ظهر في حارتنا فجأة. من الصعب تحديد دقيق لوقت ظهوره، جاء امس؟ جاء اول امس؟ تجمعت شهادات مختلفة، بعضها ذهب للاصرار على انه مضى على ظهوره في حارتنا اسبوع بالتمام والكمال، وربطوا بين ظهوره وبين بداية بث التلفزيون لتمثيلية قصة حياة ام كلثوم. آخرون قالوا ان هذه تخيلات، فظهوره محصور بالاربع والعشرين ساعة الاخيرة. فحارتنا صغيرة، وبيوتها قريبة من بعضها البعض، بالابنية وبالعلاقات، وانه لا يجوز ان يكون جميع اهل الحارة قد اغفلوا ظهوره لهذا الوقت الطويل، الذي يكاد يتجاوز الاسبوع بكامله، وهذا التحليل فيه منطق، كما يعتقد اغلبية اهل الحارة .
هذا النقاش اشغلنا ليلة كاملة، وبعدها لم نعد اليه، صار خلفنا، وصارت حقيقة ظهوره هي الاهم. وباتت معرفة تفاصيل عنه في رأس سلم الاولويات.
ظننته كما ظن ذلك اهل الحارة ضيفاً عابراً عند احد الجيران.. وبعد ان طالت ضيافته بدأنا نبادله تحيات اطول، ونحاول في جلساتنا ان نقارن انطباعاتنا ومعلوماتنا عنه، ونستفسر عنه اصحاب الحوانيت في حارتنا، علّهم يوسعون معلوماتنا عنه وعن شؤونه ومن يكون وما علاقته بالمضيفين؟
ايجوز انه ضيف ثقيل الى هذا الحد؟ او يكون احد ابناء حارتنا الذين غادروا قبل سنين؟! كبار السن من اهل حارتنا لم يتذكروا وجود شبيه له او ما يمت اليه بصلة، سلسلوا المرحومين والمسافرين للخارج والمنتقلين لاحياء اخرى، واستصعبوا الوصول الى من يشبهه شكلاً وجيلاً. حتى ام ابراهيم، ذاكرة الحارة وسجل ايامها ومولدة نصف اناثها وذكورها، اعلنت بعجز وأسى خلو سجلها من كل ما يمكن ان يربط الضيف الجديد بحارتنا.
وربما هو ليس مجرد ضيف!! يبدو انه ساكن جديد عند جيران مختلفين بعض الشيء عنا، يحافظون على مسافة من كل اهل الحارة، رغم بشاشة وجوههم وحسن سيرتهم.الله يخلق الناس مختلفين مثل اصابع اليد ولا اعتراض على امره.هذا اكيد ..!
وبدأ تتحاك الخطط لكشف ماخفي من امر الضيف/الساكن على غفلة من أهل الحارة، غير ان ما صعبوعقد الخطط، كون الجيران "انعزاليين" حسب تعبير بقال الحارة وقارئ الصحف الوحيد فيها، والذي يتحف جلساتنا بتعابيره الغريبة والمسلية التي يحفظها عن الصحف، ويدبهاب مناسبة وغير مناسبة، ولولا وجود اولئك الجيران لما فهم اهل الحارة المعنى الدقيق لكلمة "انعزاليين" البعض توجسوا أن يكون استعمال هذا التعبير يوازي الكفر،فاستغفروا ربهم وطلبوا رحمته.
اما الصعوبة الثانية في كشف المعلومات الموثوقة فكون هؤلاء الجيران بحركة دائمة. الزوج يعود مرة في الاسبوع. وبالكاد تراه ابراج المراقبة، رغم ان كل التحركات ترصد وتبلغ لمجالس السهرة بتفصيلاتها الدقيقة، وحتى نلتزم الدقة، هناك اضافات لا بد منها لجعل السهرات "رومانتيكية" كما يقول البقال..وقد فهم اهل الحارة ان "الرومانتيكية" هي المبالغة.. غير ان البقال عجز عن اعطاء التفسير الواضح، فطلبوا اليه حفظ سخافات الصحف في تجاويف دماغه.. والصعوبة الاخرى ان الزوجة تعمل بالتعليم وتتعلم مساء وهي دائمة الانشغال او "تعمل حالها مشغولة"كما تقول ام ابراهيم.
