؟ هل صحب محمد الغلام معه إلى المدينة؟ والسور المدنية هي الأطول بين آيات الكتاب، وهي التي حوت التشريع وتنظيم العلاقات الاجتماعية، فضلاً عن متابعة الأحداث والوقائع المتتالية في مسيرة الرسول وصحابته من المهاجرين والأنصار. وفيها ما أدهش البشرية على الدوام بما حوته من الأحكام، سواء كنصوص بيانية لا سبيل إلى محاكاتها بلاغة وتركيباً وبناء، أو فيما تضمنته من فكر ومضامين علمية ومعرفية، أحاطت بسائر شؤون الحياة البشرية والمسائل الكونية، التي مابرحت تكشف الأيام عن مكنوناتها وتميط اللثام عن أسرارها.
هل استطاع ذلك الغلام الأعجمي اجتراح هذه المعجزات جميعاً ذاتياً يا أولي الألباب؟
ورقة بن نوفل والراهب بحيرة
أما فيما زعموا عن ورقة بن نوفل فهذه هي الحكاية:
جاء في كتب السيرة أن محمداً (عليه السلام) حينما جاءه الوحي أول مرة في غار حراء اعتراه خوف شديد. وذلك أمر طبيعي لا غرابة فيه. إذ هو ينظر بغتة أمامه ليجد في مواجهته كائناً يسدُّ عليه أرجاء الأفق. يدنو منه ليطلب إليه أن (يقرأ). يرتج عليه، ويجيب بأنه (ليس بقارئ).. إلى آخر القصة التي وردت في كتب السيرة، وذلك عندما تنزلت سورة (القلم) كأول ما تنزل به الوحي من قرآن على محمد بن عبد الله.
انطلق محمد عائداً إلى خديجة زوجه في مكة لينبئها بما وقع له، وقد كان هذا الذي وقع رهيباً، وحريّاً به أن يثير لديه الفزع والرهبة. بيد أنها هدَّأت من روعه وطمأنته إلى أن الله لن يخذله فهو الذي عرفت من أخلاقه ومناقبه ما عرفت.
(أبْشِر يا بن عمّ واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبيَّ هذه الأمة. والله لا يُخزيك الله أبداً. إنك لتصل الرحِم، وتصدُق الحديث، وتحمل الكلَّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق)( ).
(توجهت خديجة من فورها إلى ورقة الذي كانت تربطه بها صلة قرابة. كان الرجل طاعناً في السنّ. عُرف في قريش بالحكمة ورجاحة العقل. وكان يتعبَّد على طريقته، بعيداً عن نوادي قريش. قيل إنه تهوَّد في أواخر أيامه قبل ذلك. بعد أن استمع ورقة إلى خديجة لم تبْدُ عليه الدهشة، وإنما بدا عليه كمن كان ينتظر هذا الحدث. أجابها وهو مطرق إلى الأرض:
(قدوس قدوس، والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى. وإنه لنبيُّ هذه الأمة فقولي له فليثبت)( ).
عادت خديجة إليه تطمئنه وتقصُّ عليه نبأ ورقة وما حدثها به، ولكي تدفع عنه الخوف مما رأى وسمع. ثم أعلنت إسلامها فكانت أول النساء في الإسلام، كما أسلفنا( ).
ولم يلبث ورقة بن نوفل الطاعن في السن أن توفي قبل أن يعم انتشار الدعوة، فما بال القرآن الذي تنزل بعد ذلك؟ وأي دور واضح يمكن أن يعزى للرجل في شأن رسالة محمد، وفي أمر القرآن من باب أولى؟
(التقى ورقة محمداً يوماً، فيما كان الرجل يطوف بالكعبة فقص عليه محمد أمره فقال ورقة: إنك لنبيُّ هذه الأمة. ولقد جاءك الناموس الأكبر. ولتُكذَّبنَّ، ولتؤذينَّ، ولتُخرَجنَّ، ولتُقاتلَنَّ. ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرنَّ الله نصراً يعلمه)( ).
هذه هي كل الحكاية فيما يتعلق بورقة ابن نوفل. وما أوهاه من دور مزعوم، من قبل الخصوم، فيما يتعلق بالمسألة.
أما الجهة الأخرى التي نسبوا إليها تعليم محمد وتلقينه آيات القرآن فهو الراهب بحيرة. ودحض هذه الحجة ليس عسيراً على من شاء تبيُّن الحقيقة، بحسن نية ـ أو سوء نية ـ كما حدث ويحدث لبعضهم قديماً وحديثاً.
كانت مرة واحدة تلك التي التقى فيها محمد الراهب بحيرة يوم كان في صحبة عمه (أبي طالب) إلى بلاد الشام. وكان محمد غلاماً غضَّ الإهاب حينها. يقولون إن الراهب تبيّن فيه صفات وملامح كان يعرفها من الإنجيل الذي بشَّر بمجيئه من قبل. فأوصى عمه بالعودة سريعاً إلى مكة بابن أخيه خوفاً عليه من يهود. وهكذا كان. فأين هو دور بحيرة في الرسالة أو في القرآن الذي تنزل بعد عقدين أو نحوهما على محمد؟ وامتد أكثر من عقدين آخرين، هما زمن الدعوة. هل امتد العمر ببحيرة كل هذا الزمان؟ وهل التقى بمحمد طوال الوقت.. وكيف في زمن لم تكن فيه طائرات، ولا مواصلات، ولا هواتف، ولا فضائيات والمسافة بينهما من ديار الشام إلى مكة..؟ أليست قصة عجيبة هذه؟ كيف تابع بحيرة ـ إن لم يكن قد مات قطعاً ــ مع محمد الأحداث والوقائع التي كان بعض القرآن يأتي منجماً بحسبها، يعالج ويتناول كلاً منها في وقتها؟ وأنت إذا عدت إلى (أسباب النزول) سترى أن كثيراً من الآيات كانت متابعات شبه يومية، لا تتاح إلا لمن يعيشون معاً، في الزمان والمكان، إن لم يكن في بيت واحد..! فكيف له ــ مرة أخرى ــ مواصلة تلقينه آيات للمناسبات المختلفة والقضايا المستجدة؟


* * *

آراء مستشرقين
وإذا كان بعضهم أكثر اطمئناناً إلى شهادات المستشرقين الغربيين إذ هم يتصورون أن هؤلاء أكثر دقة في أبحاثهم، فهذا واحد منهم هو المستشرق الألماني (درمنجهام) يقول متحدثاً عن كفالة أبي طالب لمحمد عليه السلام بعد وفاة جده، وعن لقائه الراهب بحيرة:
(إنه لم يكن غنياً، فلم يُتّح له تعليم الصبي الذي بقي أميّاً طول حياته، ولكنه يستصحبه في التجارة، فيسيِّر القوافل خلال الصحراء، يقطع هذه الأبعاد النائية، إنه في إحدى هذه الرحلات إلى الشام التقى (بحيرة) في جوار مدينة بصرى، وأن الراهب رأى فيه علامات النبوَّة على ما تدل عليه أنباء كتبه.)( ).
وقد يرد هنا على الخاطر عديد من الأسئلة المماثلة ــ على نحو ما ــ لما ورد في مسألة الغلام الأعجمي. منها:
إذا كان لبحيرة الراهب مثل هذا العلم، وتلك القدرات الخارقة، فلماذا آثر بها محمداً على نفسه أولاً، وعلى سادة قريش ثانياً؟ لماذا لم يحاول أن يكتسب بما لديه جاهاً ومكانة لدى القوم؟ وما هي مصلحة بحيرة الراهب في أن (يمنح) محمداً قرآناً كان هو أولى به وأحق، وهو على دين مختلف مؤمن به ومقيم عليه كي يعينه على الدعوة لدين جديد غير دينه؟
سؤال آخر يرد على الذهن هو:
كيف عمد محمد ـ مادام الفضل للراهب بحيرة فيما أتى به ـ إلى التعرض إلى عنصر أساسي في معتقد بحيرة نفسه، دون أن يثير في الرجل من الضيق والحنق ما يدفعه إلى كشف المستور إزاء رجل ينكر عليه فضله؟ ألم تأت آيات قرآنية تصحح ما كان يعتقد النصارى في ذلك الوقت في مسألة الصلب؟ كهذه الآية التي تعارض معتقد بحيرة في مسألة الصلب تحديداً:
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (النساء:157-158)
ألم يكن حرياً بمحمد ألا يصدم بحيرة في معتقده. ألم يكن أولى به وأجدر أن يجامل الرجل، على الأقل، فيقره على ما يعتقد تفادياً لإثارة خلاف أو مشاحنة بينهما؟
أما اليهود فحين اتهموا مريم العذراء بما هي بريئة منه:
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً (النساء:156)
فقد جاء القرآن يرد عليهم من جهة ويؤكد في الوقت نفسه تنزيه الله عن أن يكون له ولد الأمر الذي كان في جزئيته الأخيرة هذه ضمن معتقد بحيرة. فجاءت الآيات تقول:
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً. قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً. وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً. وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً. وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً. ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (مريم:29-35)
وإذا كان لبحيرة أن يصبر على كل ذلك فإنه لن يطيق الصبر ابداً عندما يسمع محمداً يتلو هذه الآيات.. التي ستكون في هذه الحالة من عنده، أي من عند محمد لا من تعليم بحيرة:
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (المائدة:116-118)
وهناك آيات كثيرة في هذا المنحى. فهل هذه الآيات لمحمد أم لبحيرة الراهب، أم إنها كلمات الله؟
غير أن هذه الافتراءات لم تتوقف على مرّ الزمان، وإن هي لم تصمد أمام نور الحق. وقد جاء أخيراً ــ فضلاً عن آخرين ــ المدعو سلمان رشدي ليضيف في روايته (آيات شيطانية) ضمن السياق اسم »سليمان« (كمعلم) لمحمد. ولسنا نعرف عن أي سليمان يتحدث. فلعله يقصد الصحابي (سليمان الفارسي)، وما ذلك إلا كيلا يبقى لعربي ـ حتى لمحمد نفسه ـ أي فضل أو دور في دين وحضارة وثقافة. لابد أن يكون المعلم والموجه والسيد للعربي دائماً أجنبياً..! وهي ذاتها مقولات دائمة للغربيين عنا. ينكرون تاريخنا الحضاري العريق، وما قدمته حضارتنا من علوم في شتى ضروب المعرفة نهل منها الغرب، وبنى عليها مدنيته القائمة ثم تنكر لها. وهذا القول ليس دائماً من عندنا. وإنما قاله كثيرون منهم.
يقول المفكر النمساوي (ليوبولد فايس) في كتابه (الإسلام على مفترق الطرق)( ):
(ليس من الضروري أن نستشهد بآيات القرآن الكريم للدفاع عن موقف الإسلام من العلم أو بأحاديث الرسول. إن التاريخ يبرهن أنه ما من دين أبداً حثَّ على التقدم العلمي كما حثَّ عليه الإسلام. وإن التشجيع الذي لقيه العلم والبحث العلمي من الدين الإسلامي انتهى إلى ذلك الإنتاج الثقافي الباهر في أيام الأمويين والعباسيين ودولة العرب في الأندلس. وإن أوروبة لتعرف ذلك حق المعرفة لأن ثقافتها هي نفسها مدينة للإسلام بتلك النهضة بعد قرون من الظلام الدامس).
ويقول المفكر الفرنسي موريس بوكاي:
(على حين كانت تفرض القيود على التطور العلمي في بلداننا المسيحية، أنجزت كميات عظيمة من الأبحاث والمكتشفات بالجامعات الإسلامية. في ذلك العصر كان الباحث بهذه الجامعات يجد وسائل ثقافية عظيمة. ففي قرطبة كانت مكتبة الخليفة تحتوي على أربعمائة ألف مجلد، وكان ابن رشد يعلِّم بها. ولهذا السبب كان الكثيرون يسافرون من مختلف بلاد اوروبا للدراسة في قرطبة مثلما يحدث في عصرنا أن نسافر إلى الولايات المتحدة.. ولكم نحن مدينون للثقافة العربية في الرياضيات وعلم الفلك والفيزياء (البصريات) والجيولوجيا وعلم النبات والطب (ابن سينا) إلى غير ذلك..
(وبعد عصر النهضة في أوربا، كان رد الفعل الطبيعي أن يأخذ العلماء بثأرهم من منافس الأمس وهذا هو الثأر مستمر حتى اليوم..)( ).
أما الباحثة المؤرخة (زيجريد هونكه) المتوفاة (عام 2002) فتقول:
(إن الإسلام هو ولاشك أعظم ديانة على سطح الأرض سماحة وإنصافاً. نقولها بلا تحيز، ودون أن نسمح للأحكام الظالمة أن تلطخه بالسواد إذا ما نحَّينا هذه المغالطات التاريخية الآثمة في حقه، والجهل البحت به. وإن علينا أن نتقبل هذا الشريك والصديق، مع ضمان حقه في أن يكون كما هو)( ).
ولها كتاب قيِّم في هذا الصدد عنوانه: »شمس العرب تشرق على الغرب« تقول في مقدمته:
(أقول بمرارة، إن الناس عندنا لا يعرفون إلا القليل عن جهودكم الحضارية الخالدة ودورها في نمو حضارة الغرب. لهذا صممت على كتابة هذا المؤلَّف، وأردت أن أكرِّم العبقرية العربية وأن أتيح لمواطني فرصة العودة إلى تكريمها. كما أردت أن أقدم الشكر للعرب على فضلهم، الذي حرمهم من سماعه طويلاً تعصُّبٌ ديني أعمى أو جهل أحمق.
آمل مخلصة أن يحتَّل هذا الكتاب مكانه في العالم العربي أيضاً كسجل لماضي العرب العظيم وأثرهم المثمر على أوروبا والعالم قاطبة)( ).
وتقول أيضاً:
(لقد صار العالم العربي ــ في قرون التخلف الوسطى للغرب ــ المؤسس لعلوم الكيمياء العضوية. ولم يتردد في امتحان الفروض اليونانية وإخضاعها لمقاييس النقد التجريبية، وكان معظمها لا أساس له سوى التخمين..
(إن إنجازات علماء العرب من أطباء وكيميائيين ورياضيين وفلكيين ومخترعاتهم هطلت على أوربا كالغيث على الأرض الميتة، فأصابها قروناً وخصَّبها في نواح متعددة.. لقد قدموا البواعث التي أشعلت الشرارة الأولى لإطلاق البحث العلمي الذي كان منذ القرن التاسع الميلادي مشلولاً ويكاد يموت خنقاً، وذلك بسبب عدم السماحة الكنسيَّة، والملاحقة والمنع والتحريم الذي فاق كلَّ حد.)( ).
وهناك آخرون غير (وليم موير) إما كانوا موضوعيين، أو كانوا مشيدين بالإسلام ونبيِّه منذ القرن الثامن عشر أمثال: كوسان، وسبرنجر، وبارتملي، وكاستري وغيرهم، أو كانوا ممن صرفهم عداؤهم عن رؤية الحقيقة، أو هم قد رأوها، ولكن تعصبهم أبى عليهم الإقرار بما انطوى عليه الإسلام من هدي للبشرية، ومزايا ومكونات قيمية إنسانية لا تحصى ولا وجود لها في غيره، سماوياً كان المصدر أم وضعياً لأنه ــ القرآن ــ جاء مكملاً لما سبقه من رسالات سماوية.
كان يكفي هؤلاء أن يروا كيف أن محمداً عليه السلام ساوى بينه وبين سابقيه من الرسل، وأن الإسلام يلزم المسلم الإيمان بمن سبق محمداً من الرسل قبل محمد عليه السلام، في حين أن أتباع الديانات الأخرى لا يقرون برسالته، هذا إن هم لم يتنكروا لها ويناصبوها العداء والكره ويبادروها الحروب.
وقد نذكر من بين هؤلاء، على سبيل المثال، مستشرقون ممن أساءوا إلى الإسلام ونبيه، بما اجترحوا من أكاذيب، وما حملوا من تعصب، فأنشأوا الكتب ودبجوا الدراسات في هجوه، وتعمدوا إساءة التفسير للقرآن، بحيث كانوا يخلصون إلى استنتاجات وتخرصات لا أساس لها، ولا تمت بصلة لما ترمي إليه آياته. كانت بحوثهم وكتبهم لا تقوم إلا على أساس من سوء الظن وخبث الطوية، وليس سوء الفهم وحده. من هؤلاء:
جولد زهر، وغولدكي، وبارتملي، وبيترسون سميث، وبيير باسكال، وجان داماسين، وتدجن، وفوستر وغيرهم وغيرهم كثير.
ومنهم من لجأ إلى العرض التاريخي المجرد كوقائع وأحداث في السيرة النبوية، كالغزوات ومسيرة انتشار الإسلام. من هؤلاء: ول ديوارنت، وبروكلمان، وأرنولد تويبني. وهناك من أفضت به دراسته للإسلام إلى الدخول فيه مثل ليوبولد فايس وروجيه جارودي وغيرهما. وقد ألف كل منهما عدداً من الكتب في الإسلام والدعوة له. من كتب ليوبولد فايس (الطريق إلى مكة) و(الإسلام على مفترق الطرق). ومن كتب جارودي (ما يعد به الإسلام).


* * *

بشارة الأناجيل بالنبي محمد
قد نفترض أن هؤلاء لابد قد اطلعوا على الأناجيل الأربعة (متى، مرقص، لوقا، يوحنا) إضافة إلى إنجيل (برنابا). لاريب أنهم فعلوا ذلك كأبناء مجتمع مسيحي في الأصل وثقافة مسيحية، ثم كدارسين باحثين من بعد ذلك، لاسيما وأنهم قد أزمعوا التصدي للدين الآخر (الإسلام) لأسباب ليست نزيهة عن الغرض لخدمة المستعمرين من جهة،وتعزيز التوجهات العدائية نحو الإسلام من جهة، وإن كانوا يدَّعون (البحث العلمي) المجرد، و(الحيدة) النزيهة في البحث.
مادام الأمر كذلك، فهم قد قرأوا إنجيل يوحنا وإنجيل برنابا بين ما قرأوا.
ولقد بشَّرت التوراة والإنجيل بمجيء محمد عليه السلام. ففضلاً عن أن القرآن يقول ذلك ـ وهم لا يأخذون بما جاء في القرآن بطبيعة الحال ـ فإن في نصوص الكتابين السابقين ترد هذه البشارة. ولكن كتبة الإنجيل والتوراة، فيما بعد، ولأسباب يطول شرحها ــ ليس هنا مكانها ــ، عملوا على طمسها وإخفائها.
يشير إنجيل (يوحنا) إلى نبيٍّ سوف يأتي بعد المسيح عليه السلام كما بشَّر بذلك المسيح نفسه. وهناك كتاب في هذا الشأن عنوانه: (بيير كليت ـ اسم بني الإسلام ـ في إنجيل عيسى عليه السلام ـ حسب شهادة يوحنا)، لكاتبه الدكتور أحمد حجازي السقا. هو مسلم كما هو واضح من اسمه، ولكنه اعتمد في دراسته المتخصصة على مصادر مسيحية وكتّابٍ مسيحيين. ولسنا هنا في صدد إيراد المباحث الضافية في هذا الكتاب في هذه المسألة. من النصوص التي أوردها الكاتب عن إنجيل يوحنا:
قال عيسى عليه السلام:
(إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي. وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزِّياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد) [يو 13: 33-35].
(وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله باسمي، فهو يعلِّمكم كل شيء، ويذكركم بكل ما قلته لكم) [يو 14: 26].
وفي مكان آخر يقول:
(إن لي أمور كثيرة أيضاً لأقول لكم: ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق. لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية) [يوحنا 16: 4-14].
وجاء في الإنجيل عن النبي الأمي المنتظر ما يلي:
(ويدفع الكتاب لمن لا يعرف الكتابة ويقول:
»اقرأ هذا«
فيقول لا أعرف القراءة. إشعيا 29/2).
قارن هذا النص بقول محمد عليه السلام عندما جاءه جبريل متنزلاً بالوحي الأول مخاطباً إياه بقوله:
»اقرأ«
فكان جوابه:
»ما أنا بقارئ«.
أما إنجيل برنابا( ) فلا تعترف به الكنيسة. ولهذا الموضوع ـ عدم الاعتراف به ثم إخفاؤه ــ قصة لسنا هنا بصددها، تتحدث عن ظهوره واختفائه بطريقة غامضة عام 1785. الكتاب بعنوان (نظرات في إنجيل برنابا المبشر بنبوة النبي محمد عليه السلام) (لمحققه محمد علي قطب ومترجم الإنجيل برنابا الدكتور خليل سعادة).
مما جاء فيه من الأمور الجوهرية كما يقول المترجم:
أولها: قوله أن (يسوع) أنكر ألوهيته وكونه ابن الله. وذلك على مرأى ومسمع من ستمائة ألف جندي، والسكان من رجال ونساء وأطفال. والثاني: أن الابن الذي أمر الله (إبراهيم) على تقديم ذبيحة للَّه إنما هو (إسماعيل) لا (إسحاق)، وأن الموعد إنما كان بإسماعيل. والثالث أن (مسيِّا أو المسيح) المنتظر هو (محمد). وقد ذكر (محمداً) باللفظ الصريح. وقال إنه رسول الله، وأن (آدم) لمَّا (طرد( )) من الجنة رأى مسطوراً فوق بابها بأحرف من نور: »لا إله إلا الله محمد رسول الله«. والرابع أن (يسوع) لم يُصلب، بل حُمل إلى السماء، وأن الذي صُلب إنما كان (يَهوذا) الخائن الذي شُبِّه به، فجاء مطابقاً للقرآن: »وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبِّه لهم«.

* * *

إنجيل برنابا
هناك معلقون من الغربيين يؤكدون تعمد إخفاء (إنجيل برنابا). فقد كان هذا الإنجيل موضوع أخذ ورد، وخلاف، بين فرقاء عديدين في الأوساط المسيحية من جهة ـ أي فيما بين الكنائس المسيحية ـ وبين بعض من اهتموا بالمسألة من علماء المسلمين. ويقال إن هذا الإنجيل أقرب ما يكون إلى الإسلام في مسألة التوحيد ـ الإله الواحد الذي لم يلد ولم يولد ـ وكون نبي الله عيسى عليه السلام ابن السيدة مريم العذراء، وضعته من غير أب، معجزة من الله بما يتطابق مع ما جاء في القرآن الكريم (من روح الله) الآية:
قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً. قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً. قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً. فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً. فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً (مريم:19-23)
كما أنه يبشر على لسان المسيح عيسى بن مريم عليه السلام برسول يأتي من بعده بالاسم. وقد صدَّق القرآن ذلك في قوله تعالى:
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (الصف:6)
وقوله:
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (لأعراف:157)
وها هو الزمان نفسه يثبت صدق نبوءتين عظيمتين:
بشارة عيسى عليه السلام بنبيِّ من بعده اسمه أحمد (محمد) بدليل أنه لا نبيَّ جاء بينهما تحت اسمٍ آخر.
وإعلان محمد عليه السلام بأن لا نبيَّ بعده. وتأكيد ذلك بقوله تعالى له بأنه رسول الله وخاتم النبيين:
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (الأحزاب:40)
ولم يظهر نبيٌّ بعده حقّاً وأبداً.
هذا قول الله سبحانه كيما يصدق على مرِّ الأيام..؟

* * *

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 14 / 07 / 2008, 26 : 12 AM   رقم المشاركة : [5]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: القرآن ومحمد .... لمؤلفه : د.يوسف جاد الحق

الفصل الثالث
التحدي المعجز بتفرد القرآن




[align=justify]
التحدي المعجز
يتحدى القرآن الكريم سائر البشر، في شتى العصور، تحدياً ما انفك قائماً دون أن تتسنى لأحد القدرة على ردّه وإبطاله. يقول تعالى:
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (البقرة:23-24)
تحدِّ واثق قاطع. فهل لعاقل أن يطلقه دون أن تكون لديه قناعة يقينية في صموده للتحدي؟ ألا يتوقع محمد أن يأتي أحد بمثله، لو كان هذا كلامه؟ لاسيما وأن الأنموذج المثال أمسى في المتناول بين الأيدي مما يتيح التعلم منه، والنسج على منواله. أي أنه لن يبدأ من فراغ أيضاً. وهذا تسهيل للمهمة متاح. وهو إذ يطلب إليهم، وإلى شهدائهم الإتيان بمثله فإنه يؤكد جازماً ـ في الوقت ذاته ـ بأنهم (لن يفعلوا). (لن) هنا تفيد المستقبل بغير حدود في الزمان. فالإخفاق مآلهم لو حاولوا. وهذا ما حدث فعلاً. فها نحن بعد نيِّفٍ وأربعة عشر قرناً نرى أن التحدي ما انفك قائماً. هذا على الرغم من رغبة أعداء الرسول، بل وسعيهم الحثيث إلى إبطال الرسالة وتكذيبها.
أسئلة كثيرة يمكن طرحها هنا:
لماذا لم يفعلوا؟
لماذا آثروا الاقتتال وخوض المعارك في بدر وأحد وحنين والأحزاب؟
ألم يكن أسهل عليهم لو اجتمع بعضهم إلى بعض وألَّفوا لهم سورة مثلاً؟
كان من شأن ذلك أن يوفر عليهم خسائر في الأرواح والأموال ما كان أغناهم عنها. ناهيك عن مهانة الهزيمة والخذلان. أم ترى أن ذلك كان متعذراً على قريش سيدة البلاغة في سائر بلاد العرب؟
إذا كان الكلام (القرآن) لمحمد فكيف عرف أن قريشاً سوف تعجز قطعاً عن ذلك..؟
ويمضي التحدي إلى مدى أكثر بعداً وأوسع شمولاً:
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (الإسراء:88)
ليس البشر وحدهم المقصودين بالتحدي، وإنما الجن أيضاً.
فلماذا عجز كافة الخصوم، على مرِّ التاريخ عن قبول التحدي؟
هل كان محمد واثقاً إلى هذا الحد من أن المستقبل لن يبطل هذه الدعوة المتحدية إلى حدّ المغامرة لو كان المتحدي واحداً من الناس؟
ويقول تعالى في آيات أخرى:
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (هود:13-14)
هذه التحديات سمعها بلغاء العرب فوقفوا حيالها عاجزين تماماً، وعلى مدى نيِّف وعشرين سنة من حياة الرسول، فراحوا من ثم يصفونه بالساحر حيناً والمجنون حيناً تبريراً لذلك العجز. ولو أنهم استطاعوا شيئاً غير ذلك لفعلوا.
ولا يغفل القرآن تصوير هذه الحالة فيقول تعالى مخاطباً نبيَّه:
قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (يونس:16-17)
يطلب الله تعالى إلى محمد عليه السلام، في الآية الأولى، أن ينفي عن نفسه القدرة على ما نسبوه إليه، وأن يحاجهم بالمنطق، مذكِّراً إياهم بأنه لبث فيهم عمراً، نحواً من أربعين سنة قبل ذلك دون أن يدَّعي أنه رسول يتلقى الوحي عن ربِّه، فلماذا يأتيهم بهذا الآن؟ ثم يندد في نهاية الآية بحمقهم وسفه عقولهم في صيغة تساؤل استنكاري موجه إليهم: »أفلا تعقلون«. كما يصفهم في الآية الثانية بالافتراء على الله الكذب وأن ذلك جريمة لن يفلح مقترفها.
إنه إذن وحي يتلقاه الرسول. وهو مكلَّف بنقله إليهم وإلى سائر البشر. ولو كان مدعياً أو كان هو صاحب القول هل كان في حاجة لإعلان خوفه من (عذاب يوم عظيم) فيما لو عصى ربه إذعاناً لرغباتهم ومسايرة لأهوائهم كما نقرأ في نهاية الآية التالية:
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (يونس:15)
وهاتان الآيتان في السياق:
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ. فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (الطور:33-34)
لماذا لم يأت القوم بحديث مثله لينتهي الأمر، ولا يحتاجون، من ثم، إلى أن يعرضوا عليه المال والملك والجاه؟ كما أنهم لا يحتاجون إلى الدخول معه في صراع فكري ومجتمعي، ثم عسكري بعد ذلك، على مدى عقدين من الزمن وأكثر.
ونكرر تساؤلنا:
أما كان هذا أسهل عليهم، من أي شيء آخر، لو أنهم وجدوا إليه سبيلا؟
ولننظر إلى وقع هذه الآيات على النفس. وهل يمكن لإنسان ذلك العصر صوغها على هذا النحو؟ ذاكراً مواقع النجوم المجهولة ـ علمياً ـ يومئذٍ؟ ناهيك عن عظمة موضوع جواب القسم »إنه لقرآن كريم«. الآيات:
فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (الواقعة:75-80)
يعلم القائل ـ وهو الله تعالى ـ أنهم حتى ذلك الحين لا يعلمون معنى القسم بمواقع النجوم لتخلف علومهم وقصورها يومئذٍ عن بلوغه.
والآيات التالية في المعنى نفسه:
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوَارِ الْكُنَّسِ. وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ. وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ. إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ. وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (التكوير:15-22)
يتلو محمد (عليه السلام) آيات التحدي هذه دون أن يداخله شك، أو تعتريه خشية من إمكان قبولهم التحدي واحتمال نجاحهم فيه. وها نحن نرى اليوم ما وصل إليه العلم في آفاق المعرفة، كما نرى آلافاً مؤلفة من الدارسين وعلماء اللغة واللسانيات، ومدارس بنيوية وتفكيكية ورمزية وما إليها، كما أن هناك أعداداً لا حصر لها من الجامعات وحملة الدرجات العلمية العليا كالدكتوراه، إلى جانب المفكرين والمبدعين في الشرق والغرب، وسائر أرجاء المعمورة، وبينهم الكثير من خصوم الإسلام الحريصين على الطعن فيه، وقد عجز الجميع تماماً كل هذا الزمن عن الإتيان بسورة أو حتى بآيات محدودة من مثله.
يقول المفكر الهندي وحيد الدين خان:
»إنه أغرب تحدٍّ في التاريخ، وأكثره إدهاشاً. فلم يجرؤ أحد من الكتاب في التاريخ الإنساني ـ وهو بكامل عقله ووعيه ـ أن يعلن عن تحدٍّ مماثل. إن مؤلفاً ما لا يمكن أن يضع كتاباً، يستحيل على الآخرين أن يكتبوا مثله، أو جزءاً منه. فمن الممكن إصدار مثيل من أي عمل إنساني في أي مجال، ولكن حين يدعي أن هناك كلاماً ليس في إمكان البشر الإتيان بمثله، ثم تخفق البشرية، على مدى التاريخ، في مواجهة التحدي، حينئذٍ يثبت تلقائياً أنه كلام غير إنساني، وأنها كلمات صدرت عن صميم المنبع الإلهي لا يمكن مواجهة تحدياته«( ).


