القسم الثالث من رواية :
حازم يعود هذا المساء
نبيل عودة
لم يعرف حازم مدى استعداد امينة لملاقاته ، وان كان هذا اللقاء بعد هذه السنين الطويلة، سيحمل لها السعادة ام الحزن . كان يطمئن نفسه بان السعادة والحزن هما وجهان لعملة واحدة ، لا يكتمل الفرح الا باندماجهما ، ولا يكتمل الانسان الا بالفريقين ، فتطمئن روحه ويقول لنفسه : " كيف سالقاها ؟ ماذا تغير بها ؟! هل ترك عليها الزمن الرديء أثره ؟ هل يخذلني الزمن بعد هذا الصبر الطويل ؟"
انه مكلوم وخائف وحزين وحائر .. ولكنه مندفع كالعاصفة بقرار لا تردد بعده . يمني النفس بانشراح بعد ضيق ، ولقاء بعد فراق ، وعناق بعد سعي . يتمنى ان يرى شعرها مرسلا على ظهرها كشلال ينهمر من عل. يتمنى ان يرى بشرتها السمراء النقية ... ولكن لا بحر هنا ليلوح بشرتها ببريق نحاسي . يتمنى ان يرى وجهها بطيبته ورونقه وجاذبيته . هل تكون السنون قد ابتزت شيئا من جاذبيتها واكتمالها ؟ كم يشتاق لعينيها بلمعتهما ويقظتهما. وكان يقول :
- صرت استنشق الشوق من قربي لبيت أمينة .. ومع ذلك بقيت أتأرجح بين الحزن والفرح .. بين الأمل والكآبة . بدأت أشعر بالتوتر من اقتراب اللحظة ، التي صار الحلم فيها قريب اللواقع ، واللقاء حقيقة قريبة التجسد .
سألت البقال،.. عن بيت والد امينة مضيفا تعريف التركي لوالدها .. ويبدو ان صفة التركي هي التي اوضحت له مرادي .. فشرح لي كيفية الوصول للبيت ، متفاجئا اني بمثل هذا القرب الى بيتها. ..
ها أنا ظمآن وواصل النبع برمقه الاخير . هكذا كانت حالتي . ووجدت نفسي اخاطب أمينة .. أهمس باذنها :" نلتقي كي لا نفترق" . هتفت باسمها بيني وبين نفسي .. ربما يكون الحراللاهب من قربي لها أثر على تمالكي لنفسي ؟ ربما يكون لهيب الذكريات يعيدني شابا يافعا اعانقها بين الامواج ؟ مرة أخرى يعتريني التردد من الاقدام . قلت لنفسي : "تجلد .. رغبتك لم تعد ملكك.. انتظرتك بأمانة فكيف تهرب منها بعد ان صرت قاب قوسين أو أدنى من لقائها ؟ .
كان توجسي من شيء غير مدرك يشتد .. ولكن عاطفتي بدأت تدفعني نحو التئام الجمع واكتمال الوصل . وكنت أهتف بيني وبين نفسي مع كل خطوة :"انا احبك يا أمينة !!" أنشري فرحك كما تشائين .. عريسك قادم بعد ان أعياه وأعياك الضياع .. لن تقوى علينا عواصف التشريد .. سنلتقي يا أمينة .. عبرنا طرقا وعرة ..خضنا مسالك رهيبة .. ما عبر علينا لن ننساه .. سنورثه لابنائنا مع مزيد من الحب والامل بدنيا افضل وحياة اكمل خالية من البغضاء والكراهية .
لأول مرة لا أرى قيمة لوجودي دون وصالها .. عفت الصبر والانتظار والاحلام . الوصال هو جذر الحياة الذي لا ينضب . ألم يكن أفضل لو بعثت خبرا انبئها بقدومي حتى لا افاجئها بوضع غيرمتوقع ؟! وبنفس الوقت كنت اقول : " سبق السيف العذل .. انا لا آتي لأفحصها ، لأتعرف عليها ، انما لاجدد ما انقطع .. وأطلق الآمال من قيودها ، والرغبات من سجنها " .