وهي لذلك تعتذر عن الاشتراك بقعدات القهوة وفتح البخت ومعرفة المخفي، الذي لا يخفى على ام رياض، وام رياض طعنت في السن وبدأت تخربط بيناسماء احفادها، ويقال ايضاً بين اسماء ابنائها، لكن المستقبل لا يخفى عنها وتوردهكما في نشرات الاخبار، مفصلاً ومطولاً، ومليئاً بالتعليقات والتحليلات والتوقعات،والامكانيات المطروحة، وهي تؤمن ان الانسان ليس مسيراً تماماً لكنه ليس مخيراً بشكلمطلق، وانه يقدر في حالات ما، ان يتوكل على عقله ويغير بعض الامور، لكنه لن يغيرالمصائر. والحاجة ام سليمان وافقت ام رياض بالكامل لكنها لا تدري اين سمعت هذاالقول "اعقل وتوكل" فهي متأكدة انه مكتوب في الكتب.
وما يميز ام رياض كفتاحة بختهو نصائحها التي لا بد منها لمواجهة كل طارئ تكتشفه داخل فنجان القهوة. وكثيراً ماانقذت (برؤيتها الثاقبة للطالع المثبت في فنجان القهوة) ابناء الحي من غدر عزرائيل او من مصائب اقل قسوة، وهذا مؤكد على ذمة نساء الحارة مجتمعات ومنفردات، ويقلن انام رياض كانت تنذر صاحبة البخت بما هو معلوم وواضح في قعر الفنجان او على حوافه،وكيفية الاستعداد الكامل للطارئ القادم، واحياناً تعطي اشارات لا بد من تذكرها والانتباه لها، وانه لا بد من الاستعانة عندها بالحاجة ام سليمان لتبخير المنزل وتلاوة الايات الكريمة ورش الملح خارج البيت، اذ يقال ان الارواح الشريرة لا تحب طعم الملح وترتعب من تلاوة القرآن ، ومن ثم , اذا كان الطارىء مرضا , يجب الانتقال للطبيب، ليواصل ما بدأته الحاجة من علاج وطرد للارواح الشريرة، مما يمهد الطريق للعلاج.
توصلت النساء الى ضرورة اخذ اسرارهم من صغارهم اي من اولاد الانعزاليين الذين يشاركون اولاد الحارة بعض العابهم قبل استدعائهم بلهجة آمرة للعودة الى البيت. لكن الاولاد مقلون بالكلام، نسخة من اهلهم. حثت النساء اولادهن على استقاء المعلومات عن الضيف الغريب من ابناء الانعزاليين.. غير ان الاولاد لا يقلقهم مايقلق ذويهم وينسون ما اوكلوا من مهام حينما تسخن اللعبة.
اشتدت الحيرة بالحارة،وحتى لا نغفل امر ما يجري لا بد من ان نسجل ان محاولات بعض النسوة لاستدراج اولادالعائلة الانعزالية في الحديث لم توفق، وفشلت فشلاً ذريعاً، وكاد يصل حد الفضيحة،اذا انتبهت الام ومنعت اولادها من النزول للعب.
اتهم الرجال نساءهم بأنهن قليلاتخبرة في مجال التحري والتحقيق. بل واحتد احد الرجال واتهمهن بأنهن قليلات عقل. وذكررجل آخر آية قرآنية كما قال، تؤكد صحة قلة عقل النساء. احدى الزوجات تحدت زوجهاغاضبة ان يجلس حضرته ويجري التحريات وعمليات الرصد وجمع المعلومات بدلاً منهن،بدلاً من التلفظ بالتهم الجائرة والاهانات. صاح رجلها بغضب، ان الجواسيس كانوادائماً من الرجال، وتحدى ان تذكر امراة اسم جاسوسة؟! ودعم كلامه باسماء معروفة، مثلرأفت الهجان، الذي شاهدوا حلقات المسلسل عنه في الصيف الماضي، واضاف اخر حتى جواسيساعدائنا كانوا من الرجال. هل سمعتم باسم ايلي كوهين وما فعله بالسوريين؟! وقال آخر،انه حتى في امريكا، ام المساواة، الجواسيس من الرجال، فهذا بولارد.. يتجسسلاسرائيل، وصاح شاب متحمس انه حتى الجاسوس جيمس بوند كان رجلاً وان النساء كنلمتعته فقط. فنزل الصمت على رؤوس الرجال، فهم لم يسمعوا بهذا الجاسوس، ولا يريدونان يظهروا جهلهم امام نسائهم، ثم ان قصة تمتعه بالنساء كانت ثقيلة وغير لائقة لتقالفي محضر مشترك بين رجال ونساء الحارة. وكان افضل لو تركها لجلسة رجالية.. وهنا نطقشيخ الحارة حكمه غير القابل للرفض وهو ان الرجال كانوا دائماً قوامينعلى النساءديناً وشرعاً وعقلاً.