* * *

محاولات التقليد
وقد حدث أن حاولت كثرة من الأقدمين التنطع للإتيان بما يرد التحدي القرآني. منهم لبيد بن ربيعة. فعندما سمع لبيد (وهو من أصحاب المعلقات) أن محمداً يتحدى الناس بكلامه قال أبياتاً علقها على باب الكعبة. وحين رآها أحد المسلمين أخذته العزة فكتب بعض آيات الكتاب الكريم، وعلقها إلى جوار أبيات لبيد الذي مرَّ بباب الكعبة في اليوم التالي، ولم يكن قد أسلم بعد، فأذهلته الآيات القرآنية، حتى إنه صرخ قائلاً: (والله ما هذا بقول بشر. وأنا من المسلمين).
وأمثلة أخرى لأناس حاولوا مواجهة التحدي. من هؤلاء مسيلمة بن حبيب (الكذاب) وطليحة بن خويلد الأسدي، والنضر بن الحارث، وأبو الحسين الراوندي، وأبو الطيب المتنبي، وأبو العلاء المعري صاحب كتاب (الفصول والغايات في مجاراة السور والآيات).
إذا كان هؤلاء جميعاً وغيرهم كثير ـ وهم ليسوا أميين ـ بل شعراء وبلغاء، وأصحاب مواهب، قد أخفقوا إخفاقاً ذريعاً، فماذا يعني ذلك؟
الآيات التي وردت في القرآن متحدية قريش، لم تحدد شروطاً معينة، كالطول والقصر والمساحة. فهي لم تحدد مثلاً ـ كما يحدث في المسابقات لنيل الجوائز..! ـ شروطاً بعدد الكلمات أو الصفحات، أو عمر المتقدم للمسابقة..! وشروط المهلة للتقدم بالعمل..! أو أية شروط أخرى، بل جاءت على إطلاقها، مفتوحة دون قيود ــ في الزمان أو المكان ــ سوى أن تكون مماثلة للنص القرآني. حتى أنها لم تطلب إليهم سوى النظم على غراره. أي أن التحدي كان مقصوراً على طلب المعارضة بمثله شكلاً، حتى دون الالتزام بالحكمة والقيمة. والمضمون. ليس مطلوباً إلا النظم والأسلوب، وهم أهل اللغة والبيان. والقرآن فيه سور طويلة جداً كالبقرة، وآل عمران، والنساء (286-200-176 صفحة على التوالي) وفيه السور القصيرة جداً التي لا تعدو السورة منها السطر والسطرين (العصر، والكوثر، والنصر، والإخلاص). معنى هذا أن القرآن يتحداهم الإتيان ولو بسطر أو سطرين لا أكثر. ألا ما أسهل الأمر إذن؟ ويا لها من فرصة (تاريخية) متاحة لقريش، وسائر المناوئين المعارضين المنكرين، منذ ذلك الزمن البعيد وحتى يومنا هذا. هل عجزت الآلاف، بل الملايين المتكاثرة من هؤلاء، على مر الزمان، من عرب وعجم عن أن يأتوا بهذا السطر الواحد مماثلاً لسورة تتألف من سطر واحد؟
وقد حدث أن الذين قاموا بمحاولات في هذا الصدد مؤملين النجاح، عمدوا فعلاً إلى تقليد السور القصيرة تيسيراً للأمر. فماذا حدث؟ لقد باءوا جميعاً بالفشل الذريع والخذلان المبين.
فها هو ذا مسيلمة يقوم بالمحاولة، فتكون النتيجة هي هذه الفجاجات، من قبيل: (والشاة وألوانها، وأعجبها السواد وألبانها، والشاء السوداء، واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد مرم المذق، فما لكم لا تمجعون).
وهذه أيضاً على شاكلتها:
(والمبديات زرعاً، والحاصدات حصداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات خبزاً، والثاردات ثرداً، واللافحات لفحاً، إهالة وسمناً، قد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعتر فآووه، والباغي فناوئوه..!)( ).
أما سجاح فقد جاءت بما هو (أبلغ) من زميلها مسيلمة فقالت لهذا عندما سألها: أوحى الله إليك؟ ثم قرأت له:
(ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، ما بين صفاق وحشا)( ).
ويا سبحان الله، فلأنها امرأة جاءتها (آيات) خاصة بالمرأة..!
ولنلاحظ هنا أيضاً أنها اقتبست جزءاً من آية قرآنية هي /ألم تر كيف فعل ربك/ ثم أضافت تفاهاتها.
ومما قالته أيضاً:
(إن الله خلق الناس أفواجاً، وجعل الرجال لهن أزواجاً، فنولج فيهن مقساً إيلاجاً، ثم نخرجها إذا شئنا إخراجاً، فينتجن لنا سخالاً نتاجاً)( ).
ومحاولة أخرى من هذا القبيل لابن الراوندي، وهي أن جماعة من الملاحدة دعته للقيام بالمهمة، فأخبرهم أنه يحتاج إلى سنة كاملة لإنجازها، وأن عليهم، من ثم، أن يتكفلوا بما يحتاجه خلال تفرغه هذه المدة ففعلوا. ولما عادوا إليه مستطلعين بعد نصف سنة، وجدوه مستغرقاً في التفكير، والقلم في يده، والأوراق الممزقة متناثرة من حوله. وعندها اعترف لهم، وهو في ضيق شديد وخجل، أنه أخفق في أن يأتي بآية واحدة تشابه آيات القرآن.
وإذا كان لابد من مثال شديد الوضوح فذلك هو أبو الطيب المتنبي، سيد الشعر وأمير البيان. ألم يكن الرجل مالئ الدنيا وشاغل الناس في زمانه؟ وربما هو كذلك حتى زماننا هذا. وقد أطنب الرجل في وصف نفسه لفرط ثقته واعتزازه بمواهبه الإبداعية البيانية إذ يقول مفاخراً:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
ويقول اعتداداً:
أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جرَّاها ويختصم
لقد توفر للمتنبي من الأسباب ـ ما لم يتوفر لمن سبقه في مضماره ـ مما كان حريّاً بها أن تمكنه من النجاح في مسعاه ومبتغاه. فلقد جاء المتنبي وأمامه القرآن كاملاً بحيث يمكنه السعي إلى تقليده والنسج على منواله. ناهيك عن أنه جاء في زمن انتشار الثقافة العربية الإسلامية في سائر الأرجاء من العالم المعروف يومذاك. وكانت رفوف المكتبات تغصُّ بكتب الحديث والدراسات والأبحاث والعلم ـ ومنها علم الكلام ـ فكانت لديه، وبين يديه ذخيرة وفيرة هائلة، جديراً بها أن تهيئ له نجاحاً متميزاً. ولكن وعلى الرغم من كل ذلك، لم يخفق المتنبي في سائر حياته إخفاقه في ادعائه النبوة، الصفة التي غدت ـ برغم ذلك ـ لصيقة باسمه لا يعرف إلا بها، فهي إذن لم تكن شبهة أو اتهاماً ظالماً له من قبل شانئ أو حاسد، بل كانت نتيجة مسعى كان جاداً فيه كل الجد. لكأن الكلمة تحمل إيحاءً بمعنى السخرية من حاملها في مضمار لم يكن له من نصيب فيه سوى الخذلان. وربما لا يعرف أحد من الذي أطلقها عليه يومئذٍ.
نصوص المتنبي التي طلع بها على الناس، زاعماً أنها وحي من عند الله وأن الله اختاره نبياً، جاءت على قدر من التهافت في صياغتها والتدني في مضمونها ومستواها، لغة وبياناً على نحو لا يصدق إذا ما قورنت بشعره العظيم.

* * *

أمِّية الرسول
لمزيد من الإيضاح في هذه المسألة يمكننا أن نقول:
من الثابت أن محمداً (عليه السلام) كان أميّاً لا يقرأ ولا يكتب. عُرف بذلك بين قومه في مكة ذاتها. لم ينكر ذلك أحد من معاصريه ولم يجادل فيه أحد منهم. ولو كان الأمر غير ذلك لقالوه منذ البداية وأراحوا واستراحوا. فهو لم يذهب إلى مدرسة ولم يتلق العلم على يد أحد وإلا لواجهوه بذلك حين تنزلت به الآيات. كان هذا اسهل شيء عليهم لكي يكذِّبوا دعوته. وما كان في وسع محمد إخفاء الحقيقة عنهم في ذلك المجتمع الضيق المحدود، الذي يكاد أن يعرف فيه كل امرئ عن الآخر كل شيء. لاسيما وأنهم مجتمع المفاخرة بالعشيرة والقبيلة والصفات الشخصية، كما في الكتابة والأدب بالشعر، وما المعلقات وسوق عكاظ سوى أمثلة من ذلك.
نعرض لهذه المسألة ردَّاً على بعض معاصرينا ممن ذهبوا إلى القول بأن محمداً لم يكن أميّاً. وأن كلمة (أمي) في القرآن كقوله (النبي الأمي) وقوله (الذي جعل في الأميين رسولاً منهم) تعني (الأمميين) أي الأمم وليس جهل الكتابة والقراءة. ولكننا في الحقيقة لا نعرف أحداً يفاخر مدعياً بأنه (أمي) حين لا يكون كذلك. بل إنه لبديهي ومنطقي أن يفاخر المرء بعلمه ومعرفته القراءة والكتابة وليس العكس. فلماذا يصف محمد نفسه بالأمي إذا لم يكن أميّاً فعلاً. بل ماذا يفيد محمد من الإصرار على أنه أمي..؟ ما هي وجهة نظره في المسألة وماذا يضيره ــ لاسيما إذا كان القرآن كلامه هو كما يدَّعون ــ أن يكون متعلماً وقارئاً وكاتباً.؟ وهل يُنقص ذلك شيئاً من قدره أو قيمة ما جاء به..؟ أم أن العكس هو الصحيح؟
من المألوف عادة، ولدى الناس كافة أن يباهي الإنسان بنتاجه الإبداعي، الأدبي والعلمي، إن وجد. ويحرص على نسبته إليه دون غيره من الناس، حتى إنه ليدخل معارك مع الآخرين لو حدث أن تجاهلوا مصدره، وتجرأوا على انتحاله، أو حتى مجرد الاقتباس عنه، دون الإشارة إلى صاحبه. فلماذا ينسب محمد هذا الكتاب المعجز لغيره إذن؟ لماذا ينكره فيقول أنه ليس كلامه بل هو كلام الله؟ ولماذا يخرج على عرف إنساني معروف ونزعة بشرية مألوفة؟ إن المبدع ـ أيّاً كان مستوى إبداعه حتى لو لم يكن على درجة عالية ـ لا يرضى أن تنسب لغيره صفحة، بل عبارة، مما أبدع. وإذا ما حدث هذا فإنه يعدُّه (سرقة أدبية) يقيم الدنيا ولا يقعدها على رأس الجاني، وقد يقاضيه على ذلك.
إن معظم كتَّاب العربية اليوم ـ حتى الذين لا يؤمنون بالرسالة وبمصدر القرآن ـ يسعون إلى الارتفاع بمستوى كتاباتهم بما يضمنونها من آيات قرآنية أو مقاطع منها، ويسمون ذلك (تناصّاً) و(تضميناً). ونحن نرى اليوم أن الكاتب المجيد هو من تتلمذ على القرآن وتأثر به، فتكونت لديه ملكة البيان وإشراقة العبارة، وموسيقى الإيقاع. بل إن أعظم كتاب عصرنا من العرب ــ فضلاً عن العصور السابقة ــ من مسلمين ومسيحيين هم من تأثرت كتاباتهم بالقرآن. ونذكر من هؤلاء طلائع النهضة في بدايات القرن الماضي: رفاعة الطهطاوي، محمد عبده، جمال الدين الأفغاني، الرافعي، المنفلوطي، طه حسين، العقاد، باكثير، السحار، رشيد رضا، رشيد الخوري، خليل مطران، جبران، محمد حسين هيكل وغيرهم. كان أغلبهم من خريجي جامعة الأزهر(*)، الصرح الذي حافظ على اللغة العربية لأكثر من ألف سنة خلت.
ناحية أخرى جديرة بالانتباه نعرض لها. من المتعارف عليه أن الرجل هو الأسلوب، والأسلوب هو الرجل. قاعدة معروفة. وما من كاتب إلا ويُعرف بأسلوبه، فقاموسه وكافة أدواته من لغة وغيرها هي ذاتها التي يستخدمها في كل ما يكتب. وإذا حدث اختلاف أحياناً بين كتاب وآخر للمؤلف، فإن ذلك يعود إلى النوع ــ الجنس الأدبي ــ الذي يختاره الكاتب كالفرق بين نص مسرحي وآخر قصصي أو شعري، وتظل المسألة نسبية مع ذلك، بحيث يشي كل من هذه النصوص بأسلوب الكاتب الواحد ويدل عليه. ولكن الشيء المؤكد الذي لا جدال فيه هو أن الكاتب لا يمكنه أن يصدر عملين فيأتي الفارق بينهما في الأسلوب كما هو الفارق بين الحديث والقرآن. فكيف تأتَّى لمحمد أن يصطنع لنفسه أسلوبين متباينين إلى هذا الحد؟ فالحديث واضح في لغته، دالٌّ بنفسه على أنه ليس القرآن، ولا هو قريب منه في شيء، والقرآن كذلك مفارق للغة الحديث مفارَقةً بيِّنة وبائنة. هذا على الرغم من أن حديث الرسول عظيم البلاغة في مقاييس الكلام البشري. أي أنه على الرغم من بلاغته، ليس كالقرآن أبداً، لا من قريب ولا من بعيد. حتى أن أي ذي إلمام باللغة في وسعه التمييز بين الحديث والقرآن فور سماعه النص لسطر واحد أو عبارة واحدة، ليدرك للتو أنه القرآن أو أنه الحديث. وحين يصرُّ أحدهم ــ مكابرةً أو جهلاً ــ على أن كلاهما لمحمد، برغم الفارق بينهما، يتوجب عندئذٍ السؤال عما هي الحكمة في أن ينسب محمد لنفسه النص الثاني منزلة، والأول لغيره، أي إلى الله..؟ وهل هذا من صفات البشر، في فطرتهم وأحوالهم النفسية المعهودة عنهم؟ أليس القرآن ونسبته إليه مفخرة له تؤهله لأن يتيه بها على سائر الناس لو كان هو مبدعه؟
لماذا يتنصل محمد من نسبة ما جاء في القرآن إلى نفسه؟ أيّ مأخذ أو ضير عليه في ذلك لكي يتفادى نسبته إليه؟
لماذا لا يباهي القوم بعلمه وسعة اطلاعه حين يأتيهم بآيات تقص عليهم كل عجيب وغريب من أنباء الأولين، بل على العكس من ذلك يؤكد لهم بالآيات نفسها أنها ليست من لدنه. كما في الآية:
تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (هود:49)
فهل استطاع أحد (من قومه) أن يتصدى لهذا القول بتكذيب، فيزعم أنه كان يعلم (قبل هذا) شيئاً من أنباء الغيب التي يقول محمد فيها أنها أوحيت إليه؟ بل إن الآية تقول لمحمد نفسه أيضاً أنه ما كان يعلم شيئاً من ذلك ولا قومه أيضاً. بصيغة أخرى يمكننا أن نتساءل:
لماذا لم يتصدَّ القوم لإنكار ما ورد في هذه الآية بشأن جهلهم فيعلنوا من ثم، عن علمهم بتلك الأنباء (من قبل) وأنه لم يأتهم بجديد. ما هو تفسير صمتهم المطبق إزاء تحدٍّ من هذا القبيل يدمغهم فيه بالجهل والافتقار إلى العلم والمعرفة؟
وإذا كان محمد سيوطِّد النفس على الصبر، كما تطلب الآية، فلماذا الإعلان عن ذلك؟ بل هو يمضي إلى أبعد من هذا حين يأتيهم بآية تزيد في إحراجهم وإفحامهم بصيغة السؤال الاستنكاري، مبتدئة بالتنديد بعدم تدبرهم وتفكرهم في هذا القرآن، ومصدره:
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (النساء:82)
أين هم متعلموهم ومثقفوهم، بلغاؤهم وعلماؤهم لكي يتصدوا له ويثبتوا بطلان القول، إذ هم يعيشون الظروف نفسها، والمجتمع ذاته، بما في ذلك إلمامهم، بالضرورة، بمعارف العصر وعلومه أيّاً كان شأنها وكانت ماهيتها..؟
(أيُّ أميِّ في التاريخ غير محمد صلى الله عليه وسلم، يقطع مرحلة الشباب وديعاً هادئاً لم يؤثر عنه علم ولا شعر ولا خطابة، ولا إبداع العباقرة، ولا وثبات الأبطال والزعماء ثم ينفتح في الأربعين على عالم حيث الله يدبر النظام، ويهيمن على أسراره، فيصلح أديان البشر: عقائدها وآدابها وشرائعها، ويحدث ثورة روحية اجتماعية لا مثيل لها في تاريخ الإنسانية في سنٍّ لا يتأتى لمن بلغ مثلها أن يبتدئ أو يبتدع فيها علماً أو يسنَّ شرعاً أو ينهض في العالم بانقلاب عظيم ما لم يكن قد ظهر استعداده له، وأخذ مقدماته في ريعان الشباب؟)( ).
يقول تعالى:
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (الجمعة:2)
هل ألف الناس أن يجدوا بين أظهرهم من يفاخر بأميته، لكأن في العلم والتعلم ما يشين، بحيث نجد الآيات تؤكد على أمية محمد عليه السلام في أكثر من مكان ومناسبة؟ والمسألة هنا ليست عرضية أو مجانية أو عابرة. إنما هي غاية ارتأتها حكمة الله في أن يظل محمد أميّاً طول الزمن السابق للرسالة، لكيلا يزعم المرجفون المغرضون ـ في حال كونه ليس أميّا ـ بأنه درس ونقل وقرأ إلى أن كذَّبهم الواقع وكذَّبهم القرآن، لتكون أميته شاهداً على أن هذا كلام الله. وأنه ليس لأمي أن يقدر على الإتيان بمثله. ولكي يظهر من جهة ثانية عجز كافة المعاصرين والمتأخرين، الدارسين والمتعلمين أمام الأمي، عندما يتحداهم بأن يأتوا بمثله ـ كما أسلفنا ـ وفي هذا المضمار تقول الآيات بوضوح لا التباس فيه ولا اختلاف في فهمه وتفسيره:
وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (الأنعام:105-106)
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ. بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (العنكبوت:48-49)
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (الدخان:58-59)
أما سورة »اقرأ« فتصور الموقف كله، وعلى لسانه هو. تروي كتب السيرة لنا الحوار الذي جرى بينه وبن الملك جبريل( ):
في تلك الليلة كان محمد يتحنث في غار حراء كعادته، وكانت ليلة القدر. جاءه جبريل (عليه السلام) ليأمره قائلاً:
»اقرأ«
فاهتز محمد من هول الموقف قبل أن يرد في هلع:
»ما أنا بقارئ«
فيضمه جبريل بشدة ويقول:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ (العلق:1-5)
أسرع محمد عائداً إلى بيته في مكة، إلى زوجه الرؤوم خديجة (رضي الله عنها) يروي لها ما حدث وهو يرتجف ويقول:
»زملوني زملوني«
لو لم يكن القرآن من عند الله فما الذي يجبر محمداً على إبلاغ قريش بما حدث وهي التي قد تتخذ منه سبباً للإساءة إليه. كان في وسعه ألا يخبرهم بشيء من ذلك لاسيما وأن أحداً لم يشهد الواقعة. وهل لرجل في مثل مجتمع مكة أن يخبر الناس عما حلَّ به من خوف في موقف ما، إلى درجة الهلع مما يلجئه إلى أن يلوذ بزوجه فزعاً مذعوراً، ملتمساً لديها العون والسكينة؟ يأبى ذلك رجل من عامة الناس، فما بالنا برجل يسعى إلى زعامة قومه.. كما يزعمون..؟ المسألة إذن لا هذا ولا ذاك. هي بالبساطة والصدق معاً أمانة الرسول في حمل الرسالة وتبليغ ما أوحي إليه. كان الأمر جديداً عليه، وكان في وسعه إخفاءه لو شاء خشية ردة الفعل لدى القوم في أمر يصعب تصديقه، والتي أهونها تكذيبه أو اتهامه بما لا يحب.


* * *

التمايز بين الآية والحديث
وإذا نحن عدنا إلى مسألة الأسلوب من أجل مزيد من التوضيح، أمكننا أن نتساءل:
كيف تسنَّى لمحمد أن يصطنع حداً يفصل بالقطع بين القرآن وحديثه هو، لو كانا كلاهما من عنده، بحيث لا تجد أبداً حديثاً واحداً يشبه آية، ولا يحدث التباس أبداً بينهما؟ وكيف وسعه أن يفرز نصّاً عن نص، ثم يسمي هذا قرآناً وهذا حديثاً..؟ ولماذا؟ وما هي الضرورة الملجئة إلى ذلك؟ والأعجب من هذا ألا يقع اختلاط أو اشتباه بين حديث وآية في المصحف كله؟ عمل كهذا ليس في وسع فريق أكاديمي مختص إنجازه دون أن تشوبه الشوائب، أو تعتريه احتمالات الخطأ والالتباس ولو بنسبة مئوية أيّاً كانت ضآلتها. ومن ذا الذي يفعل ذلك كله وعلى هذا النحو المضني محمِّلاً نفسه هذا العناء الثقيل؟ أمي من قريش.
وهذا الذي ذهبنا إليه لا ينتقص من قدر أحاديث الرسول عليه السلام، فهو أفصح العرب لساناً كما تجمع كتب السيرة وأبحاث الدارسين من خصومٍ وموالين وإنما نقرر حقيقة لم تدحضها وقائع التاريخ ولا فنون الأدب والإبداع.
وإذا كان القرآن والحديث كلاهما لمحمد (عليه السلام) فكيف به يوجه الخطاب إلى نفسه بطريقة مختلفة في كل منهما؟ ففي الحديث يقول ما يريد قوله مباشرة، لكنه في القرآن، في كثير من الآيات ذات السمة التوجيهية والتعليمية، يبدأ الآية أو المقطع منها بكلمة »قل«، فإذا كانت الآية من عنده ــ كما الحديث ــ فلماذا اختصها بهذه الصيغة؟ لماذا لا يقول لهم ((يا أيها الكافرون)) مباشرة، بدلاً من »(قل) يا أيها الكافرون«. أو (أعوذ برب الناس) بدلاً من »(قل) أعوذ برب الناس«. هناك إذن من يأمره بالقول وهو الذي يصدع لما يؤمر. ومن مثل هذا كثير في القرآن:
»ويسألونك عن الروح (قل) الروح من أمر ربي..«. »(قل) هل يستوي الأعمى والبصير..«. »(قل) انظروا ماذا في السموات..«. »(قل) هو الله أحد..«..
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (الزمر:9)
وفي صياغة أخرى: »وإذ قال (ربك) للملائكة اسجدوا لآدم.. الآية« وكان يمكن أن يقول »وإذ قال (ربي) للملائكة..«. يستخدم هنا ضمير المخاطب وهو نفسه المتحدث، إذن هي جهة خارجةً عنه تخاطبه وإلا فما هي الحاجة إلى استخدام كلمة (قل) أي نسبة الخطاب إلى جهة أخرى آمرة ومهيمنة؟
ثم كيف تسنى لمحمد أن يأتي بهذه المواضيع التي تشمل كافة أوجه النشاط الإنساني في الحياة الدنيا، وما ينتظر الإنسان في الحياة الآخرة، دون أن يقع في خطأ أو منزلق؟ بل وأن يأتي بنبوءات مستقبلية لا تخطئ، وتثبت صحتها على مرِّ الزمن. ونُبوءات علمية استطعنا اليوم فقط معرفتها، في الحياة وأسرار الكون وخفاياه، فضلاً عن الإنسان نفسه جسداً ونفساً وروحاً.. حقاً كيف أمكنه ذلك، لو لم يكن من لدن الحكيم العليم، وليس له فيه سوى نقله عنه؟ وإذا كان ذلك كله ـ وهو غيض يسير من فيض كثير، لا يحيط به وصف ولا عدّ ليس في وسعنا الإحاطة به قطعاً ـ قد جاء به أمي لم يقرأه في كتاب، ولا درسه في جامعة، فلابد أن يكون ذلك الأمي رسولاً مبعوثاً من عند الله إلينا نحن البشر. لأنها حالة إعجاز خارق. حالة خاصة لم تحدث في تاريخ البشرية لأحد سواه. فالرسالات الأخرى جاءت على نحو مختلف. وليس هذا تهويناً من شأنها، وإنما هو وصف لواقع ما حدث.