وها انا اقف أخيرا امام بوابة بيتهم .. لا تزال تتبادلني الاحاسيس بين الخشية على الاقدام والاندفاع . هذه النقائض مرهقة . أكرهها .. أرى البعد والجفاء ..ولوهلة اخرى أرى انفجار الحزن وزغردة السعادة وانطلاق العصافير من اقفاصها.. أرى الوجد والوئام ، وكأن الزمن لم يفصل بيننا شبابا ويجمعنا على أبواب الكهولة .
كيف اطرق الباب؟ اي اعصاب احتاجها عندما تفتحه لي أمينة ؟ شعوري يوحي لي ان أمينة هي التي ستفتح الباب ؟ آه ما اثقل يدي . كانه الاخدرار يسري في أطراف يدي .أشد قبضتي بقوة. أتنفس بعمق مالئا رئتي بالكثير من الأوكسجين . بعد لحظات تلتقي عيناي بعينيها .. تتناجى بعد سنوات الانقطاع .. تلتقي انفاسنا الراعشة.. تتشابك امانينا.. ينتهي دور الكلام ويسود التفاهم والتناغم بدون لغة .. التقاء نظراتنا يغنينا عن الكلام .
وتقترب لحظة المفاجأة التي لا تخطر على بال . أردت أن أصرخ باعلى صوتي مناديا : " أمينة !!" .. ها انا وصلت بعد سفر. انتصرت على الفراق والزمن . كنت غريبا في بلدي ضائعا في وطني . الان بدأت اجد نفسي !! صار لي وطن بك يا أمينة .. عدت بعد تيه .. أرفض الهزيمة .. اريد الحياة .. اريد ان استعيد الماضي معك . ان اجدد ما انقطع . ان أعود الى يافا شابا عاشقا يختبئ مع حبيبته وراء تلة رملية .يقبل أحلى شفتين . طعمتهما لم تفارق شفتي رغم الزمن . أقبل الشوارع التي عشقتها ..وألتقي بالناس . أتنشق رائحة السمك المقلي في باحة الدار . أرى وجه امي .. وجه ابي .. وجهك الناضر مثل زهرة القرنفل .. الامس يدك خفية من أمك .. آه ما احلى الذكريات . آه كم هي مؤلمة..
قرعت الباب بقوة وتصميم . ربما للتخلص من ارتباكي وترددي..ومن ضغط الذكريات التي تأخذني بعيدا تحت جناحيها . كنت انا ولست انا . لم اكن مدركا لمشاعري .. بل سابحا لا أحس بالأرض تحت قدمي . مرتجفا . رأسي محلق في الفضاء وقدماي غارقتان في البحر . تتكاثر الأحداث في راسي وتختلط .. ويمتليء ذهني بالصور والتخيلات . تتراكم أمنياتي . أحن الى بيتي القديم . أحن الى حارتنا . أحن الى ملعب طفولتي وصباي .. حنين فجائي يكاد يسحب الدمع من عيني سحبا .أحن لزمن الصبابة والعشق الأول والأخير . أحن للبحر والشمس والبشرة النحاسية اللامعة. أحن للشعر الأسود الطويل المتحرر للريح .. أعرف الملامح ولم انس تفاصيل الوجه . استجمع كافة قواي لانطلاقة عظيمة .. فأطرق الباب بقوة مرة وراء أخرى .. اه يا منية القلب ويا مهجة الروح .. وقفت ودققت طويلا .. شعرت بالضيق والارهاق الفجائي ..
أين أنت يا أمينة؟!
ادق ولا من مجيب .
اه على لحظة خلو وتوحد التقط فيها انفاسي وأحوي مشاعري . دققت ودققت ووقعت في حيرة . بدأت ناري تخبو وأعصابي تنتقل للقلق والتوتر . عدت أشعر برأسي بين كتفي ثقيلا متفجرا بالألم . التقط انفاسي بصعوبة، وشعور أليم في صدري يعذبني . أمسكتني الحيرة والتوجس .. كان قلبي يتشقق.. دققت دققت دققت وكتمت تهيجي . تلفت حولي فلمحت احدى الجارات . استنجدت بها محاولا ان ابدو طبيعيا :
- من فضلك .. عن اذنك.. هنا بيت التركي ؟ والد امينة ؟ اجل ؟ شكرا.. وأين هم ؟ لم لااحد بالبيت ؟
تنظر الي الجارة بتوجس . ربما يبدو القلق والانهزام في وجهي .
- من حضرتك ؟!
ماذا اقول لها ؟! كيف اعرف على نفسي ؟ اي كلمات استعمل ؟!