انسحبت بعض النساء باستنكار، ولأول مرة يحدث انقسام واضحرغم الصمت الذي تواصل بسبب حذر النساء من تأزيم زائد للموقف. ومع ذلك بقي المخفييستفز اهل الحارة ويثير حيرتهم.
كان الضيف/الساكن الجديد يخرج باكراً كل صباح،مهندماً على آخر طراز، يفوح منه عطر ذكي، مما دفع الرجال للاقتراب منه ومبادلتهابتسامات واسعة وتحيات صباحية عطرة، متنشقين رائحة عطره الذكي، وقد اثار نوع العطروثمنه خيال الحارة، خاصة الرجال. واضاف حججاً جديدة لضرورة الكشف عن المخفي. البعضقال انه عطر مستورد من مصانع البغاء في الغرب، التي تصنع هذه العطور لجعل المرأةطوع بنان الرجال. آخروا استخفوا بهذا التحليل، وقالوا ان صناعة العطور اليوم حدودهاالسماء، وانه من الخطأ مقارنتها بالكولونيا الرخيصة والمغشوشة التي تباع ببقالةالحارة. وان العطور اليوم اثمانها تشابه اثمان الذهب، هذه المسألة استصعب الرجالاستيعابها. اما النساء فتحسرن، مما أثار حفيظة وخوف بعض الرجال، فقطعوا حديثالعطور، وقالوا انه من الواضح ان الضيف/الساكن مليونير من اياهم وبالطبع لم يكن منالصعب الطعن بهذه النظرية، لعدم امتلاك الضيف/ الساكن سيارة فاخرة، فهو يستعمل نمرة 44 وهي اشارة للحذاء. وكان الضيف يعود اخر النهار مهندماً معطراً كما لو انه محفوظفي براد. وثار تساؤل جديد، كيف يطيق الضيف ربطة العنق والجاكيت في هذا الحر؟ واضيفهذا السؤال الى لائحة المخفيات التي لا بد من توضيحها وتفسيرها.
المسألة التي تستحق وقفة خاصة ان الراصدات من النساء، اكتشفن ان الضيف ظهر حتى هذا الوقت ب (7)بدلات مختلفة الالوان والتفصيل و ب (12) قميصاً بالوان مختلفة. واختلفوا علىعددربطات العنق، بسبب صعوبة التمييز بين الوانها من نقاط المراقبة والرصد، فمنهن منتصر انها (8) ربطات عنق حتى اليوم، ومنهن من تصر على (12) ربطة عنق تماماً بعددالقمصان. لكنهن اتفقن ان يبقين هذه المعلومات طي الكتمان عن مجلس الرجال، نكاية بهممن الاهانة الجماعية التي طالتهن، غير ان "سمر" ضعيفة النفس، التي تشترى وتباعبابتسامة من زوجها، اعترفت في لحظة ضعف بهذه المعلومات السرية. وكاد اعترافها يحدثطوشات بيتية بين الازواج وزوجاتهم، بسبب شعور المهانة وفقدان الهيبة، واستهتارالنساء الظاهر بمركز الرجال، باخفاء اسرار يجب الا تخفى، حتى لا يحدث ما لا تحمدعقباه، ويتدهور امن الحارة واستقرارها، وما ينقص رجال حارتنا في هذا الزمن الرديءان يتعطلوا عن اعمالهم للقيام بمهمات الاستطلاع والرقابة؟! حقاً النساء قليلات عقل،بل و"قليلات دين ايضاً" كما قال شيخ الحارة واضاف: "ان كيدهن لعظيم" اما المسألةالتي استصعب رجال حارتنا هضمها، فهي كيف يعرف زوج سمر، الحديث العهد بالزواجوالمسؤولية، هذه الاسرار وهم ذوو النفوذ والسطوة تخفى عنهم؟
وجهن النساء اللوم لسمر التي فضحتهن، وتقرر فرض مقاطعة نسائية كاملة عليها عقاباً لها للخروج عن كلمةالنساء وفضح اسرارهن. غير ان زوج سمر لم يهزه الامر. طمأن سمر بأن هذه المقاطعة لاتختلف عن المقاطعة العربية لاسرائيل، سرعان ما تصبح فتحاتها اكبر من فتحة طبقةالاوزون. قد يعالجون فتحة الاوزون، مهما طال الزمن، اما اوزون المقاطعة العربيةفيتسع باستمرار، ونفس الحالة مع نساء الحارة.. وقال لها: ابدئي بجارتنا الحجة امسليمان فهي المفتاح. تحملي كشرتها وادعيها لتبخر البيت، فهي تعشق هذه المهمة وتكرسلها كل وقتها وتفكيرها واحلامها.