* * *

تفرد القرآن عن سائر فنون البيان
نعرف أن في اللغة العربية الشعر والنثر. وتحت باب النثر تندرج القصة، والرواية، والمقالة، والمسرحية النثرية. أما فيما يتعلق بالشعر فيندرج الشعر العمودي، وشعر التفعيلة. هذا فيما هو معروف اليوم، يضاف إليه ما عرف في عصور سابقة بالبديع والسجع والمقامة. لكن أحداً لم يقل، قديماً أو حديثاً، بأن هناك نوعاً أو باباً ثالثاً في أبواب الأدب العربي. القرآن وحده خرج على هذه القاعدة. فهو ليس بالشعر وما هو بالنثر. هو نسيج وحده، لا يماثله شيء في فنون القول، هو قول مبتكر فريد في نوعه ونهجه لا سابق له. أليس في هذا مدعاة للتساؤل من ثم:
لماذا لم يُنسج على منواله وهو بين الأيدي على مدى القرون الأربعة عشر الماضية؟ لماذا لم يصبح لدى العرب، إلى جانب الشعر والنثر منهجاً أو باباً أو جنساً أو صنفاً أو نوعاً ــ سمه ما شئت ــ ثالثاً يماثل القرآن أو على غراره؟ إذن جاء القرآن فريداً في بابه لا شبيه له ــ كما سلف ــ، وبقي كذلك على مر الأيام. فتأكدت، من ثم، معجزته الخالدة. حتى مضاهاته أو تقليده عجز عنها سائر البشر قديماً وحديثاً.. وتحديه لهم ما برح قائماً على مر الدهور والعصور. وبقي في اللغة للعرب الشعر والنثر ولا ثالث لهما. سوى القرآن في فرادته. فلو كان القرآن صياغة بشرية، بمعنى الإبداع البشري، لأمكن ظهور جنس أدبي في العربية ـ غير الشعر والنثر ـ من قبيله على غراره ومن طرازه ثم يسود هذا الجنس وينتشر. ولأن هذا لم يحدث ففيه بحد ذاته دليل الإعجاز والتفرد بسبب وحدانية المصدر. وبقي القرآن كتاباً أوحداً لا شبيه له على مدى القرون الأربعة عشر الماضية، واستنتاجاً، وبالمنطق السليم وحده، لابد أنه سيبقى كذلك ما بقي من الزمان.
يقول صلى الله عليه وسلم:
»فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه«( ).
(وإنما يدرك أسرار تأثير القرآن في الأمة العربية أولئك الذين كانوا حين أنزل الله القرآن عَبَدة البيان. وقد سمعنا بمن استخف بأوثانهم ولم نسمع قط بأحد منهم استخف ببيانهم)( ).
خلاصة القول أن محمداً (صلعم) لم يكن يعرف القراءة والكتابة، أو حتى التوقيع باسمه. ولو عُرف عنه ذلك لدى قومه لما سكتوا عنه. وكان أسهل شيء عليهم تكذيبه عندما تلا عليهم الآيات التي تصفه بالأمي. وقد أجمع المؤرخون، مسلمون وغير مسلمين على أميته، وأهمية هذه المسألة تتأتى من كونها جاءت حائلاً دون احتمال اتهامه، من قبل منكري دعوته، بتأليف القرآن أو نقله أو اقتباسه عن كتب سابقة لزمانه، كالتوراة والإنجيل أو فلاسفة الإغريق، بما لديه من ثقافة واطلاع فيما لو كان متعلماً ذلك التعليم التقليدي المتاح لمن شاء من الناس، أو مَنْ مكنته ظروفه من تلقي العلم والتعلم بوسائل العصر المتاحة آنئذ.
لو لم يكن محمد أميّاً، وكان يعرف القراءة والكتابة فلربما اتهمه القوم بتأليفه، ولكن إرادة الله شاءت أن يكون الرسول أميّاً لحكمة يرتئيها، يقطع هذا الطريق عليهم منذ البداية. ومن هنا يمكننا فهم قوله تعالى ــ الآية التي أوردناها في مكان آخر.
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (العنكبوت:48)
صدق الله العظيم
لو لم يكن أميّاً ــ قبل البعثة ــ لما عَدتْ النظرة إليه، عندئذٍ، إلى أكثر من كونه خطيباً مصقعاً، أو شاعراً ملهماً، أو فيلسوفاً عبقرياً، أبدع نصاً تفوق فيه على المألوف في زمانه بما امتلك صاحبه من خصائص الشاعر المبدع ومؤهرت الأديب الموهوب، الأمر الذي يبرر ارتياب المبطلين ويعطيهم ذريعة رفضهم إياه على أنه رسالة منزلة من السماء.
الله الأعلم بخلقه وبما سوف يصدر عنهم شاءت حكمته أن يرسل في الأميين رسولاً منهم لا يخط كتاباً ولا يقرؤه. ما كان الرسول يتلو قبل ذلك من كتاب يستمد منه المعلومات والأخيار والنظريات، وما كان يخط بيمينه حرفاً ولا كلمة. من هنا كان الإعجاز الحق فيما أتاهم به مما لم يتح لأحدٍ من قبله ولا من بعده سواء في معجزة الشكل والبيان أو المحتوى والمضمون.
ويصدق قوله تعالى سبحانه:
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيم (النمل:6)
* * *

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 14 / 07 / 2008, 15 : 07 AM   رقم المشاركة : [6]
هشام الشويكي
كاتب نور أدبي مشارك
 




هشام الشويكي is on a distinguished road

رد: القرآن ومحمد .... لمؤلفه : د.يوسف جاد الحق

تفسير آية
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي الخير بن تميم، عن سعيد بن جُبير، قال: قال لي ابن عباس: سل، فقلت:( أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ) قال: لو شاء لجعله خفا أو حافراقال: ثنا وكيع، عن النضر، عن عكرِمة( عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ) قال: على أن نجعله مثل خفّ البعير، أو حافر الحمار
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله:( بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ) قال: جعلها يدا، وجعلها أصابع يقبضهنّ ويبسطهنّ، ولو شاء لجمعهنّ، فاتقيت الأرض بفيك، ولكن سوّاك خلقا حسنا.
]و"البنان": جمع "بنانة"، وهي أطراف أصابع اليدين والرجلين، ومن ذلك قول الشاعر:
[right]أَلا لَيْتَنِي قَطَّعْتُ مِنِّي بَنَانَةً وَلاقَيْتُهُ فِي الْبَيْتِ يَقْظَانَ حاذِرَا
واضربوا منهم كل بنان قال الزجاج: واحد البنان بنانة، وهي هنا الأصابع وغيرها من الأعضاء.
[قال القتبي والزجاج: وزعموا أن الله لا يبعث الموتى ولا يقدر على جمع العظام، فقال الله تعالى: بلى قادرين على أن نعيد السلاميات على صغرها، ونؤلف بينها حتى تستوي، ومن قدر على هذا فهو على جمع الكبار أقدر
وقال ابن عباس وعامة المفسرين: المعنى " على أن نسوي بنانه " أي نجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخف البعير، أو كحافر الحمار، أو كظلف الخنزير، ولا يمكنه أن يعمل به شيئا، ولكنا فرقنا أصابعه حتى يأخذ بها ما شاء.
[وكان الحسن يقول: جعل لك أصابع فأنت تبسطهن، وتقبضهن بهن، ولو شاء الله لجمعهن فلم تتق الارض إلا بكفيك
وقيل: أي نقدر أن نعيد الانسان في هيئة البهائم، فكيف في صورته التي كان عليها، وهو كقوله تعالى: " وما نحن بمسبوقين
على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون " [ الواقعة: 60 - 61
هشام الشويكي غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 14 / 07 / 2008, 16 : 07 AM   رقم المشاركة : [7]
هشام الشويكي
كاتب نور أدبي مشارك
 




هشام الشويكي is on a distinguished road

رد: القرآن ومحمد .... لمؤلفه : د.يوسف جاد الحق

مناسبة نزول الآية
{ أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ } نزلت في عدي بن ربيعة، حليف بني زهرة، ختن الأخنس بن شريق الثقفي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اكفني جارَي السوء، يعني: عديًا والأخنس. وذلك أن عدي بن ربيعة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد حدثني عن القيامة متى تكون وكيف أمرها وحالها؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ولم أؤمن [بك] (2) أو يجمع الله العظام؟ فأنزل الله عز وجل: "أيحسب الإنسان" (3) يعني الكافر { أَن لن نَجْمَعَ عِظَامَهُ } بعد التفرق والبلى فنحييه. قيل: ذكر العظام وأراد نفسه لأن العظام قالب النفس لا يستوي الخلق إلا باستوائها. وقيل: هو خارج على قول المنكر أو يجمع الله العظام كقوله: "قال من يحيي العظام وهي رميم" (يس-78) . { بَلَى قَادِرِينَ } أي نقدر، استقبالٌ صُرِفَ إلى الحال، قال الفرَّاء "قادرين" نصب على الخروج من نجمع، كما تقول في الكلام أتحسب أن لا نقوى عليك؟ بلى قادرين على أقوى منك، يريد: بل قادرين على أكثر من ذا (4)
مجاز الآية: بلى نقدر على جمع عظامه وعلى ما هو أعظم من ذلك، وهو { عَلَى (5) أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ } أنامله، فنجعل 180/أ أصابع يديه ورجليه شيئًا واحدًا كخف البعير وحافر الحمار
هشام الشويكي غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 15 / 07 / 2008, 41 : 12 AM   رقم المشاركة : [8]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: القرآن ومحمد .... لمؤلفه : د.يوسف جاد الحق

الفصل الرابع
الإعجاز في البلاغة
والتأثير الروحي



[align=justify]
في الشكل والمضمون
ما أكثر ما كتب، منذ التنزيل، وحتى اليوم، في ظاهرة إعجاز القرآن بلاغة ولغة وبياناً. وما أحسبني سآتي بجديد، أو بما هو أكثر أهمية في هذه المسألة. ولكن، ولأن القرآن معين لا ينضب أبد الدهر، فسيظل مصدراً للإلهام بالجديد من الفكر والرأي والعلم والرؤية لكل من سعى إلى ذلك. ولأن النور، أيّاً كان إشعاعه لا يضيره، ولا يقلل من شأنه أن تضيء شمعة، أو أن تأتي بقبس من نور، حتى وإن يكن انعكاساً للنور الأصل ذاته من على سطح مرآة صقيلة، فلا يكون والحالة هذه، إلا نبْعاً يفيض عن المصدر عينه.
من القدامى الذين تعاملوا مع موضوع إعجاز القرآن ــ على سبيل المثال ــ ابن قتيبة الدينوري، في كتابه (تأويل مشكل القرآن). والسجستاني في كتابه (نظم القرآن) وغيرهما. أما المحدثون، ومنذ بدايات القرن الماضي أو نحو ذلك فكثير. كان من روادهم الأديب مصطفى صادق الرافعي في كتابيه (السحاب الأحمر) و(إعجاز القرآن)، وعباس محمود العقاد في الكثير من كتبه (الله)، و(عبقرية محمد). ومحمد حسين هيكل في كتابه (حياة محمد). ومالك بن بني في كتب له منها (الظاهرة القرآنية). ثم توالت الكتابات بعد ذلك تبيِّن ما اشتمل عليه القرآن الكريم في علوم الحياة والفيزياء، والكيمياء، والجيولوجيا، والأرصاد، والفلك، وعلم الأجنة، والطب.. الخ
لم يقل أحد من هؤلاء بأن هذه العلوم وردت مفصلة محددة، كما هو حال الكتب العلمية ذات الاختصاص. غير أنهم أجمعوا على أن الآيات القرآنية اشتملت على مفاتيح وإشارات وتحديدات واضحة أيضاً في سائر هذه العلوم. الأمر الذي هو إعجاز في حد ذاته حين يأتي على هذا النحو من الإنجاز.
يقول د. زغلول النجار في هذا الصدد:
(إننا نقصد بالإعجاز العلمي للقرآن الكريم هو سبق هذا الكتاب الخالد بالإشارة إلى عدد من حقائق الكون وظواهره لم تكن معروفة لأحد من البشر في زمن تنزيله، ولا لقرون متطاولة من بعد تنزله، وإثبات أن القرآن الكريم، الذي أوحي به إلى نبي أمي (صلى الله عليه وسلم) في أمة أميَّة قبل أربعة عشر قرناً، يحوي من حقائق هذا الكون ما لم يتمكن الإنسان من الوصول إليه إلا منذ عقود قليلة، وبعد مجاهدات طويلة عبر عدد من القرون المتواصلة، وهذا لا يمكن لعاقل أن يتصور إمكانية حدوثه إلا بوحي من الله الخالق البارئ المصور)( ).
لقد اتفق الأقدمون والمحدثون والمعاصرون إذن ــ إلا من شاء المكابرة أو أعمته الجهالة ــ على أن القرآن معجزة محمد أتى بها للبشر. ولقد باءت محاولات تقليده قديماً بالإخفاق. وقبرت في مهودها، وتوقفت إما معلنة جهاراً، أو مقرَّة في خفاء عن عجزها وإخفاقها.
ونحن جميعاً نعرف أن القرآن تنزل على محمد في وقت كان العرب قد بلغوا فيه من الفصاحة والبلاغة ما لم يعرف من قبل. كانت المعلقات قبل بعثة الرسول، وحتى عصر بعثته تعلَّق على جدران الكعبة. وليتبارى المتبارون في سوق عكاظ، الموسم السنوي التقليدي لعرض الشعر من قبل أفذاذ الجزيرة ونوابغها من الشعراء. وكان فيهم الحكماء والخطباء فضلاً عن الشعراء. ومنهم من بلغ به الغرور مبلغاً جنح به إلى التألُّه، أو إلى ادِّعاء النبوة. إذن جاءهم القرآن متحدياً لما برعوا فيه وأجادوا وبلغوا الشأو الذي لا يبارى. والقرآن لم يعتمد الصورة الجمالية في البلاغة اللفظية الشكلانية وحدها. لكن مضامينه كانت معجزة في ذاتها. فهو لم يدع لهم شاردة ولا واردة إلا أحصاها بإجمال حيناً، وبالتفصيل حيناً، سواء كان ذلك في شؤون الحياة الدنيا أو الحياة الآخرة، متضمناً الحكمة، والإرشاد، والتاريخ، والعقيدة، والقصص، والتشريع، والقانون، ونظام الحياة، في الاقتصاد، والسياسة، والاجتماع. هذا فضلاً عن العبادات، والتعريف بالخالق وأسرار الخلق والكون، والإنسان. وقد جاءهم صادقاً، متَّسماً بالصراحة فيما يعرض، دونما مداراة أو محاباة. انقض عليهم في البداية انقضاضاً، مسفِّهاً آلهتهم التي كانوا يعبدون، كي يحدث لديهم صدمة تحثُّهم على التفكير لتبيِّن خطل تفكيرهم وسوء تدبيرهم. وانبرى معلناً الحرب على ما تفشى فيهم من صور الفساد، ومظاهر الضلال والانحلال، كشيوع الرذيلة، ووأد البنات، والانكباب على الخمر والميسر، وإذلال الأقوياء للضعفاء، واغتصاب الحقوق. ناهيك عن مظاهر المفاخرة والمكابرة بما لا فخر فيه، ولا مسوِّغ للتكبر بسببه، جاءهم القرآن بالبصائر من ربهم، لكي يعلمهم الكتاب والحكمة، وقيمة العقل والفكر، والنفس البشرية. ولسائر بني البشر دونما تمييز »لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى ـ حديث« و»إن أكرمكم عند الله أتقاكم ـ آية« (ولنلاحظ الفارق بين الآية والحديث في الصياغة). المقياس الوحيد الذي لا يقاس بغيره في المجتمع الإسلامي يومئذ هو التقوى في الذات الإنسانية، وليس فيما حولها أو ما يكتنفها ويحيط بها من مظاهر، كالجاه والمال والانتماء للعشيرة أو القبيلة مما يلحق بالذات إضافة من خارجها ولا ينْبع منها.
كيف يتفق أن يكون ذلك كله من صنع رجل واحد نشأ فيهم، عرفوه أصلاً ومحتداً ونسباً، خلقاً ومسلكاً، لم يغادرهم يوماً طالباً لعلم، ولا هو جاءهم من مكان قصيّ، فكان دخيلاً وافداً، مجهول الأصل، غامض المنحى فيما يعرض، ولا هم أنكروا عليه أمراً منذ حداثته. كيف يتفق ذلك مع موقفهم منه إنكاراً واعتراضاً ناهيك عن تكريسه ما بقي له من عمر من أجل ذلك. لقد ضحى براحته، بل تجاهل متطلبات حياته الشخصية ذاتها، وما كان يمكن أن يجني في حياته لو شاء ـ شأنه شأن سائر الناس ـ من وراء تجارة يتعاطاها، أو عرَضٍ من أعراض الدنيا لو شاء التفرغ له، دون هذه الدعوة المرهقة، الثقيلة الوطأة عليه وعليهم على حد سواء إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (المزمل:5). بل هو حمَّل أسرته وآله من العناء والمعاناة نتائج ذلك كله. ثم هاهم، على الرغم من ذلك. يواجهونه بكل ما عرفنا من سيرته فيهم، معلنين عليه حربهم الشعواء، وهاهم يسدّون آذانهم عما أتاهم به، حتى وإن كان فيه هداهم وخيرهم:
وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ. قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (فصلت:5-6)
أي بلاغة، وأي مفردات تغني واحدتها عن (محاضرة) ـ الأكنة، الوقر الحجاب ـ مما لم يألف القوم سماعه على هذه الصيغة الغريبة وهم أرباب صناعة الكلمة، وسدنة الشعر، وإن حاول المستشرقون وتلامذتهم من معاصرينا نفي الشعر الجاهلي، مغرضين هادفين إلى التنكيل من شأن ما بلغ عرب الجاهلية من فصاحة وبلاغة، ومن ثم إبطال إعجاز القرآن بتحديه لهم فيما برعوا فيه. يقول الأستاذ محمود شاكر في هذا الصدد في مقدمته لكتاب الظاهرة القرآنية:
(كان الشعر العربي حين أنزل الله القرآن على نبيِّه (صلى الله عليه وسلم) نوراً يضيء ظلمات الجاهلية، ويعكف أهله على بيانه عكوف الوثني للصنم، ويسجدون لآياته سجدة خاشعة لم يسجدوا مثلها لأوثانهم قط، فقد كانوا عبدة البيان، قبل أن يكونوا عبدة الأوثان، وقد سمعنا من استخف منهم بأوثانهم، ولم نسمع قط منهم من استخف ببيانهم)( ).
من أولئك المستشرقين الذين عملوا دائبين للتشويه لهذا التاريخ، توطئة للتهوين من شأن البلاغة العربية، وبالتالي الإساءة إلى معجزة القرآن (الأب لامانس) العامل على تقويض دعائم الإسلام ـ كما يقول مالك بن نبي ـ (بسبب من بغضه الشديد للقرآن ولمحمد). ومنهم المستشرق الإنكليزي مرجليوث بما نشره عن الشعر الجاهلي عام 1925 في إحدى المجلات الاستشراقية، وجاء من بعده مباشرة في عام 1926 د. طه حسين بكتابه (في الشعر الجاهلي) الذي أثار عاصفة في الأوساط الثقافية في حينه.
(في البداية ظنَّ العرب أنه كلام محمد، فلبثوا يتربصون مواطن الضعف عنده علهم يعثرون عليها، ومواقع القدرة عندهم للتصدي له، ولمواجهته بما هم فيه ابرع وعليه أقدر ـ في ظنهم ـ فإذا بهم تأخذ الحيرة بألبابهم لما يستمعون إليه من كلام لا عهد لهم بمثله في البيان العربي كله، شعراً ونثراً وخطابة. هو نسيج وحده، فريد في بابه ونهجه، لم يُسبق إليه، ولا قدرة لهم على محاكاته. وقد كان من طبعهم المساجلة والمعارضة والمفاخرة والتسابق والتنافس يعرضون ذلك كله في المواسم. لكنهم ها هنا لبثوا عاجزين. وقد جاء القرآن على لسان محمد يقول لهم وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (البقرة:23-24)( ).
كلمات لا يقولها عربي من العرب في ذلك العصر من تلقاء نفسه أبداً. ولم تحدد لهم الآية معلماً مما هو مألوف في مثل هذه الأحوال حتى في عصرنا الراهن: عدد الكلمات، المدة المتاحة، الزمن، السِّن. وفي مسألة عدد الكلمات مثلاً، تتراوح السور بين البقرة ذات الثماني والأربعين صفحة، في كل صفحة خمسة عشر سطراً وسورة الإخلاص ذات السطرين. أما المدة فغير محدودة، بل هي ــ إمعاناً في التحدي ــ مفتوحة من الأزل وإلى الأبد. أما المكان فسطح الكرة الأرضية.. المعمورة كلها. المتقدمون للمسابقة: أياً كانوا.. البشر كافة ومعهم الجن كافة أيضاً، إذا أمكن اجتماع الثقلين..! و»كان بعضهم لبعض ظهيراً«.. ثم ماذا بعد..؟
يقول الجاحظ:
(بعث الله محمداً (صلعم) أكثر ما كانت العرب شاعراً وخطيباً. وأحكم ما كانت لغةً، واشد ما كانت عدَّة، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته، فدعاهم بالحجة ـ لا يُحتجُّ عليهم بغير القرآن ـ يدعوهم صباحاً ومساء أن يعارضوه إن كان كاذباً بسورة واحدة أو بآيات يسيرة. فكلما ازداد تحدياً لهم بها، وتقريعاً لعجزهم عنها، تكشَّف من نقصهم ما كان مستوراً، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة، قالوا له: أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف. قال فهاتوها مفتريات. سورة واحدة كانت أنقض لقوله. وافسد لأمره، وأبلغ في تكذيبه، وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس، والخروج من الأوطان، وإنفاق الأموال، ولهم القصيد العجيب، والرجز الفاخر، والخطب الطوال البليغة والقصار الموجزة، ولهم الإسْجاعُ المزدوج واللفظ المنثور. وهم أشدُّ الخلق أنفةً، وأكثرهم مفاخرةً، والكلام سيِّد عملهم وقد احتاجوا إليه، والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض، فكيف بالظاهر الجليل المنفعة. ولمدة ثلاث وعشرين سنة( ).
يقول الرافعي:
(وسبيل نظم القرآن في إعجازه سبيل هذه المعجزات المادية التي تجيء بها الصناعات: وكثيرة ما هي، إلا في شيء واحد، هو في القرآن سرُّ الإعجاز إلى الأبد. وذلك أن معجزات الصناعة إنما هي مركبات قائمة من مفردات مادية متى وقف امرؤ من الناس على سر تركيبها ووجه صناعتها فقد بطل إعجازها..
(ذلك هو وجه تركيبه، أو هو أسلوبه، فإنه مباين بنفسه لكل ما عرف من أساليب البلغاء في ترتيب خطابهم وتنزيل كلامهم، فكأنه قطعة واحدة، على خلاف ما أنت واجده في كلام كل بليغ، من التفاوت باختلاف الوجوه التي يصرِّفه إليها، والعلو في موضع والنزول في موضع، ثم لابد من الإجادة في بعض الأغراض والتقصير في بعضها..
(وليس في شيء من أسلوب القرآن يُغضُّ من موضعه، ويذهب بطريقته، أو يدخله في شَبَهٍ من كلام الناس. وما من عالم أو بليغ إلا وهو يعرف ذلك ويعدُّ خروج القرآن عن أساليب الناس كافة دليلاً على إعجازه، وعلى أنه ليس من كلام إنسان..


* * *

الإعجاز في الصياغة
(وقد استحال أن يقع في تركيبه ما يسوِّغ الحكم في كلمة زائدة أو حرف مضطرب أو ما يجري مجرى الحشو والاعتراض. كما تجد من ذلك في أساليب البلغاء. ولو أن العرب وجدوا سبيلاً إلى نقض كلمة من القرآن لأزالوها وأثبتوا فيها هذا الخطأ أو ما يشبهه في مذهبهم، إذ كان من المشهور عنهم مثل هذا الصنيع في انتقادهم وتصفحهم بعضهم عن بعض في التحدي والمناقضة)( ).
وقد عرض الرافعي لكلمات، ولمقاطع من الآيات يبين فيها مواطن الإعجاز، لا بأس من أن نأتي على بعض منها كأمثلة هي فيض من غيض، أو هي صورة مماثلة لما في القرآن كله، كقوله تعالى »ليستخلفنهم في الأرض« فهي كلمة واحدة من عشرة أحرف، وقد جاءت عذوبتها من تنوع مخارج الحروف، ومن نظم حركاتها، فإنها بذلك صارت في النطق كأنها أربع كلمات تنطق على أربعة مقاطع. وقوله »سيكفيكهم الله« فإنها كلمة من تسعة أحرف وفي ثلاثة مقاطع. وقد تكررت فيها الياء والكاف وبينهما هذا المد الذي هو سر الفصاحة في الكلمة كلها.
وفي القرآن لفظة غريبة من أغرب ما فيه. وما حسنت في كلام قط إلا في موقعها منه، وهي كلمة »ضيزى« من قوله تعالى »تلك إذن قسمة ضيزى«. وأنت لو أدرت اللغة عليها ما صلح لهذا الموضع غيرها. ثم هي في موضع الإنكار على العرب، إذ وردت في ذكر الأصنام وزعمهم في قسمة الأولاد، إذ جعلوا الملائكة والأصنام بنات الله، مع أنهم يئدون البنات فقال تعالى »ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذن قسمة ضيزى« فكانت غرابة اللفظة أشد ملاءمة لغرابة هذه القسمة التي أنكرها في الأولى ثم التهكم في الأخرى. وكان هذا التصوير أبلغ ما في البلاغة. والعرب يعرفون هذا الضرب من الكلام، وله نظائر في لغتهم.
(ومما يدل على أن نظم القرآن مادة فوق الصنعة، ومن وراء الفكر، وكأنها صبت على الجملة صبّاً أنك ترى بعض الألفاظ لم يأت إلا مجموعاً ولم يستعمل منه صيغة المفرد، فإذا احتاج إلى هذه الصيغة استعمل مرادفها فلفظة »اللب« فإنها لم ترد إلا مجموعة »إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب«، وليذكر أولو الألباب«. ولم تجئ مفردة بل جاء في مكانها (القلب). ولو حسنت على وجه من تلك الوجوه لجاء بها حسنة رائعة، مع أنه جاء بلفظة »الجب« وهي في وزنها ونطقها، ولكن الائتلاف بين الجيم والباء من هذه الشدة في الجيم المضمومة. وكذلك لفظة »الكوب« استعملت مجموعة ولم يأت بها مفردة لأنه لا يتهيأ فيها ما يجعلها في النطق من الرقة وحسن التناسب. وعكس ذلك لفظة »الأرض« فإنها لم ترد إلا مفردة فإذا ذكرت السماء مجموعة جيء بها مفردة في كل موضع منه، ولما احتاج إلى جمعها أخرجها على هذه الصورة كما في قوله تعالى »الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن« ولم يقل سبع أرضين.
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً (الفرقان:63)
هذا النص الرائع الذي يدخل إلى النفس الخشوع والمشاعر الجياشة في تصويره لعباد الرحمن ـ وهذه في حد ذاتها من أجمل الأوصاف وأكثرها وقعاً في النفس ـ وكيف يمشون الهوينى على الأرض في رفق ورحمة تعبيراً عن خشوعهم وتواضعهم ومسلكهم الإنساني.
وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً (الفرقان:67)
أما في مسألة الإنفاق فالوصف »لم يقتروا« يختصر بحثاً طويلاً في الصدد نفسه. ولننظر إلى وصف الوسطية بكلمة »قواماً«. يقول الرافعي أنه لم يجد في اللغة كلمة يمكن أن تحل محلها وتأتي بالتأثير والوقع ذاتهما.
ومثلها في البلاغة والإعجاز وبلاغة الحكمة والموعظة والتعليم الإلهي قوله تعالى:
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (الإسراء:29)
الوسطية هي المطلب. والشق الأخير من الآية كلمة »ملوماً« تعني اللوم من قبل الآخرين المنددين بصنيعك و»محسوراً« من قبل الذات التي سيُلمُّ بها، عندئذٍ، الندم والحسرة على ما فرطت وأضاعت.
ومثلها في الإيجاز البليغ الموحي قريباً من السياق ذاته قوله تعالى قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُوراً (الإسراء:100).
ترى كيف تصور الآيات شدة الحرص والبخل، إذ أن هؤلاء لو أمسكوا بخزائن »الرحمة«، وليس المال وحده، لخشوا الإنفاق منها على غيرهم لشدة تقتيرهم وشحِّ أنفسهم. أما لفظة »قتوراً« فما من كلمة في اللغة يمكن أن تحل محلها دون الإخلال بالصيغة البليغة كلها.
* * *