- انا قريبها.. كنا جيران في يافا من زمان .. انقطعنا عن بعض .. فرقت بيننا الطرق .. لم نعرف عنهم شيئا الا منذ ايام .. جئت للاطمئنان عليهم ومعرفة اخبارهم .
سكتت الجارة . بلعت ريقها. ارتبكت . لم تتوقع هذا الزائر الغريب . قالت بدماثة وهي تخفي ارتباكها لأمر لا افهمه :
- تفضل عندنا ... تفضل ارتاح.. ربما يأتي والدها بعد ساعة .. لا ادري تماما متى يعود.. على كل حال تفضل حتى يحضر .
- أمينة ابنته..أين أمينة ؟! أليست أمينة ابنته ؟
سألت بلا ترو فاضحا كما يبدو ما بنفسي .
- أمينة ؟!
أجابت الجارة بحيرة وتردد. وجهها يعبر عن الحزن والارتباك. هل أخطأت بالمنزل ؟ صمتت .. فحثثتها .. بعد تردد اجابت :
- مسكينة .. لا اعرف كيف اقوللك ذلك .. حرقت نفسها من الهم .
- حرقت نفسها ؟!
كدت اصرخ مصعوقا مذهولا ولكني لم أجد صوتي . انحبس الكلام من الذهول والصدمة . فاردفت بسرعة :
- انها بخير .. أمينة بخير .. ستعيش .. أنقذت والحمدلله .. يقول والدها انها ستكون بخير !!
غرقت بالعرق البارد من راسي حتى قدمي. فقدت توازني . ولم أعد أشعر بالارض تحت قدمي . كنت مذهولا مصعوقا افهم بصعوبة ما يدور حولي. انهرت بلا شعور جالسا على عتبة الباب واضعا رأسي بين يدي .. مانعا دموعي من الانهمار . وصوت الجارة يكرر دعوته للدخول والانتظار في بيتها .. آه لو تعلم ما بنفسي .. آه لو تعلم ما يربطني بأمينة .. لم أشعر بمثل هذا الضياع منذ تشردت عن مدينتي .. منذ انقطعت عن بحري .. منذ فرقت بيننا المأساة ..
ما تشتهيه النفس يتبدد وما يتمناه الفؤاد يتلاشى . اه ما اشد وقعتي ويأسي. تمنيت ان أصرخ صراخا طويلا متواصلا. ان اؤذي نفسي لأشعر بالألم . أن أبكي بحرقة وبلا حياء . أن أرى أمينة لأضمها لصدري طالبا صفحها. أنا أحبك يا أمينة . الآن أنا أحبك أكثر . مهما تكونين أحبك . أنا مسؤول عما يحدث لك . أنا السبب وأنا المسبب. لو اني ابكرت في القدوم لأنقذتك . سنوات وأنا أتردد .. هذا زمن رديء ووعرالمسالك . أين أذهب بهمي وصدمتي ؟!
أحضرت لي الجارة كأس ماء متفاجئة من منظري.شكرتها وقلت لها أن تسلم على والد أمينة وتخبره ان الذي حضر هو فلان ، وذكرت اسم جار لنا ولهم من يافا قبل النكبة . ولملمت نفسي وألمي وهمومي وقفلت راجعا للناصرة ،هاربا ولست بالهارب ، حاضرا ولست بالحاضر ، يائسا من عالمي ودنياي ، فاقدا رغبتي بالحياة ، فعزلت نفسي لأيام صائما عن الطعام ، منقطعا عن الناس ، حتى تراءت لي أمينة في احدى الليالي باكية من وحدتها ، فبكيت بكاء مرا.. وعندما استعدت بعض توازني ، وصحوت من صدمتي .. نظرت لوجهي بالمرآة .. فهالني ما ارى . استحممت . حلقت ذقني . أكلت قليلا من الطعام ، وقلت كأني أخبرها :
- لن أتخلى عنك يا أمينة !!