قالت له سمر انها لا تؤمن بهذه الخرافات والتقاليع. طمأنها بأنه لا يختلف عنها، ويعتبرها تمثيليات مسلية، لكننا ابناء حارةيسري علينا ما يسري على الجميع ونقبل ما يقبلون، هكذا السياسة يا سمرة. وبهذا الشرحالوافي والواضح تعلمت سمر اول دروس السياسة، وبناء عليه كشفت لزوجها معلومة جديدة بأن الراصدات سجلن حتى اليوم، استعمال الضيف لـ (3) ازواج من الاحذية المختلفة،فطالتها قبلة من رجلها، وهكذا كان.
مع صباح اليوم التالي، رصدت سمر خروج امسليمان لبلكون بيتها، مقابل بلكونها بالضبط، فسارعت سمر تلقي على جارتها تحيةالصباح بصوت قصدت ان تسمعه عاشر جارة.. اجابت الحجة ببرود وبعدم رغبة ظاهرة فيتبادل ما هو اكثر من التحية. غير ان سمر عاجلتها بطلب تبخير البيت، خوفاً من ارواحشريرة تكون وراء فلتان لسانها وتخريب سر نساء الحارة. وقالت انها كئيبة وتشعر بتوعكوانها لولا ذلك لما فتحت فمها, اذ ان زوجها رأى حالتها واصر ان يعرف ما تعانيهويبدو انها كشفت السر وهي غائبة عن الوعي.
توردت خدود الحجة وفتحت عينيها بيقظة،وانهالت تخاطب سمر بيا حبيبتي ويا روحي ويا ضو عيني، ويا فلذة كبدي، والعوذ باللهمن الشيطان الرجيم ومن العفاريت والجن، وتمتمت بايات مقطعة، وصلت كلمات متناثرةمنها لا يربطها رابط بمعنى واضح، وقالت بصوت مرتفع لتسمعها الجارات: "انا في الطريقاليك يا سمر يا روح امك.. لن ابقي لهم اثراً باذنه تعالى".
وهكذا انتقلت المعلومة من بيت الى بيت، باسلوب يضاهي بسرعته وانتشاره افضل محطات التلفزة، مثلتلك التي نقلت لصالوناتهم حرب العراق المسماة "الجزيرة" وحتى افضل من سرعة انتقالالاخبار المفبركة لدار الاذاعة الاسرائيلية.
دب النشاط في الحارة، وتجمعتالجارات داخل وخارج بيت سمر لحضور طرد الارواح الشريرة من بيتها.
قامت الحاجة بجهد واضح، وبذلت ما في وسعها من قدرة صبر وقوة ايمان، حتى ظهرت شرايين عنقهاوأجهدها التعب والعرق، وما ان اتمت مهمتها، حتى تساقطت متهالكة على الكنبة، فسارعتاليها سمر بكوب ماء بارد.
اما المفاجأة الكبيرة التي لم يتوقعها احد فهي انالراصدات في الصباح التالي ابلغن المتجمعات في بيت سمر ان الضيف لم يظهر هذاالصباح، فأصابهن الخبر بالذهول والحيرة ومضت عدة ايام وصار عدم ظهور الضيف مرة اخرىحقيقة متجلية.
وتعطلت او كادت مشاريع الرقابة وتوقفت النقاشات واختلافات الرأيوبدأ الملل يتسرب للبيوت، فتطفأ الاضواء في ساعات مبكرة ويلهو كل رجل بما كتبله.
وفي صباح احد الايام وحتى قبل ذهاب الرجال الى اعمالهم، طرقت ام سليمان باببيت سمرة بقوة، صارخة بفرح شديد انها تعرف الان حقيقة الضيف المزعوم، فهو ظهورللشيطان بصورة بشرية بهية، اختفى حينما نجحت ام سليمان باخراج روحه النجسة من بيتسمر وانقذت الحارة من احابيله، فالحمد لله!!
نبيل عودة – قاص ، روائي ، ناقد واعلامي فلسطيني – الناصرة nabiloudeh@gmail.com
[/align]
إلى الأستاذ المحترم نبيل عودة:
أذا كان الضيف الغريب قد دخل الحارة، فأنت وجه عزيز علينا تدخل المنتدى. تعجز الكلمات أن تصف قدرتك المبدعة على جعل قارئك ينغمس في طيات الأسطر باحثا عن لذته، شغبه، ذاته...
تقبل مروري
توفيق البيض.