مواضع الكلمات
ونتساءل: هل كانت له هذه القدرة دون سائر العرب؟ وكيف تأتى له التدقيق في الحرف والكلمة والجملة، دونما خطأ ولا هفوة واحدة في سفر ضخم كالقرآن؟ ناهيك عن المضمون، وعن سحر الأسلوب. ومن أين له العلم باللغة وأسرارها وتراكيبها إلى هذا الحد المذهل، غير المسبوق أو الملحوق فيما بعد؟ إن ما ورد في القرآن أعجز العصور كلها ـ عرباً وغير عرب ـ . ولو كان هذا الذي طلع به على الناس لإنسان ما على وجه هذه الأرض غيره، لتاه به على الدنيا بأسرها، كأعظم أديب وفيلسوف وعالم، وما شئت من الصفات. فلماذا إذن هو يتحاشى نسبته إليه، بل ويعلن على الملأ أنه لو فعل فادعى ذلك لعوقب عقاباً شديداً من قبل صاحب النص. هو يقول هذا في القرآن نفسه. فها هو يعلن نصّاً ـ خطاباً موجهاً إليه مؤكداً للملأ المصدر الذي يتلقى عنه:
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (النمل:6)
لأن القرآن الكريم بين أيدينا، نقرؤه على الدوام أو من حين لآخر، فقلما نتنبه إلى الكثير من روائعه، فتمر بنا أو نمر بها مروراً عابراً عادياً تماماً، وقد يصرفنا المضمون ومحاولة الفهم عن الناحية البلاغية. فنحن نرى أن آيات ومعاني كثيرة تغيب عنا، أو أننا لا نعيرها انتباهاً ـ كما أسلفنا ــ بحكم التعود والألفة على السمع. هذا في حين نرى أن كلمة معينة لأنها جاءت في موضعها من الآية. ولأنه لا يمكن لكلمة أخرى أن تحل مكانها دون حدوث خلل في السياق، أو في موسيقى العبارة، أو في الإيقاع أو الوقع على النفس فتبدو الآية كلها، وهي على حالها طبيعية تماماً لأنها في تمام كمالها، أما لو أننا جئنا إلى كلمة فيها وحاولنا تغيير موضعها تقديماً أو تأخيراً، أو حاولنا استبدالها بمرادف لها، يعطي معناها ذاته تماماً لاختلف النص واعتراه الخلل والارتباك ولم يعد قرآناً. ولنضرب مثلاً:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (الأحقاف:33)
لنأخذ كلمة »يعيَ« هنا. مرادفات الكلمة كثيرة: مثل (يتعب) (ينْصَب) على سبيل المثال، ولها ذات المعنى. لنتصور أننا وضعنا إحدى هاتين الكلمتين مكان كلمة »يعيَ« فكيف يصبح حال النص كله؟ سوف تضيع منه سائر سمات البلاغة والفصاحة، ويغدو ضعيفاً وغير متوازن وإن بقي المضمون واحداً. ترى هل فكر محمد في هذا أيضاً، فعرف بهذه الدقة، وقرر الاختيار على علم ووعي بأسرار اللغة وإعجازها الفريد..؟
ومثلها قوله تعالى:
أفعيينا بالخلق الأول
ماذا لو قلنا (أفتعبنا) بالخلق الأول..؟
ولننظر في هذه الآية:
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (لأنفال:26)
نتوقف عند التعبير بكلمة »يتخطَّفكم«. ترى كم من الصفحات، الشارحة العارضة للحالة، كان يلزمنا مكان هذه الكلمة، لو كان الخطاب في دراسة أو بيان أو محاضرة، لكي نصل إلى المعنى المراد وإلى الصورة المتوخاة؟ أي إيحاء في هذه الكلمة..؟ الخطف.. الأسر.. الضياع.. الانقضاض.. التبعثر إثر (التخطُّف) كم من الصفحات تقتضينا المسألة لكي نبلغ المعنى المراد وما نحن ببالغيه في كل الأحوال على النحو الذي جاء هنا في الآية. ليس هناك مناص من أن تجيء الكلمة هكذا في مكانها كما هي. فمن ذا الذي قرر اختيار الكلمة دون سائر مفردات القاموس كله فضلاً عن تحديد موقعها من النص؟
ونحن لو عمدنا إلى أيٍّ من آيات القرآن فغيرنا مكانها أو بدَّلناها بمرادف لها يحمل المعنى ذاته لتغير السياق، حتى لو لم يتغير المعنى، ولتغيَّر وقعها وأثرها النفسي والروحي. لنأخذ مثالاً، لا على التعيين، سورة العصر:
وَالْعَصْرِ. إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(العصر:1-3)
فلو أننا بدلنا كلمة »خسر« بكلمة (خسران) أو (خسارة) ماذا يحدث؟ مع أننا لم نخرج بالمعنى عن سياقه.. كذلك لو أننا عكسنا كلمتي (بالحق) و(بالصبر) فقدمنا الأخيرة على الأولى فأصبحت وتواصوا بالصبر وتواصوا بالحق..! ألا يصبح النص قلقاً فاقداً لبلاغته وفصاحته التي كانت له مع أن الكلمات هي هي، وأن المضمون لم يتأثر..؟
هل كانت سعة العلم ووفرة المعرفة اللغوية عند محمد الأمي على هذا القدر؟ وكيف تسنَّى له التدقيق في كل كلمة لكي تجيء في موضعها، فلا تنبو عنه ولا تتجافاه، بحيث لا تغني عنها كلمة أخرى تحل محلها؟ أم تراه كان لديه من الوقت متسع يفرغ فيه للإنجاز الإبداعي في الوقت الذي كان يخوض غمار معارك شرسة على كل صعيد، مما يستنفذ وقته ويشغل عقله ووجدانه أكثر مما يمكن أن تشغله (جمالية) الإبداع.
العاملون في حرفة الكتابة ــ درساً أو إبداعاً ــ يعرفون تماماً أي عناء تقتضيهم كتابة نصٍّ يصلح أن يطلع به صاحبه على الناس، ولو في حدِّه الأدنى من الإجادة. مَنْ بين هؤلاء من لا يقع له أن يسوِّد ثم يعيد، ثم ينقص أو يزيد، يمحو هنا ويثبت هناك قبل أن تطمئن نفسه إلى ما أنجز، وقبل أن يطلع به على الملأ، يراوده الأمل بأن يحظى بشيء من الرضا والتقدير؟
ما أحسب كاتباً لم يمر بتجربة من هذا القبيل، فما بالنا إذا كان النص بحجم هذا الكتاب وبمضمون يستوفي شروط الحياة كافة ناهيك عن محتواه في سائر شؤون الخلق من: فقه وتشريع ونظام للمجتمع ومناسك عبادة وغير ذلك مما لا سبيل لحصره.
ولسوف أستميح القارئ عذراً إذ أقدم له هذه الواقعة آملاً تصديقها، ألا وهي أنني فيما كنت أنقل الآية التالية:
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (يونس:2)
أقول إنني فيما كنت أنقل هذه الآية حدث أن شردت قليلاً فكتبت من الذاكرة »أكان عجباً للناس.. بدلاً من أكان للناس عجباً..«.
ولكنني حين عدت لقراءتها من أجل الطباعة ــ دون الرجوع إلى الأصل ــ أحسست بأن شيئاً قلق نافر هنا. أقنعت نفسي، بادئ الأمر، بأنني نقلتها من المصحف على هذا النحو. بيد أنني لم أطمئن إلى ما وقر في نفسي، إذ مازلت أشعر بأن هناك شيئاً غير مستقر في النص. عدت إلى كتاب الله لكي أستيقن فأدركت الخطأ. ما الذي دلَّني على موضع الخطأ يا ترى؟
أما فيما يتعلق بالآية من حيث المضمون، فها نحن نرى في النص على قصره صوراً عديدة: الآية تذكر الوحي، والموحى إليه، والناس، والإنذار لكي يتنكبوا الطريق السوي، والبشرى للمؤمنين، والعجب المسبق لعدم تصديقهم أو قدرتهم على تصور أن يجيئهم رجل منهم يحمل إليهم رسالة من عند ربهم. كل أولئك في سطرين اثنين. ثم ختامها بما يقول الكافرون فيها بأن هذا هو السحر ليس إلا. أما التعبير بـ »قدم صدق« فالعرب لم يألفوا هذا التعبير المثير للدهشة من قبل في آدابهم وأدبياتهم.
وسنورد هنا عدداً من الآيات، على سبيل المثال أو التذكير وحسب، لنرى إلى إيحاءاتها وكثافة نصوصها، وإحاطة النص في كل منها، على قصره بالمراد والمبتغى:
وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (التوبة:118)
هذه الآية تلخص قصة المنافقين الذين تخلَّفوا عن رسول الله. تخلُّفهم من ناحية، ثم ما أسفر عنه من ضيق عليهم في الأرض فأصبحت أضيق عليهم، على الرغم من رحبها، حتى لتكاد أن تزهق أنفاسهم. كما ضاقت عليهم أنفسهم ذاتها. وهذا لعمري أقسى أنواع العذاب للنفس، إلى أن تاب الله عليهم بعد أن أيقنوا أن لا مناص لهم من العودة إليه تائبين مستغفرين.. وإن الله سبحانه يسع المخطئ ــ حين يشاء ــ برحمته.
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إلاَّ مَتَاعٌ (الرعد:26)
في أقل من سطرين حديث عن الرزق، وكونه بيد الله، وكذلك مقداره من حيث الكم والنوع. فرح الإنسان بمباهج الحياة الدنيا وزخرفها، ثم تذكيره بفناء الدنيا ونعيمها، مع تضمين الإشارة إلى الفارق الهائل بين الدنيا والآخرة، بحيث يصبح نعيم الدنيا هذا بمثابة لا شيء إذا ما قورن بنعيم الآخرة.
وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً .. (النحل:92)
أيُّ تشبيه وأي صورة؟ (نقض الغزل) بعد التعب والمعاناة؟ صورة موحية تماماً. (والأنكاث) من بعد القوة، أي هذا العبث الذي يقع فيه الإنسان دون طائل في كثير من الأحيان.
مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (النحل:96)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (النحل:111)
كم مرة جاءت كلمة (نفس) في الآية وفي كل مرة بمعنى مختلف وفي سطر واحد دون أن تحس بالتكرار أو الإقحام أو التكلف؟
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ.. (الإسراء:18)
هذا التركيب العجيب وهذا الترادف. وهذا الاختلاف في معنى الكلمة ذاتها »العاجلة« بمعنى الدنيا. »عجلنا« أسرعنا. كلمة »عجَّلنا« أغنت عن صورة كاملة تقتضي صفحات كثيرة للوصول إلى المعنى ولن تصل إليه بنفس الوقع والتأثير مع ذلك.
ومن الإعجاز في المعنى والنبوءة (وسبر أغوار النفس الإنسانية) التي ظلت باقية على مدى الزمن وكأنها تتنزل اليوم كقوله تعالى:
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (لأنفال:53)
تؤكد الآية الكريمة على حقيقة لا مراء فيها، تنطبق على سائر المجتمعات في سائر العصور، هي أنه لا سبيل لمجتمع يبغي تغييراً حقيقياً نحو الأفضل، دون أن يغير أفراده ما بأنفسهم ذاتها قبل أيّ شيء آخر. التغيير داخل النفس لابد أن يسبق أي تغيير اجتماعي مبتغى.
وقوله:
.. لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ .. (لأنفال:63)
أليس هذا هو حال البشر.. كان ذلك قديماً وإنه لكذلك حتى اليوم كما عرضته الآيتان. وفي السياق ذاته، ولكن محمَّلة بمعاني أخرى إضافة لما سبق.
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ. مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (الحجر:3-5)
أليس الناس هكذا دائماً. يأكلون ويشربون ويمارسون ترفهم، وتلهيهم الآمال التي ما إن يتحقق أمل منها حتى يطمح صاحبه إلى أمل آخر، فالأمل حين يتحقق لا يعود أملاً، من ثم يحل مكانه أمل جديد. الأمل هو دائماً الحلم الذي لم يتحقق. ويستمرون في تلك الحلقة المفرغة العبثية حتى ينقضي الأجل. والأمة كالفرد، كما أن الفرد كالأمة لا يسبق إليها الأجل ولا يستأخر عنها، وإنما يأتي في أوانه المكتوب.
وفي المعنى ذاته قوله تعالى:
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ.حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (التكاثر:1-2)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (النحل:112)
الجوع والخوف، على مر الزمن، كانا العنصرين الرئيسيين لقلق الإنسان في الحياة. كانا همه الأكبر على مدى حياته، وسائر الأمور الأخرى تتفرع عنهما. وما أكثر الأمم التي انطبقت عليها هذه الحال. ونحن في عصرنا هذا نفسه رأينا الكثير مما يقع أمام أعيننا، وعلى مسمع منا. وحال الإنسان قديماً لم تخرج على ذلك. ففي سورة قريش:
لإيلافِ قُرَيْشٍ. إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (قريش:1-4)
الخوف والجوع أيضاً. تلافيهما حافز الإنسان الأكبر للسعي في حياته.
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (الكهف:45)
هي الدنيا كذلك. ولننظر إلى التصوير المدهش »فأصبح هشيماً تذروه الرياح« هذا التشبيه في كلمات أربع، كم فيه من الخيال والتصور للمصير في دنيانا هذه.
وحالة إنسانية مشاهدة تصورها الآية:
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً (الكهف:103-105)
كم من مرة تبين لأي منا أنه كان على خطأ في تصرفه إزاء أمر ما في الوقت الذي كان يحسب ــ لحظة التصرف ــ أن ما هو بصدده وما يصدر عنه هو عين الصواب؟ أليس هذا وما سبقه هو التصوير الأصدق لواقع الإنسان والحياة؟ لم تكذبه الأيام، ولن ينقضه المستقبل، ولا التطور ولا التقدم، لأنها حقيقة إنسانية ملازمة للإنسان في تكوينه وجبلته وطبيعته وفطرته معاً.
خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (الأنبياء:37)
وها هو الإنسان يكتشف آيات الله اليوم، وبعد انقضاء أربعة عشر قرناً من الزمان، عن طريق العلم والبحث، وتجلِّي تلك الآيات بالتتابع أو على فترات متباطئة أو متسارعة، وهي تترى تتوافد منذ ذلك الحين. وحتى يوم الناس هذا وستظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. هذه الآيات ومثيلاتها تؤكد حقيقة أزلية، هي أن الإنسان في تكوينه وجبلَّته ونوازعه المختلفة، وهواجسه الملازمة له دائماً في القضايا الأساسية في حياته على الأرض، هذه جميعاً ثوابت تدخل في تكوينه العضوي والنفسي، وهي غير قابلة للتغيير بتغير الزمان. كان الإنسان هكذا وسيظل كذلك. وها هي الأيام تثبت صدق الآية في الرؤية للإنسان، وهي بمثابة النظرية من قبيل سنن الكون التي لا تتخلف. أما ما هو قابل للتغيير ــ حسب ما سبق ذكره من أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ــ فهو المعتقد وهو السلوك والعمل حسب ذلك المعتقد، توخياً للهداية والرشاد أمام الله وإيثاراً للخير في صالح الفرد والمجتمع ــ الأمة.


* * *

في الإيمان والوحدانية
في مسألة الإيمان بالله، والوحدانية لله، تنزلت آيات تندد بمن ينسبون إلى الله اتخاذه الولد أو أن هناك آلهة غير الله. جاءت هذه الآيات بصيغة المحاجَّة المفحمة وبمنطق الفلسفة والفلاسفة، مسفِّهةً آراءهم من قبيل »فبهت الذي كفر«، إذ هم لم يستطيعوا أن يحيروا جواباً أو يأتوا بردٍّ شافٍ يؤيد تخرصاتهم. وكان هؤلاء يحاجون الرسول في ذلك.
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ. لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (الأنبياء:22-24)
وقوله تعالى:
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (المؤمنون:91)
»لو كان معه إله«:
ألم يكن هذا هو الذي سيقع لو كان الأمر كما ذهبوا إليه، لجهلهم وإغراقهم في الضلالة؟ فالمسألة تغدو حينئذ كالحالة البشرية، سوف يختلفان إن كانا اثنين ويختلفون إن كانوا أكثر. وسيتقاسمون النفوذ والمناطق الكونية من الملكوت، وسيمضي (كل إلهٍ بما خلق) ليتدبر أمره. فضلاً عن هذا فلسوف تجنح بهم المنافسة ــ تماماً كبني البشر ــ لأن يعلو أحدهم على الآخر لتصبح له الهيمنة والكلمة الأولى كما يحدث لدول هذا الزمان..!
بل إني لأقول: إنه لو كان هناك آلهة أُخَر لما سكتوا على هذا الكلام المنزَّل على محمد. كان لابد أن يصنع هؤلاء شيئاً. وإلا فعلام هذا الصمت المطبق حتى الآن..!! هل يسكت الآلهة الآخرون على تفرُّد أحدهم بالدعوة لوحدانيته وأنه هو مالك الكون الوحيد وإلهه الفرد الأحد الصمد..؟ ومن ذا الذي يحول بينهم وبين أن يتدخلوا في المسألة؟ حاشى لله تعالى عما يصفون.
ويهيب الله بالبشر والبشرية، على مدى الزمن، ليقول لهم ولها حقيقة وضعها وحكايتها كلها في الحياة، وذلك من أجلهم هم، إذ لا يضير الله خالقهم شيئاً ألا يستجيبوا. ولكنها محبة الله لخلقه، ومن ثم عنايته التي يكلؤهم بها، ورعايته التي يغدقها عليهم، شأن نعمائه وسائر آلائه، فيقول من ثم سبحانه مخاطباً إياهم بما يشبه الصيحة فيهم:
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (الحديد:20)
هل هناك حقيقة أوضح، أو تصويرٌ أبلغ؟ في هذه الآية الواحدة عرضت علينا حقيقة الحياة الدنيا، ومعناها، وحالات البشر الاجتماعية والنفسية، وسلوكهم فيها، وإلى ماذا يسعون، وفيم يكدحون يَا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (الانشقاق:6)، ثم شبَّه لنا كل ذلك بالنبات الذي سيعجب الكفار في مظهره، ولكنه لا يلبث أن يغدو حطاماً بعد اصفراره وجفافه. وهذا هو شأن الحياة نفسها التي ستنتهي إلى لا شيء، تماماً كما تبدَّد ذلك النبات في مهب الرياح في نهاية المطاف، دون أن يغني عنه أصحابه شيئاً. ما الحياة إذن سوى متاع وغرور للإنسان على المدى.
كيف إذن يتصوَّر بعضهم، بل كيف يجرؤ على الحكم بأن هذا الكلام المعجز المحكم يمكن أن يكون لبشر؟ كيف تتأتى له الصياغة أولاً من حيث البلاغة، ثم التضمين لسائر هذه المعاني السامية المحيطة الشاملة في الوقت عينه لكل ما في حياة الإنسان على الأرض، ثم مصيره، في نهاية المطاف في الدار الآخرة. ذلك كله في بضعة سطور في عدد من الآيات.
القرآن كله دعوة للإيمان بوحدانية الله في كونه العظيم. والله سبحانه يغفر للبشر ما يشاء ولكنه لا يغفر أن يشرك به. يقو تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً (النساء:48)
ويقول:
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (الحشر:23)
لا غرفو في أن هذا الحشد الهائل من الآيات في مسألة الوحدانية على أنها الركن الأساس في الإيمان والإسلام إنما جاء لهداية الخلق إلى هذه الحقيقة والتأكيد عليها، لاسيما بعد أن تفشت الوثنية وعبادة الأصنام في أماكن كثيرة من الأرض. أما الرسالات السابقة التي بعُدَ بها العهد وتنكب الكثير ممن تنزلت فيهم الطريق السوي إليه تعالى، كما أنكر الكثير وجود الخالق أصلاً فقد بلغ بهؤلاء جحودهم واستكبارهم حدَّ المواجهة والتصدي، ولو بالقتال دفاعاً عن معتقداتهم الباطلة التي أفسدت ضمائرهم وأعمت بصائرهم. وفي هذا يقول تعالى على لسان يوسف (عليه السلام) لصاحبي السجن، والخطاب عام للناس كافة، بطبيعة الحال:
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (يوسف:40)
وهذه سورة الإخلاص تحدد مبدأ الوحدانية في أربع سو قصار، قوله تعالى:
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (الاخلاص:1-4)
وقد شغلت هذه المسألة البحاثة والدارسين والفلاسفة والمتصوفة منذ ظهور الإسلام، وما برحت حتى يومنا هذا محوراً لمساجلات ومناظرات وحوارات بل وخصومات بين المؤمنين بالله ربّاً واحداً لا شريك له للخلق جميعاً، وبين المشركين والملحدين والمنكرين. وقد عرفنا في العصور السابقة الكثير ممن كتبوا وألَّفوا وصنفوا في المسألة ومن ذم جاء بعدهم في بلاد الشرق والغرب على حد سواء.
لقد أفاض القدماء في الحديث في مسائل كالماهية والصفات ووحدة الوجود والتسيير والتخيير (المعتزلة والجبرية). وغير ذلك كثير مما لا يسعنا فيه المقام.
يخاطب الله نبيَّه ليرد على المشركين بقوله سبحانه:
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ. سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (الزخرف:82)

* * *

النظر إلى آفاق المستقبل
ولم تُغفل الآيات معالجة قضايا أساسية في الحياة الإنسانية، الاجتماعية منها والصحية، والنفسية، والجسدية، في ذلك الزمن المغرق في البداوة، وحين لم يكن الناس قد أوتوا حظاً من العلم أو نصيباً من الثقافة يؤهلهم لاجتراح النبوءات، أو التكهُّن بما سيقع في المستقبل للأجيال القادمة لمئات من السنين. دعْك من المدى المتبقي للحياة الإنسانية على الأرض حتى قيام الساعة. وها هي القرون تمضي تلو القرون، ثم نشهد بأنفسنا نحن معاصري هذا الزمن أن سائر ما جاء به القرآن كان صواباً، وكان الله بكل شيء محيطاً. ولنضرب مثلاً ليس ببعيد في الزمان: وقد يبدو غريباً استشهادنا بهذه الواقعة ولكن دلالتها على قدر من الأهمية في مسألة معيشية اجتماعية لواقع يخص جماعة من البشر غير المسلمين:
في عام 1918 أدخل في الدستور الأمريكي ما سمي (بالتعديل الثامن عشر، الذي يأمر بحظر الخمور فيما سمي بقانون (فولسند). وقد كلف الأسطول الأمريكي بمراقبة الشواطئ الأمريكية، كما كُلِّف الطيران بمراقبة الأجواء، إضافة إلى الرقابة المسلكية والعلمية والصناعية. وعرفت تلك الفترة التي استمرت حتى عام 1933 بـ (عهد التحريم). ولكن لماذا توقف العمل بذلك القانون؟ كان ذلك لأن الحكومة فشلت في منع التهريب، ومن ثم التعاطي بالخمور. أي أنها لم تستطع تطبيقه. فالمسالة علَّة في الناس أنفسهم الذين يعرف واحدهم المضار الناجمة عن تصرف ما ومع ذلك يقدم عليه. كما هو الحال بالنسبة للتدخين أيضاً وغير هذه وتلك كثير. أما لماذا سُنَّ القانون؟ وهذه هي المسألة الأهم! فلأنهم اكتشفوا مساوئ الخمر ومضارها، ليس من الناحية الدينية، بالنسبة إليهم بالطبع، ولكن من ناحيتي الصحة، من جهة، والأثر المدمر على الفرد والمجتمع من جهة أخرى.
أما القرآن فقد كان له السبق بنحو من ثلاثة عشر قرناً، حين جاءت آيات الكتاب متدرجة في تحريمها بسبب من الظروف السائدة فيما يذهب إليه بعض الدارسين والمفسرين. وعلى الرغم من أن المسألة تشريعية بحتة، وعادة ما تكون لغة التشريع والقانون جافة، غير مشوقة، على الرغم من ذلك جاءت الآيات لا ينقصها الإعجاز، ولا الجمال الفني، صياغة وأسلوباً، ولا تعوزها البلاغة المعهودة في سائر أخواتها. الآيات بالتتابع الزمني (متضمنة الميسر أيضاً):
يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا.. (البقرة:219)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ.. (النساء:43)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (المائدة:90)
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (المائدة:91)
هل كان متاحاً لمحمد (عليه السلام) أن يتبين مضار الخمر في أكثر من مضمار على النحو الذي أوردته الآيات في ذلك الزمان، لو لم يكن من عند الله العليم بأحوال البشر في سائر الأمكنة والأزمنة؟ هل كان دارساً للطب ليعرف مضار الخمر من الناحية الصحية، أم كان باحثاً في علم الاجتماع ليدرك أضراره ومساوأه الاجتماعية؟. ومثل ذلك يقال في الميسر كآفة اجتماعية يعرف عواقبها الناس اليوم مسلمين وغير مسلمين.
وقد تجدر الإشارة إلى أن دولاً كثيرة اليوم، في أوربا وغيرها، شرعت تسنُّ القوانين التي تمنع القمار في بلادها نظراً لما تبيَّن لها من أضراره الفادحة على الأفراد والجماعات. لقد اعتبر القمار الآن من أهم الآفات التي تلحق الأذى بالأسرة على وجه الخصوص وتعرضها للتفكك.
يحدث هذا في أيامنا هذه، بعد أربعة عشر قرناً من تحريمه في الإسلام.
وننتقل إلى مسألة أخرى أولاها القرآن عناية بالغة برغم حساسية الخوض فيها في مثل تلك البيئة في ذلك الزمان. وقد جاءت آياته موضحة مفسرة، وموجهة نحو السلوك القويم السليم بين الرجل والمرأة، بدءاً من علاقتهما الطبيعية، التي تنشأ عن طريق الزواج وليس غيره. فلقد بيَّنت الآيات الكثيرة المضار والمحاذير الناجمة عن الممارسات غير المشروعة (الزنى)، والمشروعة أيضاً إذا ما أسيء استخدامها، ثم دارت عجلة الزمن وتبين الناس أجمعين أن ما جاء به القرآن كان الصواب عينه. وغني عن القول أنه ليس في وسع بشر أن يأتي بكلام في مثل هذا السياق، وقبل أربعة عشر قرناً، ثم لا ينفك صالحاً، بل هو الصالح وحده، على مدى هذه القرون، وما سوف يأتي بعدها. فالمرأة ـ كما أثبتت الدراسات الطبية الفيزيولوجية ــ في حالة الحيض، كما في حالة ما بعد الولادة، تكون في وضع لا يسمح بالممارسة الجنسية، إذ إن لذلك محاذير صحية تصيب الرجل والمرأة على حد سواء. وبرغم أنها آيات للتوجيه المسلكي، والعظة الأخلاقية، والتعليم، إلا أن البلاغة ما انفكت ملازمة لها. كقوله:
وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ. نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (البقرة:222-223)
تحدد الآية أيضاً الموضع الطبيعي من جسد المرأة، للممارسة بعيداً عن الشذوذ المقيت فتقول: (من حيث أمركم الله) في مجاز يتسم باللباقة وبعيداً عن خدش الحياء. حتى هذا يراعيه كتاب الله. ألم يتبين لسائر الناس اليوم، وفي مدى الربع الأخير من القرن الماضي أن الشذوذ مع المرأة، أو الشذوذ المثلي هما آفة العصر، وهما مصدر انتشار مرض (الإيدز ـ السيدا) تحديداً، بعد انتشار الأمراض التناسلية الأخرى؟ وقد كان من شأن ذلك وفيات ومآس مروعة للكثير من الناس والأسر بمن فيهم الأطفال الأبرياء. ومعروف حتى الآن أن ما من أحدٍ استطاع التوصل إلى علاج لهذا المرض برغم التقدم التقني والطبي في معظم حقول الطب والمرض الأخرى. لقد تبين للمختصين أن هذه الممارسات الفاجرة البشعة تتلف جهاز المناعة. فكأن الله يعاقب الخارجين على قوانينه ونواميسه بوقف هذا الجهاز عن العمل. فالإنسان وُهب هذا الجهاز، وما دام هذا الإنسان لا يراعي حرماته، ولا يقدِّر نعمه التي أفاء الله عليه فها هو يعاقبه، ليكون الجزاء من جنس العمل. يبدو أن العقوبات الإلهية لم تتوقف، ولكن ليس من أنبياء ــ بعد ختم النبوة بمحمد عليه السلام ــ يخبروننا أن هذه العقوبات تحلُّ اليوم كما حلَّت بالأمس بالخارجين على نواميسه. ومما يؤكد هذه الحقيقة ذلك العجز الشامل والمطبق عن التوصل إلى علاج شافٍ لهذا المرض المدمر للكيان الإنساني، قبل القضاء عليه بالموت، بسبب من فقدان فاعلية جهاز المناعة عنده. وإلا فما معنى أن لا تكون وسيلة عدوى انتقال المرض إلا عن طريق الممارسة المحرمة من هذا النوع؟ وما معنى أن يستطيع البشر في هذا العصر، التوصل، في مخابرهم ومعاملهم، إلى علاج لأكثر الأمراض شيوعاً وخطورة، وإلى مكافحة معظم أنواع الفيروس عدا هذا المرض تحديداً؟ إرادة إلهية عطلت جهاز المناعة عن القيام بدوره لهؤلاء الخارجين على أوامر الله وقوانين الحياة والطبيعة.
آفة الشذوذ هذه انتشرت قديماً في قوم لوط، وتنزلت بشأنها الآيات تُحدِّث عن مصيرهم البائس، وقد أصاب قوم لوط ما أصابهم عندما حلَّ عليهم غضب من الله جرّاء أفعالهم المنكرة وممارساتهم الشبيهة بما هو جارٍ الآن.
من هذه الآيات في قوم لوط قوله تعالى:
وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ. أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (العنكبوت:28-29)
ولنلاحظ كيف أن الآيات تتحدث عن أسوأ ما يمكن أن يمارسه الإنسان سلوكاً، ولكنها مع ذلك، تقدم القصة في أرقى عبارة وأعف كلمات. المدهش كيف قدمت قصة ممارسات غير نظيفة بمفردات نظيفة راقية؟ (إنكم لتأتون). بهذا الخطاب القصير الحاسم اسْتُعيضَ عن كلمات جارحة غالباً ما يستخدمها الإنسان في وصف مثل هذه الممارسات.
ــ لغة من هذه؟
ــ كيف أمكن لقرشي في الجزيرة العربية العلم بقصة قوم من هذا القبيل قبل عصره بزمان سحيق؟ وفي مسألة على هذا القدر من الحساسية والخطورة التدميرية للإنسان؟
ــ هل كان ضرورياً أن يتصدى محمد (عليه السلام) لمثل هذه المسألة الأخلاقية الشائكة لو كان منشغلاً بأمر الزعامة في قومه من أجل تحقيق طموحات خاصة يسعى إليها؟ ما له ولهذه القضايا عندئذٍ، وأين هي الضرورة الملجئة إلى الخوض فيها؟
ــ مرة أخرى هل كان محمد مختصاً في علوم الطب والكيمياء والفيزياء لكي يخوض في مثل هذه المسألة، فضلاً عن أن يكون عارفاً بآثارها وأضرارها على النفس والجسد وما يلحق بالمجتمع نفسه من وبال نتيجة لها؟.
وفي شأن آخر كالربا تتنزل آيات تحرمه تحريماً قاطعاً، حفاظاًً على الفرد والمجتمع، وإن كانا غير مهيئين بعد لتقبل الفكرة وما تنطوي عليه من خير للمصلحة العامة والخاصة معاً. الربا، دونما ريب، آفة خطيرة ذات آثار تدميرية، إلا أنه ما كان لها أن تدخل ضمن اهتمامات من يسعى لزعامة دنيوية، لاسيما إذا كانت نتيجة التعرض لها بالمنع والتحريم سوف تثير في وجهه الكثير من ردود الفعل الغاضبة والمتاعب والخصومات، لاسيما وأن القوم كانوا يضعون أموالهم في منزلة أرواحهم؟ ومن ثم كان حرصهم على ألا تُمسَّ من قريب أو بعيد.
ألم يكن خليقاً بمحمد إذن أن يتجاوز عن هذه المسألة، مسايرة وتفادياً لما سوف ينجم عن إثارتها من صعوبات تعترض طريقه في مسعاه لاجتذابهم إليه وصولاً إلى تحقيق طموحاته؟
لكن المسألة ــ كما أسلفنا ــ لم يكن له فيها خيار. هي قرآن يتنزل عليه، وهو مكلف بتبليغه، أحب الناس ذلك أم كرهوه. فالأمر لا يتوقف على رؤيته، أو ما يوافق هواه. الآيات تتنزل صارمة، منذرة، متوعدة، غير مهادنة ولا مساومة فها هي تقول في التحريم وفي وصف متعاطي الربا:
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (البقرة: 275-276)
وصف حال متعاطي الربا، تحريمه، علاجه، مصير المخالف للتحريم، »المحق« في الدنيا و»الخلود في النار« في الآخرة، ذلك كله في آيتين وحسب، في أقل عدد من الكلمات التي لا تعوزها البلاغة، وفي أفصح بيان لا تخطئه الذائقة الأدبية الرفيعة. وهو إذ يتصدى للمسالة لا يخشى ردود أفعالهم حياله، أو وقعها عليهم إزاء قرار يتعلق بواحدة من أهم خصوصياتهم، ومصدر الرزق للكثيرين منهم. بل هو يعلنها حرباً عليهم إن لم يستجيبوا للأمر في آيات أخرى من السورة تقول:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ. وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (البقرة:278-280)
ترى لو كان المتصدي لمسألة كهذه مجموعة من الاقتصاديين المعاصرين، وكان هدفهم التأجيل لصالح المدين العاجز عن سداد الدين وفوائده، أي ما يطلقون عليه اليوم تمويهاً وإمعاناً في التضليل مصطلحاً براقاً هو (خدمة الدين)، فماذا كان هؤلاء يقولون. دعك حتى من الجانب الأخلاقي في المسألة؟ هل كان في وسعهم الإتيان بلفظة واحدة محددة تغني عن بحث مطوَّل يستغرق صفحات طوالاً. وتفي بالحاجة أيّما إيفاء كلفظة »فنظرة« للإمهال، ولفظة »ذو عسرة« لوصف حالة (المدين) تجنباً لامتهان كرامته عند استخدام مصطلح (جدولة الدين) مثلاً مقابل فرض شروط سياسية أو اقتصادية معينة لصالح الطرف الدائن وخدمة لأهدافٍ له عند المدين غالباً ما تكون أقرب إلى الاستعباد.
ناهيك عما تشتمل عليه الآيات من بشرى للمستجيب ووعيد للسادر في غيِّه، ــ للرافض ــ إيثاراً لمصلحة يتوهمها أو تتراءى له.
يقول الداعية أحمد ديدات:
(اقرأ القرآن وتدبَّره، وقلَّبه على أيّ وجه تريد تصل دائماً إلى نفس النتيجة وهي [أنه ليس كلام بشر]، حيث لا يستساغ عقلاً القبول بفكرة أن يواصل إنسان ما تأليف كتاب يستغرق جمعه ثلاثة وعشرون عاماً، يبتلى فيها وخلالها بأشق ما مرَّ به نبيٌّ مرسل، دون أن تتقلَّب أفكاره، وتتفاوت تعبيراته، ويختلف أسلوبه. فعلى الرغم من نزول آيات القرآن منجّمة، مفرّقة في أوقات شتى ومناسبات عديدة، فما اختلف السياق والجرس المميز لكلِّ سورة على حدة ولسوره كافة. وما تضاربت الحقائق والأفكار والتشريعات بين سورة وأخرى، بل تكاملت، وفسَّر بعضها بعضاً. وليس هذا شأن أي كتاب بشري يكتب ويجمع بهذه الكيفية، وطوال تلك المدة)( ).