فيما بعد لمت نفسي لاني هربت من مواجهتها. من مد يد الحب والعطف لها في لحظات محنتها ، لحظات هي أحوج ما تكون بها الى قلب محب ، وعاطفة تحضنها . ربما خفت ان يفهم موقفي كنوع من الشفقة ، او ربما رفضت ان أرى جسمها مشوها . اريد ان احافظ علىصورتها كما هي ؟ احبها احبها كاملة. احبها مشوهة.احب أمينة كما تكون . لماذا ضعفتأمام مأساتها ؟ لماذا عجزت عن مواجهتها في عاهتها ؟ انها عاهتي وليست عاهتها .. هل استطيع التفكير بغيرها من النساء ؟
كنا قد وصلنا مدخل الناصرة الشمالي حين وصل بروايته الى هذا المقطع. فصمت متداخلا بنفسه متقوقعا بافكاره، لا أكاد اسمع صوت تنفسه.. أشعر بوجوده قربي من دخان سيجارته. فآثرت الصمت خوفا من تعكير صفو تأملاته،او بكائه الصامت . ولم أجد ما يحسن قوله ويطيب ذكره في مثل هذه الحالة .. فتألمت لنصيبه العاثر شاعرا بما يعذبه ويكويه بنار الهجر .. ناقما على واقعنا اللعين ..متمنيا لو أستطيع اسداء المعونة لصاحبي وهو في محنته المستمرة ، وسفرته غيرالمنتهية في الشتات النفسي بعد شتات الوطن .الآن يبدو لي مستسلما لقدره.. لا يحيا حياته بمفهوم الحياة الواسع ، انما ينتظر انقضاء ما تبقى من عمر شقي، مغرقا المه وثورة نفسه بكؤوس الخمرة !! ولكن ما آلمني ان حازما لم ينس حبه أبدا ، وظل مخلصا للتي أحبها !!
******
صب لي كاسا أخرى رافضا اصراري على الاكتفاء بما شربت .
قلت :
- لا افهم كيف صارت أمينة زوجتك ؟!
ضحك بلا صوت ، وبوجهه الذي لا يعكس ما يعتمل بنفسه ، وقال مؤكدا :
- دائما كانت زوجتي !!
تذكرت حكايته القديمة لي يوم ذكر انها لا تفارق احلامه ، وانه يعيش معها باحلامه كرجل وامرأة متزوجين . قلت لنفسي : " لعل ما يعتريني هو حلم مشترك لي وله ؟ أيجوز هذا في الواقع ؟" .
أردت أن أبين له خطأه . ولكني توجست أن أكون مخطئا فعلا .. غير أن ثقتي بنفسي أكيدة . فهو لم يتزوج أمينة.. فمن أين اصراره انها كانت زوجته دائما ؟!الا اذا كان يقصد احلامه ؟!
بحثت عن موضوع لأخرج من صمتي واخرجه من صمته ,سالته :
- هل التقيت بأحد الأصحاب غيري ؟
- انت اولهم .
لا حرارة ولامميزات خاصة في نبرته .
- هل ابلغهم بعودتك ؟
- بالطبع .
- تود ان نلتقي في مكان ما ؟
- كما تشاؤون .
اقلقتني للغاية اجوبته المقتضبة كأنه يتكلم دون ان يعي ما يقول ، وبدأت أشعر اني أفشل في اخراجه من صمته وبرودة عواطفه .
- هل نلتقي هذا المساء ؟!
نظر الي ولم يجب .. وسرح بافكاره ، ولكن لا يبدو انه يفكر .. مجرد صامت .. ربما لا يتنفس ؟!
*********
بعد سنين طويلة من معرفتي وصحبتي لحازم وقع من نصيبي ان اتعرف على فتاة من الرملة واتزوجها . كانت قصة حازم وأمينة قد صارت في عهدة التاريخ القديم . لا أذكر ان حازم عاد اليها مرة اخرى . وقد تجاهلت أنا موضوعها حتى لا اسبب له الما وحزنا ولوعة يحبسها في نفسه ، ودموع يزجرها أمامنا بمرح ظاهر .. لكنه لم يعد يخدعني بحقيقة مشاعره التي يخفيها عني وعن أصحابنا . كثيرا ما اردت ان أحثه لزيارة أمينة وتجديد الروابط معها . رغم ما حصل لها كنت مقتنعا من استحالة دفعه للتفكير بالزواج من فتاة غيرها .
وكثيرا ما سألت نفسي : " لماذا لا يعود اليها وهي في محنتها ؟ هو ايضا في محنة .. هي حرقت جسمها وهو يحرق جوفه ...يحرق ايامه ، ويحرق أحلامه .
كنت مقتنعا ومتحمسا لكي يعود اليها لياخذ بيدها وتأخذ بيده . ليخرجها وتخرجه من ضياعهما ومحنتهما . فقط أمينة قادرة أن تخرجه من ألمه وكآبته.. تستأنس به ويستأنس بها .. الم يصارحني انه يحبها كما هي ويصر على العودة اليها ؟ لماذا لم يعد ؟ لماذا يقرر ويتردد ؟ لماذا يستسلم للحزن والذكريات ؟
احترت بين ان اقدم او أتمهل .. ربما هناك شيء ما لم يحدثني به ؟ سرا يحفظه لنفسه ؟ وآثرت ان لا أتطفل عليه حتى لا يسيء فهمي منتظرا لحظة مناسبة .
أصبحت الرملة محورا اخر من محاور حياتي .. كثر ترددي على هذه المدينة التي حررت من ابنائها الطيبين، فصارت نموذجا للعاصفة التي اقتلعت شعبنا من جذوره ، وحولته من صاحب البيت الى فاقده . كنت أتذكر وصف حازم للشوارع التي يسكنها العرب والمسماة ب : " الجيتو العربي" . لم أجد بعد سنوات من حكاية حازم شيئا قد تغير ..ربما ساءت الأبنية أكثر .. كانت الشوارع الترابية مميزا " للجيتو " ، كأنه معسكر لاجئين ،بينما الأحياء اليهودية التي بنيت على البيارات العربية المقتلعة ، منظمة بأبنيتها وشوارعهاالحديثة وخدماتها وحدائقها وملاعب الاولاد والمدارس والعيادات الطبية والنوادي . كنت كلما دخلت " الجيتو " تذكرت حازم وحاولت تصور صدمته .. وكلما تذكرتحازم تقفز الى ذهني صور من " الجيتو " بشوارعه الترابية وابنيته المهملة والاوساخالمتعالية على جانبي الطرق وبين البيوت.. والأطفال يلعبون بوسط اكوام من الأوساخ ..وانتشارالجراذين الضخمة التي تقاسم السكان العرب أحيائهم .
في احدى الأمسيات ،وانا في بيت والدي زوجتي في الرملة ، قفزت حكاية التركي وابنته أمينة براسي . تعجبتكيف لم أسأل عن أمينة ووالدها منذ خطبت . ربما لم آخذ حكاية حازم بجدية . ربما اعتقدت انه يبالغ في وصف علاقته بأمينة ليغطي على نقص ما عنده ؟! وفي الحقيقة كنت قد قررت تجاهل موضوع أمينة ووالدها. قلت ما دخلي في قضايا الناس الشخصية ؟ اذا كان حازم يريدها ..فهو ليس صغيرا .. يستطيع ان يصل اليها .. او يطلب المساعدة .. ولن أرده خائبا ..
ولكن حازم صديقي .. ودوافع ملعونة تصر على ابقاء الموضوع حيا في ذهني .. وتفقدني هدوء نفسي . حاولت التناسي فتوهجت حكاية حازم وأمينة في فكري .عبثا أحاول تناسي الموضوع . لكنه كان يحتل علي كل مسارب تفكيري . قلت لنفسي مهوناالامر : " لعلها الطبيعة الحشرية للكاتب .. لا يستطيع ان يبقي حكاية بلا اكتمالوخبرا بلا تفصيل ورؤية بلا تأويل " .
ايقنت ان أوان معرفتي للجانب الاخر قد حان، فخضعت بلا مواربة لميول نفسي واستسلمت لطبيعتي الحشرية .
سالت والدي زوجتي ان كانا يعرفان تركيا يافوي الاصل ابنته اسمها أمينة أحرقت نفسها منذ سنوات .
- بالطبع نعرفها .. من اين تعرفها ؟!
- لا اعرفها.. اعرف حكايتها ؟!
- حكايتها؟!
وشرحت الحكاية باختصار شديد .
- فتاة ممتازة .. نشيطة.. تشتغل بالخياطة وتعيل والدها .. خرفان وهابط .
- وهي ؟!
- مالها ؟!
- حرقت نفسها كما سمعت؟!