* * *

التأثير الروحي للنص القرآني
إن من أعداء الإسلام أنفسهم من لا يملك غير الإقرار بعظمة القرآن، واختلافه عن سائر كلام البشر المعهود قبل نزوله وبعده سواء بسواء. فهذا هو القس (بورسوت سميث) وهو معادٍ للإسلام يقول في كتابه (محمد والديانة المحمدية)( ): (إنه معجزة في صفاء الأسلوب وفي حكمته وصدقه). وكاتب بريطاني آخر (آريري) تصدى لترجمة القرآن يقول في تقديمه للترجمة: (كلما أستمع إلى ترتيل القرآن الكريم، أشعر كأني أنصت إلى نغم ينساب في لحنٍ موسيقي ذي إيقاع متصل ينبض مع دقات قلبي)( ). وكذلك شأن (مارما دوك بيكال) الذي اعتنق الإسلام فيقول (سيمفونية لا تدانى، ولا تحاكى، تستدر الدموع من المآقي، وتستثير أشجان النفس). ويقول (كريستي ويلسون) في كتابه تقديم الإسلام (ليس بعد الإنجيل ــ من وجهة نظره المسيحية ــ إلا القرآن فهو أعظم الكتب الدينية تأثيراً وأكثرها احتراماً وتبجيلاً).
وإذا نحن أخذنا إحدى قصص القرآن الكريم. ولتكن قصة النبي موسى عليه السلام لنرى إعجاز التعبير القصصي فيها، مع ملاحظة أن الخطاب موجه لأكثر من جهة، منها المشركون ومنها المنافقون، ومنها اليهود والنصارى. أي أنه خطاب شامل. تأتي البداية هكذا:
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (طـه:9)
عبارة قصيرة جداً، لكنها مثيرة للنفس، تشحنها على الفور بالترقب لما يتبعها من سياق. فالمسلمون يتشوقون لسماع قرآن يتنزل على الرسول الذي آمنوا به. والآخرون آذانهم صاغية تأهباً للمعارضة بل والسخرية مما عسى أن يلقيه عليهم أميٌّ لا يعرف عن موسى مثل ما يعرفون في كتبهم، أي يهود المدينة.
ثم يمضي الوحي في عبارة أقصر:
»إذ رأى ناراً..
وهنا قمة الإثارة. ثم تمضي القصة.
.. فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً. فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى. إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً. وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (طـه:10-13)
قصة قد تستغرق الصفحات، في العادة، وربما الكتب، لو أراد أن يكتبها إنسان ما، تأتي في هذا العدد القليل من الآيات، بيد أنها تستوفي المطلب من ناحية القصّ، كما أنها تحفل ببلاغة لا نظير لها ـ إلا في القرآن ـ في موسيقاها الشجية، وتركيبها المتماسك الرائع، ووقعها على النفس وفي القلب والوجدان جميعاً.
فالقرآن فريد في أسلوبه، يصل دائماً إلى الهدف مباشرة، دون استطرادات مملة لا داعي لها. لن تجد بين دفّتيه روايات مطوَّلة ابتغاء اكتساب الواقعية والمصداقية قبل أن تصل إلى ما تريد قوله. الأمر الذي يعمد إليه القصصيون والروائيون في كتاباتهم عادة.
حين استقر الإسلام في المدينة المنورة، وعمَّ صداه أرجاء الجزيرة العربية أرسل نصارى نجران وفداً إلى المدينة لكي يناقشوا النبي (عليه السلام) على ضوء ما لديهم من معرفة بالله والأديان. أحسن المسلمون استقبالهم. ثم جرى بينهم وبين الرسول حوار طويل ـ أوردته كتب السيرة ـ قبل أن يوجهوا إليه سؤالهم القاطع المستفز سلفاً:
(أنبئنا يا محمد من هو الله)
تنزَّل الوحي لتوه على رسول الله صلى الله عليم وسلَّم. وكانت سورة الإخلاص الجامعة المانعة ذات الآيات القصيرة الخاطفة، ذات السطر الواحد لإجابة هي جماع العقيدة برمتها:
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (الإخلاص:1-4)
السورة التي تلخص جوهر العقيدة الإسلامية، وتمثل الفيصل الحاسم بين الحق والباطل.
وعود إلى مسألة البلاغة في اللفظ والجزالة في العبارة والبيان السامي المعجز كما يراها مالك بن نبي:
(إن لكل شعب هواية يصرف إليها مواهبه الخلاَّّقة، طبقاً لعبقريته ومزاجه. فالفراعنة مثلاً اهتموا بفنون العمارة والرياضيات. كما كان اليونان مغرمين بصور الجمال على ما أبدعه منه (فيدياس) وبآيات المنطق والحكمة على ما جاءت به عبقرية (سقراط وأرسطو وأفلاطون). أما العرب في الجاهلية، فقد كانت هوايتهم في لغتهم، فلم يقتصروا في استخدامها على ضرورات الحياة اليومية، شأن الشعوب الأخرى، وإنما كان العربي يفتنُّ في استخدام لغته، فينحت منها صوراً لا تقلُّ جمالاً عما كان ينحته (فيدياس) في المرمر، وما كانت ترسمه ريشة (ليوناردو دافينيتشي) في لوحاته ومنحوتاته.
(هذه صورة الظروف النفسية التي نزل فيها القرآن، فكان لإعجازه أن ينفذ إلى الأرواح، بما ركِّب في الفطرة العربية من ذوق بياني. ومن ذلك ما ترويه كتب السيرة مما يظهر فيه أثر الإعجاز على الذوق الفطري عند العرب في الجاهلية. ونقتصر على صورتين، الأولى: إسلام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عندما تأثر بآيات سمعها من أخته فاطمة أو قرأها في صحيفتها (من سورة طه). والثانية: حكم الوليد بن المغيرة ــ حين يستمع إلى محمد ــ فيقول في القرآن كلاماً هو أبلغ شهادة ينطق بها مناهض للدعوة إذ يقول:
(والله لقد سمعت كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة..) ولكنه سرعان ما ينتكس، متأثراً بموقف أبي جهل، فيختم كلامه منكراً صدق الرسالة بقوله: (وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر جاء يفرق بين المرء وأبيه.. الخ..).
وهذا هو صدى الإعجاز في فطرة العرب، في صورتين مختلفتين. حتى إذا تقدم الزمن، وتغيرت الظروف الاجتماعية، وتقدمت العلوم صار الإعجاز موضوع دراسة قائم بذاته، فكتب فيه أئمة البيان، من أمثال الجاحظ في كتابه (نظم القرآن) وعبد القاهر الجرجاني صاحب (دلائل الإعجاز)( ). وفي عصرنا كثير، كما سلفت الإشارة إلى ذلك.
يقول محمود شاكر في أهل الجاهلية:
(وعلى الذين تلقوه به من اللدد في الخصومة والعناد لم يلبث أن استجاب له النفر بعد النفر إقراراً وتسليماً بأن الكتاب كلام الله، وأن الرجل نبي الله. حتى لم تبق دار من دور أهل الجاهلية إلا دخلها الإسلام أو عمَّها. فأقبل كل بليغ منهم، وكل متذوق للبيان، ناقد يتحفظ ما نزل من القرآن يتلوه ويتعبد به. ويتتبع تنزيله تتبع الحريص المتلهف، وينصت حين يتلى في الصلوات وعلى المنابر يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وعاماً بعد عام. وكلهم خاشع لذكر الله وما نزل من الحق، يصدق خشوعهم( ) قوله تعالى:
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (الزمر:23)
يقول الأديب مصطفى صادق الرافعي:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه أفصحُ ذي لسان وأبلغ ذي لبٍّ، لا يقاس كلامه بالقرآن، ولا يقع منه إلا كما يقع سائر الكلام، مع أنه بين كلام الناس الغاية التي ليس بعدها ما يقال فيه إنه بعدها. يقول الله عز وجل:
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (الزمر:27-28)
(وينبغي أن نمعن النظر في قوله تعالى »غير ذي عوَج« وتقف على موقع هذا الفصل الآية، وتتأمل لفظة (العِوَج) فضل تأمل، فإنك لا تثير دفائنها البيانية إلا إذا حملتها على ما ذهبنا إليه، فتراها تصف القرآن بأنه فطرة هذه الفطرة العربية نفسها. وإنها لكلمة من الوصف الإلهي ترجح في موقعها بالكلام الإنساني كله( ).
(فقد وضح أنه لولا القرآن وأسراره البيانية ما اجتمع العرب على لغته. ولو لم يجتمعوا لتبدلت لغاتهم بالاختلاط الذي وقع ولم يكن منه بد.. وذلك معنى من أبْيَن معاني الإعجاز، إذ لا تجده اتفق في لغة من لغات الأرض غير العربية، وهو لم يتفق لها إلا بالقرآن)( ).
وفي هذا المعنى يقول مالك بن نبي:
(فأهل الجاهلية هم من وصفت لك منزلتهم من البيان، وقدرتهم على تصريفه بألسنتهم، وتمكنهم من تذوقه بأدق حاسة في قلوبهم ونفوسهم، وعلمهم بأسراره، وتغلغلهم في إدراك الحاجز الفاصل بين ما هو من نحو بيان البشر، وما ليس من بيانهم. أهل الجاهلية هؤلاء، هم الذين جاءهم كتاب من السماء بلسانهم، هو في آيات الله بمنزلة عصا موسى، وإبراء الأكمه والأبرص في آيات أنبيائه ـ يقصد عيسى عليه السلام ـ لتكون تلاوته على أسماعهم برهاناً قاهراً يلزمهم بالإقرار له بصحة تنزيله من السماء على قلب رجل منهم، وأن هذا الرجل نبي مرسل، عليهم أن يتبعوه وأن يستجيبوا لما دعاهم إليه. فلما كذبوه وأنكروا نبوته، تحداهم أن يأتوا بمثل هذا الذي يسمعون في نظمه وبيانه. وألح عليهم يتحداهم في آيات منه كثيرة. ولكنهم وجدوا في أنفسهم مفارقته لبيان البشر، وجداناً ألجأهم إلى ترك المعارضة إنصافاً للبيان أن يُجار على حقه، وتنزيهاً له أن يزري به جورهم على الحق)( ).


* * *

القرآن هو المعجزة
أما الإمام الشيخ محمد عبده فيقول:
(وإني عندما أسمع القرآن أو أتلوه أحسب أني في زمن الوحي، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ينطق به كما نزل به عليه جبريل عليه السلام) ( ).
كان القرآن هو معجزة الرسالة، ومصداق النبوة لمحمد عليه السلام. ولكن قريشاً وغيرها من مناوئي الدعوة، لاسيما يهود المدينة والجزيرة، وقد عرفوا، عن طريق القرآن نفسه، حين كان يتلوه عليهم، بأمر المعجزات التي كانت للرسل والأنبياء السابقين، فقد طالبوا محمداً بمعجزات من ذلك القبيل، لكي يصدقوه، كما زعموا، وإن كانوا لا يهدفون غير التعجيز والمماحكة، فجاء قوله تعالى في وصفهم:
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً (الإسراء:90-93)
وفي نفس المقام قال تعالى أيضاً:
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ. وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ. وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (الأنعام:109-111)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ. لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (الحجر:6-8)
هذه الردود المفحمة في هذه الآيات المحكمة ما كان الرسول بقادر على اجتراحها من عنده على هذا النحو، وفي مثل هذه الصياغة. ثم إنه يقول لهم ـ أي القرآن ــ أن هذا هو رد الله سبحانه على ما يطالبون به، وهو الأعلم بما وقر في نفوسهم. والله لا يريد منهم الإيمان بالإسلام عن طريق معجزات مادية ــ كما حدث من قبل في اليهودية، والمسيحية لما اقتضته ظروف كل منهما ــ ولكنه يريدهم أن يؤمنوا عن طريق الدليل اليقيني والإقناع العقلي، والتصديق بالقلب والروح بما تعرضه وتوحي به الآيات البينات من كتابه الكريم، وما تتضمنه من آيات الإعجاز في بيانها، ما من سبيل إلى إنكارها، ولا مندوحة عن إقرارها. وذلك بعد أن تحداهم ـ كما سلف في فصول سابقة ـ بأن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله.
ولما كانت رسالة محمد بالإسلام جاءت إلى الناس كافة، في كل زمان ومكان، ولم تقتصر على قوم بعينهم، كقوم موسى وقوم عيسى، فهنا تبرز قضية على غاية من الأهمية ردّاً على هؤلاء هي:
لو أن الإيمان بالله وبالإسلام يقتضي شهود معجزة على يد محمد ليقتنع بها معاصروه عند مشاهدتها، فمن لأولئك البعيدين في المكان والزمان، الذين لم ولن تتسنى لهم فرصة كهذه، لاسيما بعد انقضاء مئات من السنين، ثم آلافها ربما، إذا ما قيض للبشر البقاء حتى ذلك الزمان. من لهؤلاء بمعجزات يشهدونها عياناً، فيما بعد، لكي يتحقق الإيمان مادام هذا شرطه؟ لهذا كان القرآن الذي وعد الله بحفظه مدى الدهر إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر:9) هو المعجزة الحقيقية في حد ذاته، الباقية والتي سيؤمن بها اللاحقون. وهذا هو ما حدث من يومئذ، وما هو حادث في أيامنا هذه.
نقول هذا على الرغم من علمنا بأن محمداً صلى الله عليه وسلم كانت له معجزات مشهودة وفي مواقف كثيرة، منها ما تضمنه القرآن (كعصمته من الناس)، ومنها ما كان على الواقع. لكن الله سبحانه لم يشأ أن تكون المعجزة المادية هي مصدر الإيمان بهذه الرسالة تحديداً، كونها آخر الرسالات لخاتم النبيين، من ثم كان الأولى أن تبقى للمسلمين معجزة أزلية لا تبطلها الأيام، ولا تقتضيها المشاهدة. وهل كان يمكن للناس في أيامنا ـ مثلاً ـ أن يصدقوا رواية تنقل إليهم عن أناس كانوا شهودها قبل أربعة عشر قرناً؟ أوَليس القرآن الذي بين أيديهم أصدق، كشاهد وكبرهان، من أي شيء آخر؟
ويكفي أن نذكر معجزة الإسراء والمعراج، التي فتنت بعض الناس فأوشكوا أن يرتدوا عن إسلامهم حين لم تستطع عقولهم تصور إمكان حدوثها، حسب المقاييس الطبيعية والبشرية بطبيعة الحال. إذن المعجزة المادية ليست شرطاً لازماً لكي يؤمن من شاء أن يؤمن، أو يكفر من لم يشأ إلا أن يكفر.
وقد نختم هذا الفصل بفقرة من كتاب حياة محمد لمحمد حسين هيكل( ):
(بلغت حياة محمد الإنسانية من السمو ومن القوة ما لم تبلغه حياة غيرها، في نواحي الحياة جميعاً. وما بالك بحياة إنسانية اتصلت بجوهر الكون وكنهه، من أزله إلى أبده. واتصلت بخالق الكون بفضل منه ومغفرة. ولولا هذا الاتصال، ولولا صدق محمد في تبليغ رسالة ربه، لرأينا الحياة على كرِّ الدهور تنفي مما قال شيئاً. لكن ألفاً وأربعمائة من السنين انقضت ومايزال بلاغ محمد عن ربه آية الحق والهدى. وبحسبنا على ذلك مثلاً واحداً نضربه: ذلك ما أوحى الله إلى محمد أنه خاتم الأنبياء والمرسلين. انقضت أربعة عشر قرناً لم يقل أحد خلالها إنه نبي أو إنه رسول رب العالمين فصدقه الناس. قام في العالم أثناء هذه القرون رجال تسنَّموا ذروة العظمة في غير ناحية من نواحي الحياة، فلم توهب لأحدهم هبة النبوة والرسالة. ومن قبل محمد كانت النبوات تتواتر والرسل يتتابعون، فينذر كلٌّ قومه أنهم ضلُّوا ويردهم إلى الدين الحق، ولا يقول أحدهم أنه أرسل إلى الناس كافة، أو أنه خاتم الرسل والأنبياء. أما محمد فيقولها، وتصدّق الأيام والقرون كلامه. ولولا أنها من عند الله لخشي أن تكذبها الأيام والوقائع التي مابرحت طي الغيب).


* * *

سياق روائي في التحليل والتصوير
من اللافت للنظر، مسألة تبدو على غير قليل من الطرافة. ذلك أن القرآن الكريم سبق المدارس النقدية التي لم تعرف إلا حديثاً في شأن الرواية والقصة تعريفاً. هذه المدارس تجمع، مثلاً، على وجوب إنطاق الشخصية حسب مستواها الاجتماعي والثقافي والبيئي. كما أنها تتحدث عن المونولوج الداخلي، وعن تيار الوعي، والحوار بين الشخصيات والأدب الهادف والملتزم ونقيضهما، وما إلى ذلك من مصطلحات هي تسميات لمفهوم الرواية والقصة وتحديدات لمواصفاتهما.
هذا كله تجده في القصص القرآني وقد سبق إليه. ولا بد لنا هنا أن نؤكد أن المقارنة مع الفارق لصالح النص القرآني الأقوى والأهم والأسمى. وليس الغرض مما نذهب إليه في هذا التفسير والتحليل القول بأن القرآن ينطبق على مفاهيم النقد الحديث، وإنما نرمي إلى العكس بقولنا إن القرآن سبق كل هذه المدارس وإن لم يستخدم المصطلحات والتسميات، فما هذه سوى أدوات يستجد منها ما يستجد في كل عصر، تمشياً مع معطياته، التي أياً كانت، لا تخرج عن جوهر المسألة التي هي ثابتة في النص القرآني كأصل وجذر غير قابل للتبديل أو التغيير أو التعديل.
وسنأخذ هنا قصة يوسف عليه السلام، حيث نجد فيها أولاً: تعدد الشخصيات: يعقوب.. يوسف.. أخوة يوسف.. امرأة العزيز.. العزيز.. صاحبي السجن.. النسوة صويحبات امرأة العزيز.
فماذا نجد عند هذه الشخصيات؟ سوف نجد أن لكل منها منطقها ولغتها وشخصيتها المستقلة بمعنى أن كل شخصية منها تختلف في تصرفها وردة فعلها إزاء الأحداث والمواقف في كل مرة حسب متطلبات ذلك الحدث وذاك الموقف. فيوسف الغلام الذي يتحدث بلغة هي غير لغة يوسف الناضج في مراحل مقبلة من حياته، كمناجاته لربه حين همت به امرأة العزيز بأن (يصرف عنه كيدهن). ويختلف هذا عن حديثه إلى صاحبي السجن يفسر لهما رؤاهما ـ بل ولكل منهما بمنطق مختلف حسب نوع رؤياه. كذلك في حديثه إلى إخوته، تعريضاً بما فعلوا بيوسف الغلام، حين جاءوا مصر للحصول على مؤن وأغذية، فعرفهم دون أن يعرفوه، رداً على تعريضهم بيوسف وأخيه بقولهم ((إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل)). بل تتحدث الآية كيف أسرَّ يوسف ذلك في نفسه ((ولم يبدها لهم. قال أنتم شرٌّ مكاناً والله أعلم بما تصفون)). ثم بعد ذلك موقفهم واستخذاؤهم حينما عرفوه ((قالوا إنك لأنت يوسف.. قال أنا يوسف وهذا أخي قد منَّ الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين)). وتتغير لهجتهم الاعتذارية بقولهم: ((تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين)). كما تتغير لهجته هو التي تُشعر بالتسامح والغفران: ((قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين)). ثم بلهجة مختلفة أيضاً يطلب إليهم: ((اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً وأتوني بأهلكم أجمعين)). ثم يأتي موقفه الأكثر تأثيراً عاطفياً، بما يقتضيه الموقف المختلف، عند لقائه أبويه إثر قدومهم إلى مصر ورفْع: ((أبويه على العرش)) وقوله لأبيه في حنان دافق: ((يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً)) مذكراً برؤياه في العهد البعيد في أول القصة، وقبل تصاعد الأحداث وهذا ما يعرف (بطريقة الاسترجاع). مكملاً القول: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (يوسف:100). ونعلم من سياق الآية كيف جاءوا من البدو إليه. ثم يتوجه إلى ربه مبتهلاً شاكراً، (مذكراً المتلقي أيضاً) بقوله مناجياً ربه: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (يوسف:101).
وهنا نلاحظ العودة إلى ذلك الزمن البعيد، زمن الرؤيا، ليرى تأويلها يتحقق على الواقع.
كذلك الأمر في شخصية يعقوب وموقفه من مجريات الأحداث. كموقفه عندما جاءوه بالنبأ المفجع: »أكله الذئب ونحن عنه غافلون«. موقفه منهم ورده عليهم. بقوله وهو غير مصدق لهم: »قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون«. ثم نراه بعد انقضاء زمن، وبمناسبة ما حدث لأخي يوسف الأصغر وعودتهم إلى أبيهم من دونه يشكو إلى الله في مناجاة وضراعة: »إنما أشكو بثي وحزني إلى الله«. ولأن إحساسه الداخلي، في حنايا قلبه، يخبره بأن يوسف مازال حياً يرزق، يطلب إليهم بلهجة مختلفة كأنها الرجاء: يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (يوسف:87). وعندما يشم ريح يوسف.. وحين يلقى قميصه على وجهه »فيرتد بصيراً«. في كل مرة يختلف الحديث، والنبرة، واللهجة، والمنطق. ولا ننسى حوارهم معه فيردون على أبيهم حانقين عندما يعلن أنه يجد »ريح يوسف« بقولهم: ».. تالله إنك لفي ضلالك القديم«. كذلك كانت حدَّتهم عندما وجه إليهم يوسف الاتهام بسرقة صواع الملك، فكان ردهم الانفعالي:
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (يوسف:73).
أما تلك المرأة المتحدية. لماذا قلنا (متحدية)؟ لأن شخصيتها المرسومة بدت كذلك في النص. جرأتها وكذبها وافتراؤها عندما أمسك بها الزوج متلبسة فأنكرت، بل عمدت إلى تحريضه على يوسف، تبرئة لنفسها وتغطية على موقفها الحرج بقولها: »ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يُسجن أو عذابٌ اليم«. ثم تذهب إلى أبعد من ذلك بحكم تلك الجرأة في شخصيتها، فتدعو نساءها في جرأة وقحَّة أشد، لتريهن وقع مرأى يوسف عليهن. وعندما »قطَّعن أيديهن« »وقلن حاشا لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم« أعلنت في تحدي من لا يخشى العواقب: (قالت فذلك الذي لمتنَّني فيه) بل وتعترف: »ولقد راودته عن نفسه فاستعصم«. ثم تهدد جهاراً نهاراً على مسمع منهن: »ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنَّن وليكونن من الصاغرين«. ثم تمضي القصة على محاور عديدة، إلى أن تعود امرأة العزيز فتثوب إلى رشدها معترفة بأنها كانت له ظالمة فتقول: الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (يوسف:51). مضيفة أيضاً القول: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ. وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (يوسف:52-53).
ألا ترى كيف أن لها في كل موقف منطقاً مختلفاً حسب المعطيات والظروف؟ لكنها دائماً متحدية، عدا موقفها الأخير الذي ينمُّ أيضاً عن ثقتها بنفسها كشخصية قوية واثقة إذ تعترف ــ وقلما تعترف المرأة ــ جهاراً نهاراً بما كان منها. تلك كانت صورة المرأة الجريئة العنيفة المعتدة بمركزها وجمالها، حتى بدت في تصوير القرآن لها عبر هذه الأحداث وكأننا نعرفها بل كأنا نراها رأي العين. وكذلك باقي الشخصيات في القصة بدت وكأننا نعاصرها ونعايشها زماناً ومكاناً مع أبطالها.
والغريب أن السورة التي جاءت في خمس عشرة صفحة ومائة وأحد عشر آية، بما في ذلك ما تضمنته من عظات وعبر، تُستخلص من بين ثناياها، أعطتنا ــ كأحداث ووقائع ــ نصاً روائياً طويلاً كاملاً في الزمان والمكان وتعدد الشخصيات وتنامي الأحداث، وصورة المجتمع القائم آنئذ كما لو كنا نشهده بأم أعيننا.
وقد نجد في آية واحدة ـ وهو أمر مذهل حقاً ـ ما يعرض سمة العصر في ذلك البلد (مصر)، وما ساد فيه من عادات وتقاليد وأعراف ومواصفات اجتماعية واقتصادية.
كما نلحظ تصوير الموقف المحوري في القصة وذلك عند مفاجأة العزيز لهما في تلك اللحظة الحرجة. تبين لنا موقف العزيز في تصوير قصصي بديع. فها هو إذ يخاطب يوسف وكأنك تراه يقف أمامهما محدِّقاً في يوسف معاتباً أو مندداً:
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا.. (يوسف:29)
ودون أن تقول الآية أنه (نظر إليها) أو أنه (أردف قائلاً)، ــ كما نفعل ونحن نكتب نصّاً قصصياً ــ بل تنتقل الآية مباشرة إلى حديثه مع امرأته، تاركة لك تخيل الموقف، ليقول لها دون أن يناديها باسمها، فتفهم أن الخطاب موجه إليها:
.. وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (يوسف:29). تاركاً لك أيضاً الربط في خيالك بين الصورتين.
والسورة تدلنا على أنه كان مجتمعاً محافظاً. يتبيَّن ذلك من موقف العزيز الاستنكاري لمحاولة الخيانة الزوجية، كما تبين من موقفها مع النسوة وخشيتها القيل والقال، فتدعوهن لتريَهنَّ أنها كانت معذورة في تصرفها وفي ضعفها الأنثوي أمام إغراء وسامته الصارخة.
ففي الآية (30) من السورة ـ على سبيل المثال ـ نرى صورة المدينة، والقصر، والطبقة الحاكمة بأرستقراطيتها وتعاليها وسلطانها من جهة، وما يشغل مثل هذه الأوساط من قضايا تحمل سمة الترف والسطحية والفراغ، حيث تنتشر الشائعات، وتكثر الأقاويل في الخصوصيات والفضائح. تقول الآية:
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (يوسف:30)
صورة النساء المترفات الفارغات من الهموم والمشاغل. اللواتي لا يجدن ما يملأ فراغ حياتهن غير الحديث عن الآخرين ــ الأخريات بخاصة ــ وأسرارهم وخفاياهم، وإثارة الشائعات المغرضة.
وتكتمل الصورة عند امرأة العزيز، حين تبلغها أحاديث النسوة في شأنها فترد عليهن بالأسلوب الماكر ذاته الذي تصوره لنا الآية الكريمة التي تليها مباشرة فتقول:
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (يوسف:31)
وهذه الآية الأخيرة تصور الشحنة النفسية المحتدمة في داخلها بحيث تدفعها إلى استخدام كلّ دهائها ومكرها لإيقاعهن في الحرج وتسويغ ما أقدمت عليه. إرسالها إليهن، إعداد المكان للجلوس، إعطاءهن السكاكين، ثم طلبها إليه الخروج عليهن، إكبارهن وإعجابهن إلى درجة تقطيع (جرح) الأيدي، ردة فعلهن مأخوذات بجماله ووسامته. ذلك كله في آية واحدة من ثلاثة أسطر أو أقل، يعجز عنها أبرع الكتاب والمبدعين في أقل من عشرات الصفحات، دون أن يبلغ فيما كتب وأبدع بعض ما بلغته الآية الواحدة هذه( ).
هل أدق من هذا الوصف للمجتمع الملكي، وللمدينة الرافلة بالعز والنعمى يومئذ في مصر؟
هل كان في وسع محمد عليه السلام الإلمام بذلك كله، بتفاصيله الصغيرة وجزئياته، ثم التعبير عنه على هذا النحو؟
هذا مثال في سورة واحدة. ويمكننا أن نخلص إلى نفس النتائج في سور قصصية كثيرة: كسورة مريم، والكهف، وإبراهيم، وطه، ونوح، ولوط، ومعظم قصص الأنبياء الآخرين.
إنهم يتحدثون اليوم عن ما أسموه قصة قصيرة جداً. لقد سبق القرآن ما نعرفه الآن عن هذا الضرب من القصص. لننظر، على سبيل المثال، إلى تلك القصص القصيرة جداً، في السور القصيرة جداً، فماذا عسانا أن نجد:
سورة الفيل جاءت في خمس آيات، في ثلاثة أسطر. لكنها عرضت قصة كاملة عن أصحاب الفيل، وماذا فعل الله بهم، وكيف أرسل عليهم طيراً أبابيل، أبادتهم وأحلت بهم الخسران والخذلان. وفوق ذلك تضمنت آية من آياتها الخمس عظة جاءت في صيغة تساؤل: (ألم يجعل كيدهم في تضليل) أي أن القصة كلها جاءت في أربع آيات قصار فقط.
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ. أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ. تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ . فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (الفيل:1-5)
وفي سور أخرى جاءت القصة في بضع آيات وحسب، لكنها كانت وافية وكافية لإعطاء الصورة للقصة كلها. فقصة ثمود وما حل بها جاءت في أربع آيات من سورة الشمس، في ثلاثة أسطر فقط التي هي جزء من السورة:
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا. إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا. فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (الشمس:11-14)
في هذا النص القصير جداً، عرفنا قوماً اسمهم ثمود، وعرفنا أنهم كذبوا وطغوا. وكأن كل كلمة من الآية الأولى تتحدث عن مرحلة وتصف حالة: كذبت.. ثمود.. بطغواها.. وتستوفي بها المعنى كاملاً والصورة. ثم عن انبعاث اشقاها.. صورة كاملة أخرى. وفي الآية التي تليها صورة لما قال لهم رسول الله وفيها ذكر لناقة.. وتليها آية قصيرة تصف: تكذيبهم إياه.. ثم عقرهم إياها (الناقة).. ثم غضب الله عليهم فأشارت إلى عقاب الله الذي حلَّ بهم، بكلمة واحدة هي: »فسواها«. كلمة جامعة مانعة مثيرة للخيال، ناطقة بما حدث للقوم.
وتنتهي القصة وأنت ملمٌّ بكل ما جرى وكأنك قرأت كتاباً يحكي قصتهم البائسة.
أما سورة (الحاقة) ففي آيات أربع منها فقط تصور لنا مآل شعبين في ذلك الزمن الغابر، وما حاق بهم من عذاب، ونوعية ذلك العذاب ووسيلته. الشعبان هما ثمود وعاد. والآيات تبين السبب أولاً بالقول:
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (الحاقة:4)
ثم النتيجة بسبب تكذيبهم وهي:
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا . وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ. سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (الحاقة:5-7)
ثم التساؤل، للاعتبار مما حلَّ بالقوم:
فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (الحاقة:8)
ولنمعن النظر في قوله تعالى بعد أن عرفنا أن الريح الصرصر العاتية كانت وسيلة العقاب وأداته (وكم هي مخيفة كلمة صرصر هنا). تصف الآية الريح التي تواصلت بسبعة أيام بلياليها. وأما الوصف إثر تلك العاصفة لما أمسى عليه حال القوم فليس هناك ما هو أبلغ ولا أدق ولا أوقع في النفس »فترى القوم فيها صرعى«.. »كأنهم أعجاز نخل خاوية«. في عبارة قصيرة تتخيل المشهد حقلاً مترامي الأطراف تناثرت فيه أعداد هائلة من الأجساد خالية من كل حياة، فبدت كجذوع النخيل الجوفاء الملقاة على الأرض هامدة لا حراك فيها.
وقد تأتي تتمة القصة لقوم من الأقوام، في كثير من الحالات، في مكان آخر من القرآن، في سورة أخرى. فقوم عاد جاء وصف بلادهم مثلاً، في سورة الفجر إذ نقرأ:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ. إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ (الفجر:6-8)
وصف بلادهم (إرم ذات العماد) بأنه »لم يخلق مثلها في البلاد« يدلنا على ما كان عليه القوم من تمدّن في مضمار العمران وإشادة البنيان. ولكنهم لم يرعوا نعم الله التي أغدقها عليهم: (فأهلكوا بريح صرصر عاتية).
يقول سبحانه:
.. مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (يوسف:111)
وما محمد (عليه السلام) سوى مبلِّغ عن ربه ما أنزل إليه. وهل من أحد، كائناً من كان من البشر، بقادر على اجتراح مثل هذا الإعجاز؟ أليس هذا فوق مستوى البشر ـ سائر البشر؟

* * *

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 15 / 07 / 2008, 50 : 12 AM   رقم المشاركة : [9]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: القرآن ومحمد .... لمؤلفه : د.يوسف جاد الحق

الفصل الخامس
القرآن وأهل الكتاب



[align=justify]
التحريف في الكتب السماوية
ليس غريباً أن تثير التساؤل حالة امرئ يظل قادراً على الرؤية الصائبة المطلقة، على الدوام، دونما عثرات تحدث أو أخطاء تقع، في مسيرة مداها طويل طويل. وتغدو المسألة أكثر مدعاة للتساؤل حين تتحقق النبوءات، ويصدق الإرهاص على ما هو بعدُ طيّ الغيب حين يحل زمانه، لاسيما إذا كان الزمان ممتداً لمئات من السنين ستجيء. ظاهرة لو حدثت فلا ريب أنها سوف تثير علامات استفهام كبيرة بحجم المسائل التي تعرض لها، وكثيرة بمقدار تعددها ومساحة شمولها، وساحة انتشارها.
ولكي تتوضح الظاهرة، ومن ثم الإجابة على شيء من علامات الاستفهام هذه سنأتي على أمثلة منها، فنورد بدايةً آيات في شأن اليهود تتحدث عن خصالٍ ملازمة لهم أبد الدهر، كانت قائمةً ماثلةً فيهم في عهد التنزيل، وها هي ما انفكَّت ماثلةً فيهم كذلك في زماننا الراهن. لم تغيِّرهم الأحداث ولا التطوُّرات ولا الوقائع التي جرت على مدى القرون الماضية. يقول الله سبحانه فيهم:
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً (النساء:46)
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (النساء:50)
كيف كان ممكناً أن يعرف محمد (صلعم) أن اليهود حرَّفوا الكلم عن مواضعه، وهو الذي لم يقرأ في التاريخ كتاباً عن حياة الأمم الغابرة، لم يتلق علماً عن أحد.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن التوراة والإنجيل لم تكن لهما ترجمة معروفة في زمانه، لكي يقال أنها وصلته بطريقة ما. كذلك أنَّى لمحمد (عليه السلام) أن يعرف عن صفاتهم تلك التي كانوا عليها قبل زمانه. وهو لن يعرف ــ من باب أولى ــ ما سوف يكونون عليه في قادم الأيام، وأنها سوف تظل ملازمة لهم على مدى الزمان، الأمر الذي وصلنا نحن من خلال كتب التاريخ، معايشة يومية عيانية. ونراه بأم أعيننا اليوم.
أما افتراؤهم على الله الكذب ـ في الآية الثانية آنفة الذكر ـ فهي تصور حالة ما برحت قائمة بشأنهم، لم تتغير أبداً. وهذه آيات أخرى تعزِّز الصورة عينها فيهم وفيمن يوالونهم من خارجين على المسيحية السمحة:
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (المائدة:13-14)
تشير الآية الأولى ـ فضلاً عن تحريفهم التوراة ـ إلى خياناتهم، بصيغة الحال والاستقبال (لاتزال تطلع).. إلى آخر الآية.
أما الآية الثانية فتتحدث عن النصارى ـ مسيحيو أوروبا المثال على ذلك ـ فهؤلاء نسوا ما جاءت به المسيحية. وها نحن نراهم على ما هم عليه اليوم ـ وهو غني عن البيان ـ. يستعمرون ويستغلون المستضعفين في الأرض ويوقعون المظالم في كثير من الشعوب. فضلاً عن صراعاتهم فيما بينهم.
أليس غريباً أن تتحدث الآية في حينها عن عداوة وبغضاء سوف تمتد بينهم إلى يوم القيامة؟ ألا يخطر لنا أن مناوئي الإسلام وأعداءه ربما سخروا يومئذ ــ عند التنزيل ــ من الذهاب بعيداً إلى التنبؤ بأن هذا العداء سوف يمتد إلى يوم القيامة؟
ولكن: ألم يشهد التاريخ على ذلك؟
هل توقفت الحروب والنزاعات والصراعات، أو اختفت العداوات بينهم منذ ذلك الحين؟
ألم يشهد القرن الماضي وحده، بينهم أنفسهم، حربين عالميتين أودت كل منهما بما ينوف على خمسين مليوناً من البشر؟ ناهيك عن الحروب الأخرى التي كانت تقوم من حين لآخر قبل ذلك. نذكر منها: حروب نابليون، وحروب المائة سنة بين إنكلترا وفرنسا، وحرب الارمادا بين الإنكليز والأسبان، وحروب أمريكا مع بريطانيا ــ حرب الاستقلال ــ وحروب دول أمريكا اللاتينية. بل إن الحروب الصليبية قبل أن تحارب المسلمين في بلاد الشرق حاربت بيزنطة ونكَّلت بأهلها من المسيحيين.
لو لم يكن هذا كلاماً صادراً عن مصدر عليم لما وسعته الإحاطة بالصورة على هذا النحو مسبقاً وقبل وقوعها بزمن بعيد.
وهذه الآيات:
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (البقرة:78)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (البقرة:79)
تجدر الإشارة هنا إلى أن التحريف لم يطل التوراة كلها ولا الإنجيل كله. بمعنى أن التحريف حدث في البعض وليس في الكل. والقرآن يشير إلى ذلك بوضوح في قوله تعالى:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (آل عمران:23-24)
كلمة (نصيباً) نكرة تفيد قدراً محدوداً من النصوص. أما لفظ (مِنْ) فهو للتبعيض. بمعنى أنهم أوتوا قدراً من الكتاب وليس الكتاب كله كذلك كلمة (فريق) إشارة إلى بعض منهم، وليس كلهم. أما عن تصورهم بأن النار لن تمسهم إلا في أيام معدودات فذلك ناتج عن فهمهم للقسم المحرف المفترى في ذلك الدين كما تقول الآية الثانية أعلاه (24 آل عمران).
أما الآية (14 ـ المائدة) التي سلفت الإشارة إليها فحينما تقول ((فنسوا حظّاً مما ذكروا به.. الآية)) فالنسيان هنا أصاب الجزء وليس الكل أيضاً. فقوله نسوا (حظّاً) تعني أنهم تركوا نصيباً وافراً من الكل مما ذكرناهم به.
يمكن القول إذن، وحسب معطيات القرآن الكريم التي تصور واقع ما حدث قبل التنزيل، ثم ما هو حادث وقائم عند التنزيل.. ثم بعده في قابل الأيام بأن التوراة والإنجيل تعرضا لتحريف في نصوصهما، ولكن أجزاء من تلك النصوص لم تحرف. أي أن التحريف لم يكن بالكامل.
تؤكد الأبحاث والدراسات، من مصادر شتى ــ معظمها غربي ــ أن كتبتهم أيام السبي في بابل وبعدها هم الذين وضعوا التوراة المتداولة اليوم ــ أي بعد أكثر من خمسمائة سنة ــ، وربما بقيت أجزاء قليلة من التوراة الأصلية المنزّلة. ولكن ما من أحد استطاع تحديد هذه من تلك. وكان قد مضى على وفاة موسى عليه السلام قرون عديدة عندما حدث ذلك. ثم زعموا أن هذا الذي كتبوه بأيديهم هو ما جاء به موسى من عند الله. ذلك على الرغم مما حفلت به من خرافات وأساطير لا يستسيغ عقل أن تكون ديناً منزّلاً على نبي، لما انطوت عليه أيضاً من إساءات بالغة في حق أنبيائهم أنفسهم، يعقوب وإسحاق وداوود وسليمان وغيرهم فهم لم يتورعوا عن نسبة الكثير من الأعمال الأثيمة واقتراف الموبقات لأنبيائهم. وما كان ذلك إلا ابتغاء منافع، وتحقيق مغانم أنتجتها عقليتهم الربوية، التي أتقنوا استغلالها للتدليس بها على الشعوب، بزعم أنها دين. وكما زوروا التوراة، زوروا كذلك التاريخ، الذي أقحموه عليها في أسفارهم تلك.


* * *

التضليل اليهودي والمصير
ومن بين ما تفتقت عنه ذهنيتهم المريضة ما ألقوه في روع الغرب، في الحقبة الأخيرة من الزمن ــ لاسيما أمريكا ــ حين استطاعوا تهويد بعض الكنائس فيها وصهينتها ــ بمعنى تسييسها حسب رؤيتهم ــ فأقنعوا أبناءها، بما يملكون من وسائل الإعلام وأدواته المختلفة، بضرورة اتّباع ما أسموه بالعهد القديم (الذي هو توراتهم المزيفة دون غيرها). مدَّعين أن العهد القديم هذا هو الأصل في الديانة المسيحية السابق للعهد الجديد ــ الإنجيل ـ.
وقد انتشرت هذه العقيدة اليوم في الكنائس المسيحية الأنجليكانية. وكذلك البروتستانتية (التي سبق أن بشّر بها ورسّخها في بعض بلدان أوربا، أهمها إنكلترا وألمانيا (مارتن لوثر) اليهودي، ومن بعده (كلفن) خروجاً على المسيحية الكاثوليكية).
كان ذلك توطئة لتسييس المسيحية(*) بل تهويدها حسب المصالح اليهودية. وبحسبها أوجب هؤلاء الاعتقاد بأن المسيح قادم إلى أرض فلسطين تحديداً في مستقبل قريب. وأنه من أجل تحقق مجيئه كان لابد من (عودتهم) إلى ما أسموه (أرض الميعاد). وبغير ذلك لا تصدق النبوءة ولا (يعود) المسيح..! ومن ثم وجب على مسيحيي الغرب التعاون معهم من أجل تحقيق ذلك. وهو ما حدث حتى الآن كخطوة لابد منها تسبق مجيء المسيح. أما ما يلي ذلك فهو ــ حسب مزاعمهم ــ أن حرباً سوف تقع في موقع (مجدو) بفلسطين. وهذه سوف يباد فيها (المسلمون) وتطهّر (أرض إسرائيل الموعودة لشعبه المختار..!) من كل ما هو غير يهودي ومسيحي إنجيلي..!
والمذهل أن ينجحوا في التوصل إلى ما هدفوا إليه، برغم ما بلغه الغرب في هذا العصر من تقدم علمي وثقافة عقلية، وعلمانية سائدة تتنافى جميعاً مع مثل هذه الخرافات، والتخرصات والأباطيل.
والأكثر غرابة أن يؤمن كثيرون في الغرب بمثل هذه التهاويم الدخيلة على فلسفته العلمانية، وهو الذي فصل الدين عن الحياة، وأقام نهضة على أسس علمية صرفة منذ خمسة قرون. الغرب الذي يرفض كل ما هو غيبي، وكل ما لا يخضع للتجربة العلمية يذعن لتقبل هذا المفهوم، استثناء لا مبرر له ولا منطق وراءه يسنده.
بل هم استطاعوا أخيراً تجنيد النخبة في الهرم السياسي للحكم في أمريكا ــ عن طريق حشد الأصوات والإعلام بوسائله الحديثة ومكنته الهائلة التأثير في الرأي العام ــ لخدمة هذه النظرية بحيث أمسى الحكم في أمريكا اليوم يهودياً ـ صهيونياً تماماً، من الكونجرس ومجلس النواب إلى الرئاسة ودوائر الخارجية والعسكرية والإعلامية..! يرى ما يرون ويأتمر بما يأمرون، في استجابة مطلقة، ورضوخ تام شامل. حتى أن أمريكا اليوم، التي أضحت قطباً أوحداً يهيمن على العالم، هم الآن على رأسه وفي قمته. بمعنى أنهم (يهيمنون) على الدولة (المهيمنة) فتحولت هذه إلى أداة تنفيذية لمخططاتهم. تماماً كما رسموا وخططوا في (بروتوكولات حكماء صهيون) منذ ما ينوف على قرن من الزمن.
والغريب أن المسألة برمتها كانت خديعة كبرى، يندهش المرء وتستبد به الحيرة كيف انطلت على رجال الفكر والسياسة والدين في أمريكا، بحيث أصبح أتباع هذه الكنيسة، التي سرقها اليهود (بل قل هوَّدوها)، نحواً من سبعين مليوناً (كما تصرح بذلك إحصائيات رئاسات كنائس مسيحية في كثير من بلاد العالم). وقد أصبح لها كنائسها الخاصة ومراكزها للتوجيه، ومحطات إذاعاتها، وفضائياتها، والكثير الكثير من وسائل الإعلام، بل والفنون كالسينما والمسلسلات، ومعظمها يملكها اليهود أنفسهم، كما هو حال شركات الإنتاج السينمائي في هوليود، ذات التأثير العالمي الهائل، عن طريق أفلامها أمثال شركات: (Warner Brothers),
(Fox Twentieth Centiary), (Metro Golden Mayer), (Universal) وغيرها.
ولكن ما هي تلك النظرية ــ الخديعة التي استطاعوا بواسطتها السيطرة على عقل هذا القطاع من الشعب الأمريكي ذي التأثير، بدوره، عالمياً، سياسة، واقتصاداً، وثقافة، إلى حد كبير، بحيث سادت في الكثير من أرجاء العالم ثقافة أمريكية متدنِّية في مفاهيمها وتوجُّهاتها أوشكت أن تحل مكان ثقافة كثير من الشعوب، وأسهمت في صناعة الأفكار والعقول لدى نخبها وقياداتها الحاكمة تحت عناوين خادعة كالعولمة، ومساواة المرأة بالرجل، والانفتاح، والإصلاح الثقافي وما إلى ذلك من مصطلحات يفرضونها على وسائل الإعلام والتوجيه فرضاً لتحقيق أغراض بعينها.
كان المدخل بسيطاً خادعاً تمكن من التسلل إلى عقول الأمريكيين. قالوا لهم (نحن وأنتم ننتظر المسيح. إن في توراتنا ــ العهد القديم الذي يجب أن تؤمنوا به أيضاً لكي يكون إيمانكم صحيحاً ــ نبوءة تقول بـ (عودة) اليهود إلى (أرض الميعاد) فلسطين أولاً. وبعد تجمعهم فيها تقع معركة (هرمجدون) التي يدمِّر فيها الأعداء (أي العرب والمسلمون) ومن ثم يهبط السيد المسيح إلى الأرض. ليلتحق به المؤمنون بهذه الفكرة.
أين تكمن الخديعة في هذه المسألة؟
فَهِم الإنجيليون من هذا أن المسيح ــ عيسى بن مريم نفسه ــ الذي ارتفع إلى السماء عقب صلبه(*) قبل ألفي سنة سوف (يعود) إلى الأرض في آخر الزمان، ربما هذه الحقبة من الزمن. فالمسألة إذن هي (عودة) السيد المسيح.
لكن اليهود لا يؤمنون بهذا المسيح الذي جاء. ومن ثم أخفوا فكرتهم هم عنه والتي مؤداها أن المسيح (المخلِّص) لم يأت أبداً بعد ولكنه (قادم).
اكتفوا بادعاء (انتظار) المسيح. وكل فريق له فهمه للمسألة. ولكن المسيحيين يجهلون ما يضمره اليهود من أن هذا المسيح غير ذاك المسيح، ويحسبونهم يتحدثون عن مسيح واحد. متجاهلين ما لبث اليهود طوال عشرين قرناً ينكرونه. بل وأنهم هم الذين سعوا إلى صلبه. وأنهم يعتقدون أن المسيح الحقيقي لم يأت، وأن الذي أتى أفَّاق كاذب، ولدته سفاحاً أم زانية (ونستغفر الله عن كل هذا الإفك الذي يفترون). نسي أولئك هذا كله. وربما ساعدهم على ذلك تبرئة الفاتيكان، والمجمع المسكوني لهم من دم المسيح في السبعينيات من القرن الماضي.
وهكذا فرض اليهود عليهم الاقتناع بأن على المسيحي الحق أن يؤمن بالعهد القديم قبل العهد الجديد، وإلا فإن إيمانه باطل..!
وعلى رأس أهدافهم ــ التي تبدو ضرباً من الجنون للوهلة الأولى ــ الوصول إلى السيطرة على العالم. ولما كانت ضآلة عددهم لا تتيح لهم ذلك، فقد سعوا إلى السيطرة، على مفاتيح السياسة الأمريكية وعصبها ومراكز القوة وصنع القرار فيها لتسخيرها من ثم لتحقيق ذلك الحلم. ولابأس من أن تظهر أمريكا على السطح فيما هم يقبعون وراء الستار ممسكين بخيوط اللعبة.
لكن مسيرة البشرية ـ وكذلك التاريخ ـ لن تتوقف أو تنتهي ها هنا، كما يتنبأ (فرنسيس يوكاهاما) بحيث تصبح النظرية السياسية الأمريكية ـ الصهيونية سيدة العالم إلى الأبد دون منازع. فوعْد الله بخذلانهم وإحباط نواياهم وأعمالهم لابد متحقق في النهاية.
وها هي ذي ملامح هزيمة معسكر الباطل هذا شرعت تلوح في الأفق، وعلى نحو متسارع. فهناك الآن قوى كثيرة ـ دولاً وشعوباً ـ كالصين ودول أوربا الغربية والعرب والمسلمين بدأوا يدركون ما يحيق بالعالم من أخطار نتيجة لهذا الزواج غير الشرعي بين الصهيونية والقوة الأمريكية. وأن عليها، من ثم، واجب التصدي لهذا التحالف. بل وإن ذلك أمسى ضرورة لا غنى عنها، لاسيما بعد أن بلغ النفوذ اليهودي أوجه، وإلى حد الطمع والطموح للوصول إلى سدة الرئاسة نفسها في البيت الأبيض. فها هو السناتور (جوزيف ليبرمان) اليهودي يسعى لمنصب الرئاسة، بعد أن سبق له الترشيح لمنصب نائب الرئيس، في حملة آل غور نائب الرئيس كلنتون في عهد هذا الأخير. وقد أوردنا حالة (ليبرمان) هذه كظاهرة ابتدائية. وسواء نجحوا في مسعاهم لإيصاله إلى سدة الرئاسة أو فشلوا الآن، فهي مرحلة تسبق ما سوف يحققونه مستقبلاً بما عرف عنهم من دأب ومن تكريس لكافة الوسائل لتحقيق أغراضهم.
إن اللعبة سوف تنكشف للجميع، بما في ذلك الشعب الأمريكي نفسه في وقت ليس ببعيد. وعندئذٍ يبدأ العد العكسي لانهيار ما بنوا، والقضاء على مؤامراتهم التي ما انفكوا يحيكونها لسائر أمم الأرض على مرِّ التاريخ. وأمم الأرض في نظرهم ليست سوى (الجوييم) الأغيار، أي البهائم التي ما خلقت إلا لخدمتهم. وهم لا يستثنون أحداً من تصورهم هذا، بما في ذلك أرباب نعمتهم من أمريكيين وأوربيين راهناً، ومن عرب ومسلمين فيما سلف، برغم أنهم لم يحظوا بالأمن والسلامة إلا في كنفهم على مدى التاريخ.
ولقد أنبأنا القرآن بكل ذلك. وهذه نبوءة سوف تتحقق ـ ربما في أيامنا هذه أو قريباً منها ـ في أمرين بشأنهم:
ـ أولهما: أن اليهود كتبت عليهم الذلة إلى يوم القيامة. وأن الله سوف يبعث عليهم من يسومهم سوء العذاب.
يقول تعالى:
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (لأعراف:167)
ـ ثانيهما: ما توعدهم به الله في سورة الإسراء بشأن هزيمتهم النهائية، التي يبدو أن هذا أوانها، أو أنها وشيكة، بعد أن تحقق الشطر الأول من الوعد. وفي هذا يقول تعالى:
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً. فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً. ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً. إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً (الاسراء:4-7)