- شيء بسيط .. انقذوها وربك ستر . كانوا جيراننا " بالجيتو " . ماتت امها واراد والدها ان يزوجها بالقوة فصبت زجاجة كاز على نفسها واشعلت النار .. انتبهت الجارة ففزعت الشباب بلحظات ..وأطفأوا النار .. احترق شعرها ولكنه نما جميلا كما كان .. اعتقد ان رقبتها تاثرت اكثر شيء .. لذا ترتدي دائما قبة عالية .. على حدعلمي انها سليمة تماما .
- هل تتزوج صاحبي اذا عاد لها ؟!
- والله العلم عندالله وعندها .. ولكنها ترفض الزواج كما شاع عنها في الجيتو ..
ودبت الحماسة في نفسي . وقررت ان أقوم بدور الخاطبة ..عل الوصال يكتمل بين محبين بعثرتهما النكبة .لعلي بذلك اداوي جرحا من الجروح .اذا تحقق الأمر على يدي اكون بذلك قد اجزيت خيراعلى صعيدين .. احقق لصاحبي امنياته .. واحقق لنفسي ما لا تستطع التخلي عنه من اكتمال للاحداث وتبيان النهايات .
وفردت شباكي !!
**********
اخذت رشفة كبيرة من كاسي. سألته متأملا ان استطيع اخيرا اخراجه من جموده اللابشري :
- هل تذكر زيارتنا للرملة ؟!
لمعت عيناه وبرقتا وكانه يعود من اعماق الزمن .أأكون قد نجحت أخيرا في لفت اهتمامه ؟
وهل ينسى ذلك اليوم ؟ بصحتك ...-
- تلك اللحظات ولت !
- أمر مؤسف .
- هل تتذكر التفاصيل ؟!
- تحقق كل شيء متأخرا
- على حد يقيني لم يتحقق شيء .
ضحك بنشوة ، ودعاني للشرب . كان يشرب بسرعة ظامىء .
شربت ما تبقى من خمرة في الكأس فاصر ان يسقيني المزيد ، وان لااتركه وحيدا. واصلت مشاربته مترددا في البداية . ولكن نجاحي بسحبه للحديث شجعني على مواصلة الشرب ومواصلة الحديث.
لم افهم اصراره انه تزوج من أمينة. بات واضحا الانانه يعني الزواج الفعلي وليس الحلم او الأمنية .وانا على يقين انه لم يتزوجها .ربما يدمج من شدة وحدته بين الواقع والحلم ؟ او يكون قد فقد جزء من وعيه فاختلط عليه ؟.. او يكون حدث شيء لذاكرتي انا ؟!
- كيف تزوجت أمينة ؟!
- كما يتزوج الناس ...
انه يصر ولا يتردد . ما أغربك يا صاحبي . ما أغرب اصرارك . سالته ساخرا :
- وكيف حالها ؟!
- لا أدري . لم أرها منذ زمن طويل .
اسقط في يدي . ما باله يتكلم بلا منطق ؟!
- لا تزال زوجتك ؟!
- أجل !!
هل حقا هذا حازم؟! يقيني يؤكد لي غرابة حازم وعدم اتزانه. كلامه غير غامض ولكن فيه مفارقات غريبة .. كله غريب هذا الانسان الذي كان صاحبي . لقد تألق وابتهج عندما ذكرته بأمينة ،حتى اني اكاد المح بعض الحيوية تدب بوجنتيه .
قلت لنفسي : " اجرب مرة اخرى ان ادمجه بالحديث .. لعل ذلك يعيده الى اتزانه " .
- هل تذكر لقاءك الاول معها في الرملة ؟!
قال متذكرا :
- سافرنا الى قريب زوجتك . ربما عمها.. جار أمينة ..هل تذكر ؟! سهرنا عنده حتى الصبح.. يا لها من ليلة لا تنسى . هل تذكر ماذا شربنا ؟!سألنا ان كنا نريد كأس عرق . فلديه زجاجة عرق يونانية " اوزو " قلت له نجرب ، نفحص طعمها .. وضعها أمامنا، ففحصناها .. بقينا نفحص حتى خوت .
وضحك بمرح . شعرت انه يعود لأصوله . وبدأت ايقن ان السعادة لا تخرب بيتها . استمر يحدث :
- قال لناعم زوجتك ان لديه قنينة " اوزو " من نوع اخر .. قلت له حسنا نفحص الأخرى. يا سلام على " الاوزو " .. شربنا الثانية ، ولو كانت لديه ثالثة ورابعه لبقينا نفحص ونفحص ونفحص .