* * *

آراء علماء ومستشرقين
نعرف أن الدين عند الله الإسلام، كما تنص على ذلك آيات كثيرة.
لكن ما هو قائم على أرض الواقع هو أن هناك أتباعاً لعقائد أخرى في العالم منها ما هو سماوي المصدر في أصله كالتوراة والإنجيل، ومنها ما هو وضعي كالبوذية والكونفوشية وغيرها. ونحن هنا بصدد التوراة والإنجيل وحدهما.
وقد يكون مجدياً أن نعرض لآراء بعض الدارسين من غير المسلمين في موقع القرآن من هاتين الديانتين، ومن أتباعهما الذين يطلق عليهم القرآن (أهل الكتاب). وهؤلاء لن يكونوا مجاملين لنا ــ بطبيعة الحال ــ أو منساقين وراء عاطفة نحو أمة غريبة عنهم انتماءً ومعتقداً.
يقول المستشرق كرستي ويلسون في كتابه (تقديم الإسلام) ط1، 1950م (ليس بعد الإنجيل ـ من وجهة نظره المسيحية ـ إلا القرآن. فهو أعظم الكتب الدينية تأثيراً، وأكثرها احتراماً وتبجيلاً).
أما الكاتب (شيلليدي) فيقول في كتابه (يسوع في القرآن) ط، 1913م
(القرآن أكثر الكتب المقدسة توقيراً بما فيها العهد القديم والعهد الجديد).
ويقول (مارمادوك بيكال ـ البريطاني) في مقدمة ترجمته للقرآن:
(سيمفونية لا تدانى، ولا تحاكى، تستدر الدموع من المآقي وتستثير أشجان النفس).
ومن هؤلاء الدارسين الطبيب الفرنسي (موريس بوكاي) في كتابه (دراسة في الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة). وهو بعد أن يبين أن الديانتين السابقتين (لا تعترفان بأي وحي جاء بعد المسيح وحوارييه)( ) يقول تالياً:
(أما القرآن وقد أتى بعد المسيح بقرون ستة، فإنه يتناول معطيات عديدة جاءت في التوراة العبرية والأناجيل. ولذلك فهو يذكر التوراة والإنجيل كثيراً. ويوصي المسلم بالكتب السابقة عليه فيقول يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً (النساء:136)
(كما أن القرآن يخص بالذكر أيضاً السيدة مريم. وفيه السورة (19) باسم (مريم). وهناك فرق جوهري بين المسيحية والإسلام فيما يتعلق بالكتب المقدسة. ونعني بذلك فقدان نصوص الوحي الثابت عن المسيحية. في حين أن الإسلام لديه القرآن الذي هو وحي منزَّل وثابت معاً. فالقرآن هو الوحي الذي أنزل على محمد (صلى الله عليه وسلم) عن طريق جبريل (عليه السلام) وفور نزوله.
(أما الكتاب المسيحي المقدس فإنه يختلف بشكل بيّن عما حدث بالنسبة للإسلام. فالإنجيل يعتمد على شهادات بشرية متعددة وغير مباشرة. وإننا لا نملك مثلاً أي شهادة لشاهد عيان لحياة عيسى عليه السلام.
(إن دراسة نص القرآن في العصر الحديث ترينا أن القرآن يثير وقائع ذات صفة علمية. وهي وقائع كثيرة جدّاً، خلافاً لقلتها في التوراة.. إذ ليس هناك أي وجه للمقارنة بين القليل جداً لما أثارته التوراة من الأمور ذات الصفة العلمية وبين تعدد وكثرة الموضوعات ذات السمة العلمية في القرآن. وأنه لا يتناقض موضوع ما من مواضيع القرآن العلمية مع وجهة النظر العلمية)( ).
هذا رأي عالم محايد منصف لم يذهب به التعصب إلى إنكار هذه الحقائق.
ومن الأمور التي تمادى اليهود في محاجَّاتهم بشأنها ادعاؤهم الانتماء إلى إبراهيم عليه السلام. فيتنزل قوله تعالى مفنِّداً:
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ. هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (آل عمران:65-68)
منطق مفحم لا يمكن الرد عليه، وتنديد واضح بهم. كما أنه لا يمكن لرجل يعيش في مكة في ذلك الزمن السحيق أن يعرف ما إذا كان إبراهيم يهودياً أو نصرانياً أو مسلماً. هذه الحجة على بساطتها ويسر منطقها لابد أنها كانت عصيَّة الفهم على من كان في وضع محمد عليه السلام ـ لو لم يكن مرسلاً يأتيه نبأ السماء ـ فالتوراة جاءت مع موسى عليه السلام الذي جاء بعد نبي الله إبراهيم بنحو ألف ومائتي سنة، والمسيحية جاءت بعد إبراهيم بنحو ألف وثمانمائة سنة، فكيف يمكن أن يكون إبراهيم الجد البعيد (تابعاً) لأي من الديانتين وقد أنزلتا من بعده؟ وإبراهيم (مسلم) منذ البداية، وهو الذي يعلن ذلك في مواقف كثيرة وردت في آيات عديدة من كتاب الله. لا شيء من هذا كان في وسع محمد التوصل إليه من تلقاء نفسه، وإنما هو يؤمر فيصدع بالأمر، ليبلغ الناس ما أنزل عليه.
.. مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً.... الآيات السابقة.
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (آل عمران:71)
أليس هذا أيضاً هو الواقع المعاصر، وقد وصفه القرآن من قبل؟ إنهم يبررون أخطاءهم وجرائمهم، كما أنهم يدَّعون ما ليس لهم، كما هو حادث في فلسطين، وهم يعرفون تماماً ويعلمون حق العلم أنهم ليسوا على حقٍّ إطلاقاً. بل وأن دأبهم أن يلبسوا دعاواهم الباطلة ثوب الحقيقة. ففلسطين ـ وما أفظعها من أكذوبة ـ أرض ميعادهم وهبها لهم إلههم (يهوه)..! واليهود ـ وكذلك الغرب عموماً ـ يزعمون أنهم منصفون، وأنهم حماة حقوق الإنسان، في حين أن الإنسان في شتى أصقاع الأرض لم تقع عليه مظالم أكثر مما وقعت على أيدي هؤلاء. بل إن معظم ما حاق بالبشر من ويلات وما أصاب الشعوب من مآسٍ ودمار كان من صنعهم. والأمثلة التاريخية أكثر من أن تتسع لها مجلدات. وحالة العالم مابرحت على ما هي عليه برغم دعاوى الحضارة والتقدم والمدنية.. فهي زائفة كاذبة في حقيقتها، اللهم إلا أن تتعلق بهم. وحتى هذه في حدود لا تتعداها. عداؤهم للإسلام قديم قدم الرسالة، نفسها. وهم ما انفكوا على مدى الزمن يكيدون للمسلمين ويعملون على تشويه الإسلام. لا يفرحهم شيء بقدر ما يفرحهم ما يقع للمسلمين من مكاره ومظالم وويلات هم وراءها على الدوام مباشرة أو من وراء ستار.
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (آل عمران:120)
ذلك كان دأبهم في الماضي كما هو شأنهم في الحاضر. ألا تراهم يحتفلون بكل مناسبة تحل بالمسلمين والعرب فيها نكبة أو كارثة؟ وأن أي إنجازٍ عربي أو إسلامي يصيبهم بالغم والحزن؟
من الشواهد المعاصرة على ذلك ما حدث في الخامس من حزيران. لقد رقصوا في شوارع تل أبيب، وسائر المستعمرات التي أقاموها. وكذلك فعلوا عند الاعتداء على شعب العراق. وأكبر احتفالاتهم كانت يوم احتلالهم القدس ودخولهم الأقصى في حزيران 1967 بجيش رأوا أنه أحرز انتصاراً على كافة جيوش العرب. ولقد مضوا، في غمرة نشوتهم يومئذٍ ينفسُّون عن أحقادهم الدفينة الموروثة بالألفاظ والشتائم للإسلام ونبيِّه وآله. بل هم ذهبوا يعلنون للدنيا كلها أنهم إنما ينتقمون لخيبر وقريظة وبني قنيقاع وبني النضير، برغم علمهم ــ وربما جهلهم نتيجة لما لقنوه كذباً ــ أن النبي عليه السلام عاملهم أفضل معاملة، إلى أن بان غدرهم وتجلَّت خيانتهم وانكشف سعيهم لقتل الدعوة في مهدها، فعاملهم عندئذٍ بما استحقوا، وحسب ما قضى فيهم حلفاؤهم في المدينة وبحسب اختيارهم، إذ اختاروا سعد بن معاذ وأعطوه المواثيق اطمئناناً منهم إليه، وظنّاً منهم بأنه سوف يحابيهم ويحول دون عقابهم. لقد أُشربوا الحقد في تربيتهم وتعاليمهم وأدبياتهم، توارثوه أباً عن جد منذ ذلك الزمن، وحتى يوم الناس هذا. وها هم يكشفون حقيقة دواخلهم اليوم مرة أخرى ــ إثر الغزو الأمريكي للعراق بتحريض ومشاركة منهم ــ عن ما أسموه (الانتقام للسبي البابلي ومن نبوخذ نصر)..! ولنر في الوقت عينه صدق آيات الله فيهم:
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (التوبة:32)
ويقول الله تعالى فيهم وفي المشركين:
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (التوبة:8)
أما عن نقضهم للعهود فيقول الله تعالى فيهم:
أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (البقرة:100).
ألم نشهد هذا بأنفسنا على مدى السنوات المنصرمة؟ فكم من معاهدة وعهد نقضوا، حتى مع الذين عقدوا اتفاقات معهم غير مرضيٍ عنها من عامة الناس وأصحاب القضايا، حتى تلك التي كانت في مصلحتهم لم يلتزموا بها فما بتعهد به (رابين) كفريق، ينقضه (بيريز) كفريق آخر. وما يوقعه هذا ينقضه (نتنياهو). وما يتعهد به هذا الأخير ينقضه (باراك). وما يتعهد به باراك ينقضه (شارون)… وهكذا. أليس هذا ما ينطبق واقعاً وفعلاً، وبحذافيره على ما جاءت به هذه الآية..؟ ألا ينقض كل فريق ما عقده من عهد فريق سبقه؟
هل كان محمد (عليه السلام) معنا يشهد هذه الأحداث والوقائع لكي يقول لنا هذا ويصدق القول بعد كل هذه القرون؟ وهل هناك من توصيف أكثر دقة وأعظم إحاطة وشمولاً؟
ومن أعجب ما تنزل من قرآن في حق بني إسرائيل ما توعدهم به الله، وصدق وعده بطبيعة الحال في قوله (وهذه الإضافة لمزيد من الإيضاح):
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ، وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (الأعراف:167ـ168).
يجدر ألا ينخدع أحد بظاهر ما هم عليه اليوم من قوة مادية. فهم قد لبثوا على مدى السنين مكروهين أذلاءً في سائر أرجاء المعمورة. آخر مظاهر ما حاق بهم من إذلال ــ قبل ابتلائنا بهم ــ كان في عهد النازية في ألمانيا. وسيظل هناك على الدوام من يسومهم سوء العذاب. أوَ ليس ما يعانونه اليوم في بلادنا، منذ أن وطئتها أقدامهم من ذلِّ الرعب والخوف المميت الملازم لهم ما يكفي؟ ولن يكون بعيداً ذلك اليوم الذي ينتقض عليهم الممالئون لهم أنفسهم في هذه الحقبة، بسبب عنجهيتهم وغطرستهم البادية الآن نحو الجميع.
أما عن تقطيعهم في الأرض أمماً فهل هناك ما هو أكثر وضوحاً ودقة في وصف حالهم ومآلهم مما ذهبت إليه الآيات الكريمة؟ ألم يكونوا (مقطَّعين) في كل بلاد الدنيا منذ أيام محمد عليه السلام وما برحوا كذلك؟ وها هم دائبون على تجميع شتاتهم من شتى أطراف الأرض في محاولة من أجل لمِّ شملهم المشتت عن طريق الهجرة إلى فلسطين من كل مكان.
السؤال الذي يتبادر للذهن مرة أخرى هو:
كيف توصل محمد إلى هذه الحقائق مؤكداً ديمومة هذا الوضع الملازم لهم على مدى السنين، في قابل الأيام وإلى أن يشاء الله، والذي كان في حينه طيِّ الغيب؟
ولماذا يغامر ـ لو لم يكن الأمر خبر السماء ـ بالتعرض إلى مسألة قد تكذبها الوقائع في قادم الأيام من بعده؟
لو شئنا المضي في سرد الآيات في هذا الشأن لما وسعنا المقام. غير أننا نعود إلى التساؤل:
هل يجتمع العلم بهذا كله في مثل ذلك العصر لرجل واحد، أميّاً كان أو سيد المتعلمين والعلماء؟
ومن المدهش حقّاً أن نجد في القرآن من أوصاف اليهود الملازمة لهم ما لم تغيره العصور اللاحقة للتنزيل. وكأنه يقول للدنيا بأسرها بأن اليهود هؤلاء سيظلون على توجهاتهم وسلوكياتهم مهما تعاقبت الأيام. فهم يرون في الآخرين ـ أيّاً كانوا ـ مخلوقات دونهم بشرية وأنهم يبيحون لأنفسهم، من ثم سائر التصرفات غير الأخلاقية مع هؤلاء بوصفهم (الأمميين) أي الأغيار. فهذه آية تقول ذلك بالتحديد الدقيق:
ذلك بأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ من سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (آل عمران: 75).
أجل قالوا عن كل من هو غير يهودي يومئذ (الأميين أي الأممين أي الأغيار). وها هم حتى اليوم يقولون ذلك في سائر كتبهم وأدبياتهم الراهنة والمعاصرة. فكيف اتفق هذا لو لم يكن تنزيلاً من رب العالمين؟ والقرآن يحث على دراسة الكتب السماوية السابقة لرؤية ما طرأ عليها، ومقارنة ذلك بما هو عليه حال الدين الذي يحمله إليهم محمد عليه السلام، والفرق بينه وبين أولئك.
يقول تعالى:
وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (الأنعام:155ـ156).
لقد وسم القرآن اليهود بصفات تلازمهم لم يصف بها غيرهم.
فعند الحديث عن النصرانية (المسيحية)، الدين الثاني، بعد اليهودية زمنياً، يسهب القرآن في إبراز صورة حسنة عن النصارى. كقوله تعالى في الآيتين التاليتين:
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ، وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (المائدة:82ـ83).
لابد من التنويه هنا إلى أن المعنيين هم نصارى الشرق الذين نعرف، وليس الدخلاء على المسيحية من بين الغربيين ـ ممن تبنوا اليهودية ـ الذين باسمها أقاموا الحروب ونشروا المظالم وأشاعوا الفساد، لأن هؤلاء ليسوا من المسيحية في شيء، وإنما هم متهوِّدون ومنحرفون عن حقيقة المسيحية.
وهذه آيات تقول:
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ، وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (المائدة: 46ـ47).
ولكن ذلك قبل أن يعمد كتَّاب الأناجيل ــ إذ إن الذي تنزل إنجيل واحد وليس أناجيل ــ فيما بعد إلى التحريف الذي تعيش البشرية آثاره اليوم فيما يصدر عن الغرب نتيجة فهمه الخاطئ، وعمله بالأقوال المحرَّفة التي كان للأصابع اليهودية فيها دور كبير ــ كما أسلفنا ــ وأسوة بما أدخلوه من (إسرائيليات) على الإسلام. لكن هذه لم تطل القرآن نفسه كما حدث للإنجيل والتوراة الأصليين، نظراً لاختلاف الطريقة التي دُوَّن فيها القرآن وجمع، تماماً كما تنزل على رسول الله كلمة فكلمة وآية فآية.
والقرآن كما أشاد بأصحاب الإنجيل كأهل كتاب، لم يُغفل ــ في الوقت نفسه ــ جوانب الانحراف لدى أصحاب الديانتين السابقتين عن الأصل فيهما. بل كان الكشف دقيقاً، فجاءت آيات تردُّ على أصحاب كل مذهب في الديانة الواحدة، على حدة، فيما أدخله أولئك على العقيدة النصرانية، مما اعتبر خروجاً على أساسها وجوهرها وهو موضوع الوحدانية لله: تقول الآية:
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (المائدة: 72).
لكأن هذه الآية خطاب لأصحاب المذهب الارثوذكسي الذين يقولون بأن الله هو المسيح بن مريم.
ثم تتلوها مباشرة الآية:
لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (المائدة: 73).
وهذا خطاب موجه إلى أصحاب المذهب الكاثوليكي الذين يؤمنون بالثليث: (الأب ـ الابن ـ الروح القدس).
وجدير بنا أن نورد آيات أخرى في هذا الصدد. منها قوله تعالى موضحاً: من هو عيسى، ومخاطباً الذين يقولون على الله غير الحق: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً، لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً (النساء:171ـ172).
ويثبت القرآن الكريم بشرية عيسى عليه السلام وينفي ألوهيته، فيقول:
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (المائدة: 75).
وفي السياق ذاته آيات واضحة الدلالة منها قوله تعالى:
وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ. مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (المائدة 116ـ118)


* * *

حرية المعتقد في الإسلام
قد ترد على الذهن تساؤلات من قبيل:
ـ لماذا لم يتنكر محمد للرسالات السابقة، مع أن المعروف والمشاهد على الدوام هو أن اللاحق يتنكر للسابق في أمور أهون من هذه بكثير. هذا من جانب، ومن جانب آخر ما وقع له مع بعض أصحاب الرسالتين السابقتين من المجاهرة بالعداوة له ولما جاء به، لا سيما اليهود وبعض المغالين من النصارى. أليس في هذا الدليل القاطع على صدقه وأمانته في حمل الرسالة؟
ــ من دأب البشر ــ لاسيما الزعماء والقادة ــ العمل على إبراز جوانب الضعف، إن لم نقل المساوئ والمآخذ على من سبقوهم، لكي يبرروا ضرورة وجودهم. ولكن محمداً (عليه السلام) لم يكن رد فعله شيئاً من هذا القبيل. بل هو مضى إلى أبعد من مجرد التغاضي والتسامح، فأشاد بسائر النبيين والرسل الذين سبقوه. وبيَّن مزايا كلاً منهم وأثره وفضله، وما أصابه أو وقع له مع قومه الذين أرسل إليهم، منوّهاً بجهودهم، ومعظّماً لمكانتهم بما يقتضيه مقام النبوة من تقديس واحترام لهم جميعاً دونما استثناء.
والتزاماً بسنته عليه السلام وبما جاء في كتاب الله كان على المسلمين الإيمان بالرسالات السابقة وسائر النبيين والرسل. بل إن إنكار المسلم لأي من الرسالات والرسل والأنبياء يخرجه من حظيرة الإسلام، كما لو أن ذلك وقع منه على نبيِّه محمد عليه السلام. يقول تعالى:
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (البقرة:285)
أليس غريباً أن يكون هذا هو موقف بني الإسلام والمسلمين ــ بأمر من ربهم ــ من الرسالات السابقة أو الرسل السابقين في حين نرى من أتباعهم من لا يكنُّون غير العداء، ليس بالأقوال وحدها وإنما بالأفعال أيضاً، كافتعال الأسباب لشنِّ الحروب واغتصاب الحقوق وإثارة الأحقاد والضغائن على المسلمين في سائر بقاع الأرض. حدث ذلك فيما مضى، منذ مجيء الإسلام لهذا العالم، وما زال يحدث اليوم. وها نحن نسمع ونقرأ أو نشاهد على مدار الساعة، في أيامنا هذه، ما يوجهه هؤلاء من إساءات بالغة، للمسلمين، بل ولنبي الإسلام نفسه، في حين أن مسلماً يقوم بإنكار التوراة أو الإنجيل أو ينكر نبوة عيسى أو موسى أو غيرهما عليهما السلام يكون قد كفر بالإسلام نفسه.
ترى أي الجانبين ألصق بمفهوم الحضارة والتحضر والتسامح، في منطق هذا العصر؟ من يحترم الآخر ومعتقده رغم إساءته إليه وإلى معتقده، أم من يعادي الآخر ويسفِّه معتقده وهو لم يسئ إليه، أو ينكر عليه توجهه (الأيديولوجي) والفكري؟ أيهما ينطبق عليه مفهوم الحضارة؟ أي الجانبين أصدق في دعواه، كما في التزامه حرية الفكر والرأي والمعتقد؟ أي الموقفين أكثر صواباً وأدعى للاحترام؟ أيهما أهدى وأيهما أضلُّ سبيلاً؟
ـ لماذا ربط إيمان المسلم بوجوب إيمانه بأولئك الرسل والأنبياء؟
هذا التجرد المثالي من نزعة بشرية معهودة وأصيلة في التكوين النفسي للإنسان، هل له من تفسير سوى أن محمداً (عليه السلام) لم يكن هو صاحب النص، بل هو مبلِّغ عن ربه ليس إلاَّ؟
كما أن الإسلام حدَّد العلاقة مع غير المسلمين في آيتين محكمتين من كتاب الله، تعتبران بمثابة الدستور. في ذلك يقول تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (الممتحنة: 8ـ9).
لا يقاتل المسلمون إذن من خالفهم في العقيدة كما يزعم الكثير من المستشرقين وخصوم الإسلام، الذين يزعمون أن الإسلام انتشر بالسيف. ولكنهم ــ المسلمون ــ يواجهون من يقاتل المسلمين اعتداءً ومنعاً لهم من الدعوة لدينهم بالتي هي أحسن، وذلك امتثالاً لقوله تعالى:
وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (العنكبوت: 46).
وآيات أخرى كثيرة تعزز هذا التوجه:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (المائدة:105)
المسألة إذن تتعلق بمن يعتدي على المسلمين ومن يعمل على الحيلولة بالقوة دون انتشار الدعوة الإسلامية. أما في مسألة الاعتداء فقد عرف تاريخ الإسلام قديماً وحديثاً حروباً كثيرة أضرمها اليهود وغلاة من المسيحيين. منها الحروب الصليبية، ومنها ما هو جارٍ اليوم. اليهود يخرجون المسلمين اليوم من ديارهم وتظاهرهم على ذلك دول الغرب أو معظمها. وهم في هذا إنما يخرجون على تعاليم التوراة والإنجيل الصحيحة، كما يخرجون على دعاواهم في مسائل كحقوق الإنسان وما إلى ذلك. النفس الإنسانية الواحدة نهاهم الله عن قتلها فما بالنا بالجرائم المقترفة في حق الشعوب، والتي أزهقت فيها أرواح الملايين من الأنفس. يقول تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (المائدة: 32).
معنى قوله تعالى في هذه الآية أن قتل نفس واحدة (بغير نفس أو فساد في الأرض) يساوي قتل الناس جميعاً، أي الإبادة البشرية الشاملة. (النفس) هنا تعني كل نفس مهما كان معتقد صاحبها وأياً كان انتماؤه. و(الناس) تعني سائر البشر، بصرف النظر عن أجناسهم وألوانهم ومعتقداتهم وانتماءاتهم. والآيات تدلنا على أن لفظ (الناس) في القرآن يعني كافة البشر منذ بداية الخلق وإلى قيام الساعة. كقوله تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (الحج:1)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (الحج:3)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ..  (الحج:5)
ترى هل بلغت هذا المستوى من الحرص على النفس البشرية سائر القوانين والفلسفات الوضعية، بما فيها المحافل الدولية: من مجلس أمن، وهيئة أمم، ومحاكم دولية، وجمعيات لحقوق الإنسان؟ ناهيك عما يمارس على الإنسان من ألوان الاضطهاد وإزهاق الأنفس في كل مكان تحت ذرائع مختلفة، وبدافع من الكراهية غالباً من جنس لآخر. بل قد وصل الأمر إلى حد ممارسة القتل على سبيل التسلية والهواية في كثير من الأحيان. فأين هذا كله مما جاء به القرآن؟ ألا تعطي آياته للنفس البشرية حصانة ترقى إلى مرتبة القداسة؟ هذه الرؤية المتقدمة على معطيات ذلك العصر، وكل عصر، هل كانت في مقدور أحد لولا أنها تنزلت قرآناً على رسول الله محمد صلوات الله عليه وسلم؟
أليس في شرعة الأمم المتحدة المعاصرة (المتواطئة أيضاً) ما أسموه (جريمة الإبادة الجماعية) و(جريمة إبادة الجنس البشري)؟ فما هذا الذي يصنعه هؤلاء اليوم إن لم يكن (الإسهام) أو (الصمت) على جرائم ينطبق عليها ذلك الوصف. وإلا فكيف نفسِّر هذا الصمت على إبادات حقيقية تقع على فئات من البشر غالبيتها من المسلمين؟ ألم تصبح (الأنفس والأرواح) أرخص في هذا العصر من النفط.. بل من التراب؟
ألا ما أصدقه من قائل في وصفهم. يقول تعالى فيهم: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ. كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (المائدة: 78ـ79).
ترى هل تغيَّرت هذه الصورة لهؤلاء؟
نضرب ها هنا مثالاً واحداً ــ تجنباً لمزيد من الإطالة ــ فقد روي عن جابر: (أن النبي عليه السلام مروا عليه بجنازة فقام لها واقفاً، فقالوا: يا رسول الله: إنها جنازة يهودي. فقال أليست نفساً؟( ).
للموت كرامة في الإسلام، للمسلم ولغيره. فأين هذا مما يشهده العالم اليوم من تمثيلهم بجثث الموتى؟ بل هم يعذبون الإنسان حتى الموت. يقطِّعون الأوصال، ويبقرون بطون الحوامل، ويمنعون الجرحى والمرضى من الوصول إلى حيث يمكن إسعافهم، إلى أن يموتوا على مرأى منهم، نزيفاً وألماً، مستمتعين بالمشاهد الرهيبة في سادية وحشية وضيعة يقول تعالى إذ يخاطبهم مندِّداً بما هم عليه من قسوة فيقول:
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ (البقرة:74)
فماذا بعد هذا؟
إن الله سبحانه يطلب إلى نبيه دعوة أهل الكتاب إلى الالتقاء على موقف عادل للكافة هو العدل، والحرية، و(الديمقراطية) على الحقيقة وليس الزيف والرياء، فيقول:
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (آل عمران:64)
ويقول تعالى:
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (يونس:99)
بل ويذهب القرآن في تفنيده لدعاوى المكابرين، مخاطباً الرسول في شأن الرد عليهم، لاسيما أولئك الذين يدَّعون بأن لله ولد بقوله تعالى في المسألة وتنزيهاً عما يصفونه به:
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ. سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ. فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (الزخرف:81-83)
ترك الإسلام للإنسان حرية الاختيار، حتى بين الإيمان والكفر. إنه العدل والإنصاف للإنسان في أن يتمتع بحرية الاختيار وحسابه عند الله. دعا الإسلام لهذه الحرية قبل أن تعرفها مؤسسات تدعو إليها في عصرنا الراهن. مع أنها تتغاضى عن ممارسات غير المسلمين إزاءهم، حين تحاول التدخل في معتقداتهم وثقافتهم وموروثهم الإسلامي بدعوات ظاهرها الدعوة للحرية وباطنها عدوان على الحرية، لاسيما فيما يتعلق بالمسلمين. ألا يرى العالم كيف يحولون بين مسلمي فلسطين وصلاتهم في المسجد الأقصى؟ بل إنهم يعتدون حتى على الكنائس المسيحية في فلسطين ويضطهدون رجال الدين فيها. ألم يحاصروا الكنائس وعلى رأسها كنيسة المهد ويقتلوا من لجأ إليها من الناس دون أن يراعوا لها حرمة أو احتراماً؟
لم يخرج محمد على الناس بدين أراد أن يفرضه عليهم فرضاً عن طريق الإكراه والقسر. إن القرآن بما حواه من آيات في شتى شؤون الكون والحياة والإنسان وخالقها جميعاً ليس إلا عرضاً تنويرياً مسهباً لسبيلي الرشاد والضلال.
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (الإنسان:3) لكي يأخذ الإنسان بأيهما شاء بعد إعمال الفكر، وتدبر العقل، وصولاً إلى الاقتناع.
حرية الفكر والمعتقد إذن كانت متاحة لكل إنسان. لم يجبر الإسلام ــ في تاريخه كله ــ أحداً على تبنِّيه مكرهاً. القرآن جاء بهذا الميدأ في الكثير من آياته البينات.
يقول تعالى:
لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ..  (البقرة:256)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ..  (الكهف:29)
وفي سورة (الكافرون) يقول تعالى:
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ. وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (الكافرون:1-6)
هل لمنصف بعد هذا ألاَّ يُقرَّ بالمصدر الإلهي للقرآن؟
* * *

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 15 / 07 / 2008, 00 : 01 AM   رقم المشاركة : [10]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: القرآن ومحمد .... لمؤلفه : د.يوسف جاد الحق

الفصل السادس
آيات عتاب
وتنبيه من الله لنبِّيه

[align=justify]

عتاب وتنبيه وتحذير
عهد الناس على مر الزمن، فيمن ينشدون الزعامة، أو السلطة أو الجاه في أقوامهم أن يكون لديهم من الأنفة والغطرسة، ونزعة التعالي ما يمنعهم من الاعتراف بأخطائهم، إن هم أخطأوا، وكثيراً ما يفعلون. كما ألف الناس في هؤلاء، أن ينسبوا إلى أنفسهم بطولات لم يكونوا أصحابها وأمجاداً ليسوا بصانعيها. وهؤلاء في الأغلب الأعم ينطوون على عقد متأصلة في نفوسهم ــ حسب علم النفس ــ ترقى إلى مستوى المرض المزمن.
أمثال هؤلاء يرفض واحدهم أن يكون موضع لوم أو حتى عتاب، أو تلميح بمؤاخذة، فما بالك أن يتقبل تأنيباً أو تنديداً أو تقريعاً من أحد؟ والأكثر بعداً عن التصور والاحتمال أن يوجه هذا الصنف من الناس مثل ذلك إلى نفسه بنفسه، من قبيل (نقد الذات)، العبارة التي يكثر تداولها ادّعاءً دون أن يكون لها نصيب من التطبيق على أرض الواقع.
بيد أن محمداً عليه السلام لا يتردد في تلاوة آيات، على الملأ، فيها من التحذير والعتاب واللوم والنقد لهذا الموقف أو ذاك، موجَّهاً إليه بسبب حادثة هيِّنة أو حتى خاطرة قد تعنُّ له عرضاً، أو موقف اجتهد فيه قبل أن يأتيه الوحي بشأنه. يحدث هذا حتى دون أن يكون هناك مأخذ واضح لنا يقتضي شيئاً من ذلك، حسب مفاهيمنا ومقاييسنا البشرية المعتادة. وعندما تتنزل عليه آية من هذا القبيل لا يكتمها ــ حرصاً منه على مكانته بين أصحابه مثلاً ــ وإنما هو يعلنها ثم ينقلها عنه الحفاظ، ويسجلها كتبة الوحي لكي تحفظ ويعمل بها. وما برحت تتلى حتى يومنا هذا نصوصاً قرآنية، شأنها شأن سائر التنزيل. يحدث هذا برغم احتمال أن يتخذها مناوئو الدعوة، وخصوم محمد وسيلة للطعن في رسالته، والتعريض به وبدعوته. ولكن هل في وسع محمد ألاّ يفعل والله يأمره بأن يتلوها عليهم كسائر ما يتلو من كتابه؟ لم يقل أحد أنه، عليه السلام، تردد في ذلك أو راودته نفسه فيه. وهو من ثم يصدع بالأمر:
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (الحجر:94).
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (المائدة:67).
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (المائدة:49).
آيات تأمر وتنذر وتوجه، تتنزل وحياً على الرسول صلوات الله عليه.
مسألة أخرى تتعلق بالتكوين النفسي للإنسان العادي. لم يألف الناس أن ينسب إنسان إلى نفسه عدم المعرفة، والإقرار بإمكان تفوق غيره عليه بحيث يستطيع هذا الأخير أن يجره إلى الضلال. فما بالك أن يفعل هذا، خروجاً على القاعدة والمألوف، من يبغي سيادة على قومه وزعامة في عشيرته؟ ناهيك عن أن يبلغ به الطموح إمكان التطلع إلى القيادة والسيادة على دول عصره كالفرس والروم.
تقول الآية في هذا الصدد:
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (النساء:113).
الإشارة الواضحة إلى محاولتهم وسعيهم إلى تضليله.
تعلمه عن طريق الكتاب والحكمة، ما لم يكن يعلم أي الجهل به قبل ذلك المنّ بفضل الله العظيم عليه.
هذا ما تضمنته هذه الآية التي يستحيل أن تصدر في مضامينها العديدة عن إنسان في نفسه.
ما هي الضرورة الملجئة إليها إذن؟
ومن أين يخطر لمحمد ــ المبتغي زعامة قومه في رأيهم ــ أن يقول عن نفسه كلاماً كما في الآية التالية التي تبلغ الذروة في النهي والتحذير، حيث ينهاه الله عن أن يكون من الجاهلين. وهل يعقل أن يقول ذلك عن نفسه إذا كان هو صاحب القول؟ وأي فائدة تعود عليه جراء تصريحه هذا؟ وهل فيه ما يعلي من شأنه أمامهم؟
وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (الأنعام:35).
نهي صارم عن الرضوخ للكافرين والمنافقين وطاعتهم. وأمر بألاَّ يأبه لإعراضهم، فهو لن يستطيع هدايتهم إذا لم يشأ الله ذلك، مهما فعل. ونهي عن الجهل إذا ما فكر في غير ذلك..
وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (الأحزاب:48).
وهذا نهي عن إطاعة الكافرين والمنافقين وهو رسول الله المعصوم عن ذلك. فليس له إذن سوى أن يتوكل على الله متحاشياً أذاهم.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً. وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (الأحزاب:1-2)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (يونس:15-16).
بعد تأكيده على أنه لا يتلو عليهم إلا ما يتنزل عليه من ربه، وأنه يخشى عذاباً عظيماً فيما لو عصاه أو امتنع عن تأدية ما أُمر به. بعد هذا يذِّكرهم ــ بالمنطق ــ بأنه لبث فيهم عمراً طويلاً (بلغ الأربعين آنئذ)، دون أن يصدر عنه شيء مما يسمعهم إياه، أو يدعي نبوة أو رسالة كلِّف بحملها، وما ذلك إلا لأنه هو نفسه لم يكن يعلم شيئاً عن هذا من قبل. وأنه قد جاءه الوحي بغتة محمِّلاً إياه عبئاً ثقيلاً جديداً عليه، كما هو طارئ عليهم تماماً، وما كان في وسعه إخفاء آرائه ورغباته وقدراته هذه التي ظهر بها، كل هذا الزمن، لو كانت متوفرة لديه من قبل، مضمراً لها في قرارة نفسه. وإنه ليفحمهم بهذا المنطق إلى حد اتهامهم بفقدان العقل والتدبر.
ولننظر في هذه الآية في ناحية بعيدة عنهم ولكنها تجيء ضمن السياق ذاته في توجيه الخطاب له على الصورة إياها: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (التحريم:1).
إن شخصية الرجل، لا سيما العربي، تأنف الاعتراف بالخضوع لرغبات الزوجة لاسيما إذا ما حاول إرضاءها فيما لا يحرمه الله. فلماذا يأتي محمد بمثل هذا النص ولا يتردد في إعلانه على القوم؟
وآية قريبة من المسألة(*):
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (الأحزاب:37)
وحتى في هذه الخصوصية البالغة الحساسية يعلنها محمد، إذ جاءته وحياً، دون أن يتحسب لمحاذير محتملة، من قال وقيل في بيئة ضيقة، يعرف الناس فيها بعضهم بعضاً. هل يعلن الإنسان العادي ــ ناهيك عن باحث عن قيادة ــ على الملأ ما يجري بينه وبين أزواجه دون أن يخشى عواقب ذلك على سمعته الشخصية؟ وهل يسمح له كبرياؤه بمثل ذلك؟
وفي الآية أيضاً توجيه حادُّ في مسألة زواجه عليه السلام من زينب بنت جحش، مطلقة من كان متبنى من قبله، زيد بن حارثة. تحرَّج الرسول وتورَّع عن الإقدام على الزواج منها، فترد الآية معلنة عن القصة، مستنكرة خشية الناس بدلاً من خشية الله، وتعلن أنه ليس في المسألة ما يضيره لكي يخشى الناس على هذا النحو. وفيها تأكيد على أن الأدعياء ليسوا أبناء ينطبق عليهم ما ينطبق على الأبناء لكي يكون في ذلك سابقة لسائر المؤمنين. ونلاحظ أن التوجيه جاء بصيغة ضمير المخاطب المباشر مما لابدَّ أنه أثار في نفس محمد عليه السلام غير قليل من الرهبة لقوله تعالى وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ.
آيات أخرى لا تنقصها الدلالة ذات المغزى في موضوع البحث، نأتي بها في هذا المقام فتبدي لنا أي نوع من الخطاب هي، موجهة لرسول الله، وتنبئ في الوقت ذاته استحالة أن يكون القائل لرسول نبي، غير من هو فوقه، وهو الله سبحانه. يتقبلها الرسول بنفس رضية خاشعة خاشية، ثم يبادر إلى تلاوتها على مسامع قومه ــ المؤمنين منهم وغير المؤمنين ــ مع ما تضمنته من خطاب شخصي موجَّه له، لكنه أيضاً نص قرآني كسائر نصوص القرآن حفظاً وتلاوة.
من هذه الآيات قوله تعالى:
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (التوبة:80)
وآية تعلن عجزه عن صنع شيء حتى لنفسه. إلا بإرادة الله:
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (يونس:49)
بل هذه آيات أشد وطأة:
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (يونس:94-95)
تضمنت الآيتان:
ــ التساؤل الاستنكاري عما إذا كان في شك مما أنزل إليه.
ــ إذن فليسأل الذين قرأوا الكتاب من قبله، أي العارفين والدارسين.
ـ الأمر بألا يكون من الممترين ما دام الحق هو الذي جاءه من ربه.
ــ ألا يكون من الذين كذبوا بآيات الله لئلا يكون من الخاسرين.
أليس هذا تأكيداً لقوله تعالى من قبل:
سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (المزمل:5)
لنا أن نتصور كيف كان وقع هذه الآيات على رسول الله يلقيها جبريل على سمعه وقلبه. صور غير عادية، خارقة للسنن والمألوف فهي كلام الله، ورسول الله أعلم الخلق بربه، يتلوها عليه كائن غير عادي أيضاً. ملاك لا ندري نحن ما هي صورته وعلى أي نحو كان يتجلَّى للرسول عليه السلام.
من الجدير بنا هنا أن نلحظ مسألة على قدر عظيم من الأهمية هي أن القرآن كما هو بين أيدينا، قد وصل إلينا كاملاً بين دفتي مصحف نقرؤه متى نشاء. بهذا أصبح مألوفاً لدينا بحكم التعود والرفقة منذ اليفاع. ولكن المسألة لم تكن كذلك في عهد التنزيل، إذ كان يتنزل منجماً وبالتتابع، وعلى فترات متفاوتة، على مدى ثلاث وعشرين سنة، على رجل يأتيه ملك من السماء. كان يثير في المتلقين ــ سواء كانوا من المؤمنين مع الرسول أو المنكرين من الخصوم ــ غير قليل من الدهشة والعجب. كان ذلك أمراً عجباً بطبيعة الحال، ربما يشبه على نحو ما ــ مع الفارق في نواحي كثيرة ــ ما تثيره الأخبار عن الأطباق الطائرة، أو عن مخلوقات تأتينا من الفضاء البعيد.
جدير بالتنويه كذلك أن كثيراً من الصحابة لم يصلهم القرآن كاملاً. فالذين قضوا في بدر وأحد وغيرهما من الغزوات، والذين توفاهم الله في حياة الرسول وقبل وفاته واكتمال التنزيل لم يصلهم منه إلا ما تنزل حتى يوم وفاة الواحد منهم.
وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (يونس:106-109)
أوامر وتعليمات ونواهي وتحذير وتنبيه إلى قدرة الله التي إن مسته بضر أو أرادته بخير، فلا كاشف للضر ولا راد للخير عنه إلا هو، ثم هو بلاغ يعلن أنه ليس وكيلاً على الناس، وان ليس له سوى اتباع ما يوحي إليه.
وها هي ذي آية تصرح بعجزه المطلق عن هداية الناس وأن الأمر كله متعلق بمشيئته تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (يونس:99).
وهكذا تأتي نهاية الآية ــ بعيداً عن التقريرية ــ في صيغة مثيرة في تساؤل استنكاري فتقول: (أفأنت تكره الناس..)؟ والاستنكار هنا لمن يحجمون عن الإيمان، وأنه ليس مطلوباً منه إكراههم على ذلك، بمعنى أنهم أحرار في أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا.. كما سلفت الإشارة إلى هذا المعنى في مكان سابق.
قال صلى الله عليه وسلم: »شيبتنى هود وأخواتها« عند تلاوته آيات منها:
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (هود:112-113)
هذه الشدة في الخطاب، بل هذا التحذير الخطير (من النار) له ولمن معه فيما لو أنهم ركنوا إلى الظالمين.يعلنه جهاراً على الملأ كما هو. وإنا لنقرأ كذلك آيات تذكره بانطوائه على جهل وغفلة قبل نزول القرآن.
الآيات التالية تقول:
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (يوسف:3).
أليست هذه إشارة واضحة تماماً إلى جهله بمضامين هذا القصص القرآني قبل أن يتنزل إليه وحيه؟ ولا غرو في ذلك مادامت من أنباء الغيب الذي لا يطلع الله عليه أحداً، إلا أن يشاء، ولمن يشاء من رسله وأنبيائه.
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ. وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (يوسف:102-103)


* * *

استحالة اختلاق هذه النصوص
يبلغ التنبيه ذروته ها هنا، ولولا صدوره عنه تعالى لنبيِّه لقلنا أنها تنديد وتهديد: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (الإسراء:22).
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً. وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً. إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً (الإسراء:73-75)
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً. إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (الإسراء:86-87)
في كل من هذه الآيات ما ترتعد له الفرائص، وتقشعر له الأبدان لولا أن الله يثبت فؤاد نبيِّه لتلقيها، فالقائل هو الله العظيم الجبار المقتدر القاهر. والناقل هو جبريل، الروح الأمين. ولكن لقاءه ليس بالأمر الذي يستهان به، بدليل ما كان يطرأ على الرسول ــ فيزيولوجياً ــ من تغيُّر بالكاد يقدر على تحمُّله كلما تنزلت عليه آيات من الكتاب.
ولعل الآيات التالية أيضاً من أشد ما تنزَّل على محمد عليه السلام، كالذي سلف إيراده من الآيات الكريمة.
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ. وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (الشعراء:213-215)
هل نجرؤ على القول بأن الآية الكريمة الأولى تحذر الرسول من أن (يكون من المعذبين) إذا ما دعا لغير الله، الأمر المستحيل حدوثه بطبيعة الحال. فهو لن يدعو لغير الله وهو معصوم عن ذلك. لكنه الله هو الذي يخاطب نبيَّه. إلا أن الآية تقول بأنه لا استثناءات في هذه الحالة. والآية الثانية التي تليها أمر للرسول بأن يخفض جناحه (بمعنى ألا يتعالى) وأن يتواضع (وهو المتواضع بطبعه) أمام من اتبعوه وآمنوا برسالته. وفي السياق ذاته:
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ. وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (الزمر:64-66)
قد يعجز المرء هنا عن التعليق، إكباراً وإجلالاً لرسول الله ولكن الذي يوجه إليه الخطاب، كما أسلفنا، هو الله سبحانه وإن كنا لا نملك إلا أن نقول:
لو أن أحداً سعى إلى دليل قاطع لا يقبل الجدل على صدق محمد وإخلاصه في تبليغ رسالة ربه لوجد في هذه الآية آنفة الذكر (الزمر: 65) ذلك الدليل.
وهذه آيات أخرى لمن شاء المزيد لعلها أخف وطأة من السابقات:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً. وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (الأحزاب:1-2)
وآيات ثلاث نزلت على محمد عليه السلام خاطبته بضمير الغائب إمعاناً في التشديد، فهل عرف محمد الأمي الفارق على هذا النحو بين أسلوب وأسلوب في الخطاب البياني، الأمر الذي يخلب لبَّ كل ضليع في فنون اللغة ومجازاتها منذ زمانه وحتى هذا العصر، لكي يأتي بالنص بضمير الغائب بدلاً من المخاطب. عند الحديث عن الرسول وهو مَنْ يتوجه إليه بالخطاب، ثم تأتي في صيغة ضمير المخاطب مباشرة الآية الرابعة موجهة الخطاب لمناوئيه وغيرهم.
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ. لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (الحاقة:44-47)
وفي آيات من سورة الأنفال حول معركة بدر دليل صدق آخر، لمن كان في حاجة لدليل نرى أن محمداً لو كان مبتغياً زعامة دنيوية لكان له من الصفات كالتكبر والغرور والاعتداد بالنفس، ما يمنعه من أن ينسب العجز لنفسه في واقعة كانت ظاهرة للعيان. فهو الذي قاتل في بدر، وهو الذي رمى على مرأى من الخصوم ومن المهاجرين والأنصار، ومع ذلك جاءت الآيات تنفي عنه ذلك، وتجرده من الفضل فيه وتنسبه إلى الله. والسؤال هنا: ما معنى أن يتلو محمد على الناس ما يجرده تماماً من قيمة ما قام به أمامهم من قتال أبلى فيه بلاء حسناً؟ معناه الجليّ أن ذلك الكلام ليس من عنده. وما هو إلا ناقل أمين، يقول تعالى:
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (لأنفال:17)
ثم هذه الآية التي تذكرهم بضعفهم واحتمالات ضياعهم لولا رعاية الله وعنايته:
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (لأنفال:26)
وهذه آيات في منحى آخر، تبدي استحالة أن يكون عليه السلام ملماً بتاريخ البشرية الغابرة، أو أن يكون شاهداً على ما حدث في عصور سالفة، فضلاً عن القدرة على استكناه الغيب، ماضياً كان أو حاضراً أو مستقبلاً، لولا أن الله يُنهي إليه أخبار الأمم الغابرة، لاسيما في ظروف محمد وفي قريش وبيئتها البدوية المغلقة.
يقول تعالى:
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (القصص:44-46)
هذا النفي المتكرر لصور ووقائع متعددة، ما هو إلا من قبل التأكيد على أن محمداً لا يأتي القوم بشيء من عنده.
ثم في آية أخرى يقول تعالى:
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (آل عمران:44)
كما تشير آيات أخرى، على نحو قاطع، وبصورة جازمة على المحدودية القصوى لقدرة محمد على أن يصنع للناس شيئاً ــ أو حتى لنفسه ــ بله أن يعدهم بشيء من عنده، من تلقاء نفسه:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (الملك:28)
بل أي وقع تحدثه في نفس محمد حين تتنزل عليه آية يخاطبه ربه فيها بقوله:
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (آل عمران:128)
هل في وسع أحد بعد هذا أن يدَّعي بأن محمداً يرسل القول على عواهنه من لدنه، أو أن ينسب إليه هذا الكلام، سواء كان في نصه لغة وشكلاً وبياناً، أو كان في مضمونه الذي يرتجف المرء خشية ورهبة لدى سماعه؟ وما جدوى أن يقول محمد كل ذلك عن نفسه ولنفسه؟
وما دمنا في معرض التدليل على هذه القضية، فلا بأس أيضاً من إيراد الآيات التالية التي من شأنها أن تقطع الشك عند المستريبين باليقين:
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ. وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (القصص:85-88)



* * *

أمانة التبليغ
آيات جامعة مانعة. تبين الدور المنوط بمحمد صلى الله عليه وسلم. وإنها لتعلن أنه لم يكن ينتظر تكليفه بهذه الرسالة من قبل، وبأمانة حمل هذا الكتاب ـ القرآن الذي لم يكن محمد يعرفُ له اسماً حتى يوم بعثته ـ القرآن الذي فرض عليه فرضاً لينقله إلى الناس. محذرة إياه ــ الآيات ــ عن أن يكون ظهيراً للكافرين. أو أن يتراخى في حمل الدعوة وتبليغ الرسالة، أو الدعوة لغير الله رب العالمين، الذي لا إله إلا هو. ثم ختامها بما تقشعر له الأبدان، عن حتمية المصير للكائنات والكون جميعاً، الذي هو الفناء المحتم، والذي لن يبقى بعده غير وجهه تعالى. أما في الأسلوب من روعة في البيان، أما عن وضوح القصد، في شمول الصورة، وفي مثل هذا الحيز المحدود من الآيات فتلك مسألة أتينا عليها عند الحديث عن الإعجاز البلاغي في القرآن.
ثم لننظر إلى الآيات التالية التي تبين للخلق جميعاً مصدر الرسالة وفحواها ومرماها، والتي تثير في النفس الخشية والرهبة، لتستقر فيها من ثم الثقة اليقينية، وليقيم الإيمان في حنايا القلب بما انطوت عليه، من حوار، ويستكنَّ اليقين، يخاطب العقل والقلب معاً، فلا يدع مجالاً لغير الإيمان بصدق المصدر وعظمته، وإلى تطامن النفس البشرية أمام قدرة الله، وخضوعها لمشيئته:
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً، وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْماً وَزُوراً، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً، وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلاَ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً، أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَ رَجُلاً مَّسْحُوراً، انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً، تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً )الفرقان: 1ـ10).
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً (الفرقان: 32).
سيرة الرسول مع القرآن ترينا بوضوح لا يرقى إليه الشك أن محمداً لم يكن له من الأمر شيء في شأن التنزيل، وإلا لأخفى آيات موجهة إلى شخصه مثلاً. آيات تتحدث عن شخصه تحديداً، خشية إساءة تفسيرها من قبل المغرضين والمتربصين. إذ يحسبونها تمسُّه على نحو ما، أو يستنتجون منها تحجيماً لشخصه أو تهويناً من أمره، لاسيما حين تتعرض لقضايا تتعلق بالطبيعة البشرية ونوازعها المعرضة للميل مع الهوى، أو تلبية رغائب النفس. قد يخشى محمد تفسيراً من هذا القبيل، مغرضاً أو حاقداً. أو متسقطاً للهفوات. فيؤثر الصمت من ثم عن إبلاغهم تلك الآيات تحديداً. ولكن محمداً حاشاه أن يفعل هذا أمام نفسه من جهة، وأمام الأمر الإلهي من جهة أخرى. سيقوم بتبليغ ما أنزل إليه من قرآن وحسب. وستجد آيات كثيرة غيرها مبثوثة في ثنايا العديد من السور، وهو لا يملك صلوات الله عليه إلا أن يصدع بما يؤمر.
من هذا القبيل نأتي بعدد آخر من الآيات الكريمة في جوانب أخرى ذات علاقة، إلى حد ما، بعلاقاته الخاصة الشخصية والأسرية، كقوله تعالى:
وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (طه: 131).
ومن هذه الآيات ذات الدلالة القاطعة قوله تعالى في حديث الإفك المتعلق بالسيدة عائشة، كما أوردت تفاصيله كتب السيرة إلى أن تنزلت هذه الآيات بشأنها( ):
إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (النور: 11).
وفي مسألة أخرى ذات طبيعة شخصية وضمن أهله عليه السلام ولكنها تحمل تحذيراً:
َإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ، إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ، عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً (التحريم: 3-5).
لو كان له الخيار في هذه المسألة لما عمد إلى نشرها على الملأ وهي ــ كما قلنا ــ ذات خصوصية أسرية حساسة؟ وإذا نظرنا إلى القصة في عصرها نرى كم كان ذلك عظيماً على نفسه، فالخوص في القضايا الأسرية في ذلك الزمن، وفي تلك البيئة، من المحرمات.
أضف إلى هذا، الناحية الاعجازية في نقل القصة الطويلة هذه في أسطر قليلة تفي بالغرض وتبلغ القصد.
وما أكثر الآيات في مضمار الأمر والنهي والتكليف لمحمد بنقل الرسالة وطرائق توصيلها، ودقة المنهج في تبليغها، ضمن تعليمات إلهية صارمة، حتى وإن تكن موجهة للمصطفى نفسه الذي اختاره الله لحملها:
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (الشورى:15)
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (الشورى:23-24)
أما سورة (عبس) ففيها دلالات دامغة على أنها ليست من كلام محمد ولا يمكن أن تكون. وهي قصة عليها شهود عند وقوعها من معاصريه، الخصوم المناوئين منهم والمؤمنين معاً ولنستعرض القصة أولاً:
(هو ابن أم مكتوم. ذلك أنه أتى النبي (صلعم) فيما كان يناجي عتبة بن ربيعة، وأبا جهل عمرو بن هشام، وعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، يدعوهم إلى الله تعالى ويرجو إسلامهم. فقام ابن مكتوم فقال:
(يا رسول الله علمني مما علمك الله. وجعل يناديه ويكرر النداء، وهو لا يدري أنه منشغل عنه، مقبل على غيره، حتى ظهر الغضب في وجه الرسول لقطعه كلامه، وقال في نفسه: سيقول هؤلاء الصناديد إنما أتباعه العميان والعبيد فعبس رسول الله (صلعم) وأعرض عنه مقبلاً على القوم يكلمهم. فأنزل الله تعالى هذه السورة. فكان رسول الله بعد ذلك يكرمه وإذا رآه يقول له: مرحباً بمن عاتبني فيه ربي( ):
عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَن جَاءهُ الأعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلاَ يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى، كَلاَ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (عبس: 1ـ11).
على الرغم من أن الخطاب موجه لشخص الرسول عليه السلام وحده، إلا أنه جاء في صيغتين. الصيغة الأولى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَن جَاءهُ الأعْمَى) جاءت بضمير الغائب إشعاراً بعدم الرضى عما حدث. ثم انتقلت الآيات بعدها وحتى نهاية السورة، وعلى الفور، إلى صيغة المخاطب مباشرة: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى.. إلى آخر السورة تأكيداً على المؤاخذة. ثم بلغت هذه المؤاخذة ذروتها في قوله تعالى في تساؤل استنكاري: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى
ثم يأتي بعد ذلك التقرير بأنه ليس من مسؤوليتك ألاَّ يتزكى ذلك الرجل، الذي استغنى، بحيث توليه كل اهتمامك، مهملاً ذاك الذي ((جاءك يسعى)) من تلقاء نفسه، وهو الذي يخشى الله، أفتتلهى عنه؟ تلي ذلك الآية شديدة الوقع منذرة ومحذرة: (كَلاَ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ).
قصة ابن مكتوم هذه تعالج موقفاً هو صورة ضافية شديدة الوضوح، عظيمة الدلالة على عناصر الصراع، التي كانت قائمة في ذلك الحين، في المجتمع القرشي: الغني والفقير، الوجيه والوضيع، المؤمن أو الساعي إلى الإيمان، والجاحد المستكبر، المقر بالرسالة والمنكر لها. ويتبدى جليّاً هنا الانتصار للفريق الأدنى غنىً ومكانة، الفريق المؤمن الصالح. الانتصار لعامة الناس وبسطائهم الذين ينزعون، بفطرتهم إلى الايمان والهداية.
وهنا يجدر التنويه إلى أن محمداً لم يكن مضطراً، بداهة، إلى اختراع هذه القصة التي تنطوي على مساس بشخصه على نحو ما ــ من وجهة نظر الخصوم الذين يترصدون الأخطاء والسقطات كما يتراءى لهم ــ لم يكن بحاجة إلى اصطناع قصة، ونصٍّ، وخطاب يوجهه إلى نفسه. فمثل هذا لا يخدم قضيته، ولا يضيف إلى موقفه إيجابياً. إذ ما هي الحكمة في ذلك؟ هذه السورة ــ لو كانت وحدها دليلاً ــ لكانت كافية لإقناع من يبتغي تبيّن الحقيقة في مسألة التنزيل، بأن محمداً آخر من يخطر له أن يكون مؤلفها بما ينطوي عليه مضمونها، ناهيك عن أن تتأتى له القدرة على صوغها على هذا النحو المدهش. هي إذن كلمات الله وليس غيره. أما الذين قد يصرون على أنه يتلقى هذه النصوص عن غيره من البشر، فلابد أن مخترع النص من هؤلاء كان ينوي الإساءة إلى شخص محمد (عليه السلام ). ولكن محمداً عندئذٍ كان سيواجهه بالرفض. ولن يسمح له قطعاً بتوجيه النقد إليه على هذا النحو أو هو ــ على أحسن الفروض ــ سوف يتجاهله وينصرف عنه.
فإلى أي مدى يمكن أن يذهب الظن بالمستريبين والمتربصين بمحمد ودعوته عند سماعهم هذه الآيات؟ ولكننا إذا عدنا إلى أسباب النزول في كل منها وجدنا محمداً عليه السلام قد تنزه عما قد يذهب إليه هؤلاء من الظنون.
أضف إلى ذلك هذا الاستسلام والتسليم لقضاء الله وقدره الذي يقول: )أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) فيأمره الله بكيفية الرد عليهم بقوله: .. قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (الأحقاف:8)
ويأمره ربه مرة أخرى بأن يقول لهم في الآية التي تليها:
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ.. (الأحقاف:9)
.. وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (الأحقاف:9)
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (الجاثـية:18-19)
كان خليقاً به أن يدعي نجاته من مصير ينتظر الآخرين وأنه مستثنى وسيحظى بمعاملة خاصة..! ولربما يعدهم أيضاً بالنجاة على يديه من قبيل الترغيب. ويذكرنا هذا بمسلك من كانوا يصدرون صكوك الغفران حتى زمن ليس ببعيد. أما أن يقول: (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ) فذلك هو البرهان الدامغ الذي لا دليل فوقه، ولا برهان بعده على أنه ليس صاحب القول، ولا يمكن أن يكونه.
وفي علم الله أن رسوله قد يلمُّ به شيء من الحرج في مواقف معينة وما يتنزل فيها من قرآن، ولكن الله سبحانه ومن أجل أن يعفيه من ذلك الحرج ينزل عليه قوله تعالى:
كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (الأعراف:2)
* * *
وفي صيغ أخف وطأة على نحو ما، في الخطاب الموجه إليه، وليست هي كذلك فيما يتعلق بهم:
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ. أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ. فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ (الزخرف:40-44).
هم سوف يُسألون عن سدورهم في الغي والضلال. وهو سوف يسأل أيضاً عن تبليغ الرسالة.
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (قّ:45)
ينفي الله عنه صفة الجبروت والتحكم.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ. وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (الذاريات:55)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (القلم:48)
وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (القلم:51)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (لأعراف:205)
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (الغاشية:21-22)
لو أردنا المضي قدماً في إيراد الآيات، وتقديم البراهين والبينات، ثم التعقيب عليها بما تقتضيه، لما وسعنا المقام، ولا واتتنا القدرة على استيفاء القول في آيات الله ومعجزاته، كما في أمانة الرسول في نقل الرسالة لسائر البشر.
الدلالات التي يمكن استخلاصها من هذه الآيات جميعاً ــ فضلاً عما تقدم في الفصول السابقة ــ هي أن الرسول (صلعم) كان يتلقى التوجيه عن ربه، يحمله إليه جبريل عليه السلام أولاً بأول، مواكباً الأحداث والأحوال، في كثير من الأحيان. وكان الرسول يتلوها على مسامع القوم كما تنزلت. ثم يدونها كتَّاب الوحي من حوله، لتصبح دستوراً ومنهاجاً في الشريعة والسلوك والحياة، وتتردد على الأسماع، وتدون في الصحائف وتتلى في الصلوات، لتصلنا بعد كل هذا الزمان المنقضي منذ التنزيل، وكأنما نزل بها الوحي الأمين اليوم. نتمثلها، وفي خيالنا تتوالى صور ذلك العصر، ومهبط الوحي، والرسول، ومن حوله الصحابة الأبرار، خاشعين مصدقين مؤمنين، وغير بعيد أعداؤه من يهود(*) وأعراب يتربصون به ومن معه الدوائر، يدققون ويحققون وينقبون، لعلهم يجدون مأخذاً فيما يلقى إليهم من قول.. ولكنهم لا يبوؤن، بعد الجهد، إلا بالخسران المبين.


* * *

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
المأسوف على شبابه ـــ قصة - يوسف جاد الحق د.يوسف جاد الحق الـقصـة القصيرة وق.ق.ج. 1 18 / 12 / 2014 05 : 07 PM
بــرغـــي - قصة - يوسف جاد الحق د.يوسف جاد الحق الـقصـة القصيرة وق.ق.ج. 2 15 / 04 / 2011 33 : 02 PM
أزمنة الغربة ـــ يوسف جاد الحق د.يوسف جاد الحق كلـمــــــــات 2 29 / 08 / 2010 05 : 12 AM
الأصدقاء ـــ قصة: يوسف جاد الحق د.يوسف جاد الحق الـقصـة القصيرة وق.ق.ج. 1 08 / 06 / 2010 48 : 03 AM
الطبيب... والاسكارس ـــ يوسف جاد الحق د.يوسف جاد الحق الـقصـة القصيرة وق.ق.ج. 0 07 / 06 / 2010 48 : 08 PM


الساعة الآن 21 : 12 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
Ads Organizer 3.0.3 by Analytics - Distance Education

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية

خدمة Rss ||  خدمة Rss2 || أرشيف المنتدى "خريطة المنتدى" || خريطة المنتدى للمواضيع || أقسام المنتدى

|