قهقه سعيدا بصوت مرتفع :
- اشرب
شربنا. كنت دهشا لتجاهله اهم موضوع بالحدث . هل يهرب من ذكراها ؟ عدت أساله قلقا :
- هذا ما تذكره فقط من مشوارنا ؟!
لم تغادر الابتسامه وجهه، ولكن بعض الألم تجلى على محياه .
- اذكر بالطبع .. دعا امينة .. كانت قد علمت منك اني اود طلب يدها .. جاءت خجلى مرتبكة من لقائي ، ولكن الشوق يزغرد من عينيها. لن اقول كيف شعرت انا لحظتها .. انت كنت حاضرا .. ولكنك لم تر ما في داخلي ، لم يشعر احد بما يجري معي . نار تفجرت واشعلتني.تجليت معها وايقنت انها باقية على حبي .. صانت نفسها وحبها. كانت أمينة أسما ومسمى .. عصرت قبضتي يدي ندما على الزمن الضائع .. نعمت بمسامرتها ونعمت بمسامرتي . سلامعلى الطل والندى . سلام على الوجد والعشق . سلام على الحب والوصال ، ووداعا يا زمن الهجر القاسي . وداعا يا زمن الالم الرابض . وداعا يا زمن الضياع والتردد ..ها هوالمتشرد يعود الى حبيبته . ها هو المتشرد يستقر بعد ضياع . ها هو المتشرد يجدد مامضى ..يعود الى يافا ، الى حبه الأول والأخير ، الى بحره ، الى رائحة وطنه .الى قبلات الحب الاولى ، الى ارتعاشة القلب التي لا تمحى مع الزمن .. ها انا استعيد ذاتي من بين انقاض حياتي ومدينتي ووطني .. أخرج من ضياعي وتيهي بفرح يكفي كل الازمان ، باندفاع لا يعرف التوقف ولا التمهل !!
استعدنا في جلستنا تلك تفاصيل حياتنا. تحدثنا عن حبنا الذي كان .. تحدثنا عن ألمنا وشتاتنا..عن مدينتنا التي أصبحت غريبة . عن مدينتنا بشوارعها وأهلها .. عن الانقطاع الكئيب والوحدة القاهرة .. عن الألم والقهر الذي لا يمحوه الزمن .
استعرضنا بعطف أسماء سكان حارتنا ونوادرهم ومفارقاتهم .. تحدثنا عن نوادر البحارة والبحر . كنت أشعر انني شاب يافع في يافا . وكانت تشعر انها صبية منطلقة في يافا .أبدا لم نغادر يافا بأحاسيسنا .حدثتني انها غير مصدقة انها في الرملة ... بل نحن في يافا.. هذه حارتنا، وها هوبيتنا هناك.. وهذا بحرنا ورماله ، وهذه قوارب الصيادين وشباكهم .. هذه امي وتلك امها ، ترتشفان القهوة .. وهناك والدي ووالدها يتبادلان تدخين الأرجيلة . ها نحن نلتقي على الشاطىء .. نختفي وراء تلة رملية .. تتشابك ايدينا تلتقي صدورنا . نتخاطف القبل وجلين مرتعشين . أضمها لصدري بالف حجة وتبرير . تتملص .. فازيد ضغطي حتى تستسلم . أشم رائحة شعرها الأسود المنطلق من اساره . ألمس بشرتها الفتية النحاسية المحروقة .. تتوهج الحرارة في نفسي . أزجر دمعه كادت ان تفضح ضعفي . نتملى من وجوه بعض بظمأ لا يعرف الارتواء . نتامل بعض بحنين جارف . نتمنى لو يخلو لنا الجو..نتوحد . أكثر من عشرين عاما أبعدنا الفراق ، وها هو يلمنا زمن عجيب . يجمعنا قبل اليأس . كنا في الرملة ومشاعرنا في يافا . جلسنا في بيت عم زوجتك ووجداننا يقولاننا في حارتنا ، في دارنا . لا أعرف كيف أفسر ذلك .. كنا نظن اننا اذا أطللنا من الشباك سنرى البحر والصيادين وقوارب الصيد والشباك المنشورة ، بل نكاد نسمع بشيش الأمواج المتواصل . حبنا ليس وليد اللقاء الآني . حبنا لا يعرف نهاية لا بداية له ،ولا بد ان تكون له نهاية رومانسية .. عاشت الرومانسية !!
أنت أسرعت تسابقني على قنينة (الاوزو). أغفر لك ذلك يا صاحبي . أغفر لك بسبب أمينه . أمينة أنستني حتى نفسي.. كيف ؟ أنسى أمينة؟! حبيبتي.. حبيبة شبابي الباكر . حبي الاول والأخير والدائم .
- اشرب .. اشرب!!
لأول مرة لمست تماما انه يدفن ماسي نفسه بالكأس. يحجب آلامه بالكاس.. بالخمر.
- وهل تذكر ما حدث؟!
- بالطبع ... وهل أنسى أمينه؟! عدت للناصرة لأخبرالأهل اني وصلت لمرامي، وساعود لحبيبة يافا.. سأعود لحينا المهدوم وابنيه.. اعليه. اعيد يافا عروسا. أمسح دموعها المتجلدة . اقبلها. اراقصها.أحضنها في ليلة زفافي . واعاشرها ... علها تخصب من جديد . ولن تغار أمينه.. اشرب!!هذا الشرب السريع يضايقني ، ولكني صبرت املا بمساعدة صاحبي على العودة بفكرة للواقع. ان يستعيد وعيه المفقود.
صمت ، وأثار دمعتين بلوريتين تراوغان قدرته على ضبط مشاعره. قال بعد برهة:
- ماتت أمينه يا نبيل. ماتت بعد اسبوعين من لقائنا. قتلها المرض . كذبة كبيرة كانت . كأنها رفضت أن تكون لي بلا يافا . قد تعودلي اذا عادت يافا ... ستتجدد مع يافا... التقيتها بكامل صحتها . مكتمله الانوثة. ناضجة. حارة. حميمة... يقتلها الشوق لفارسها ، وقد بان الفارس. ولكن الموت كان منتظرا. قدرها ان لا تعرف السعادة أبدا ، وقدري أن ابقى من الراحلين أبدا. ليس لي استقرار ولا أمان في مكان. فقدت حبيبتي وفقدت ما يشدني للحياة. لماذا أحيا ما دام حلمي تبدد؟ بعد لقائنا تموت أمينه؟! ماذا جنيت حتى اصدم عبر درب حياتي كلها ؟ من يصدق ان أمينة تموت بعد اسبوعين من تجدد الأمل ؟! من يصدق ان الموت يجيء حين لم تعد ضرورة له ؟ وحين يفتقده المرء لا يجده !!
افرغ كاسا كاملة بجوفه واشار للساقي ان يملأ له المزيد . قلت :
- وانت يا صاحبي ؟ الم نودعك بعدها بشهرين ؟!
وأضفت :
- لا زلت اذكر جنازتك حتى اليوم .. كل الذين كرهتهم جاءوا . لم تتعرف عليهم في حياتك فتولوا امرك في مماتك . اما نحن اصحابك فسرنا كالغرباء.. كنا نشيع جزءا منا..كان الحزن حزننا والفقيد فقيدنا .
- لا ادري عن ذلك شيئا ؟!
- كيف تدري وانت الفقيد ؟!
- ولكنني امامك !!
- موتك كان صدمة لنا نحن اصحابك ...
انقلب وجهه غاضبا وامرني :
- اصمت .. !! اي موت تتحدث عنه ؟! .. اني حي كما ترى؟!
انت حي ؟! -
بالضبط !! -
وتصر ان امينة كانت زوجتك ؟! -
تماما . -
- لم تمت امينة ؟! ولم تمت انت ؟!
- زوجتي لم تمت وانا لم امت !!
- لاتنفعل يا صاحبي لا تنفعل .. انت تحيرني ؟.. عودتك محيرة .. وظهورك لي محير !! كلامك محير !! ما الذي اعادك لعالمنا ؟ اية قوة هذه ؟! هل حقا يعود الأموات الى الحياة؟!
- الموت مرة اخرى ؟!
انفجر غاضبا بشراسة حين عدت اذكر الموت . اغضبه اصراري على ذكر الموت . لم اره غاضبا أبدا بهذا الشكل . فتحت فمي لأهدىء أعصابه ..فأمسك كاسه بقبضته وقذفها بوجهي وعيناه تطلقان شرارا.. اغمضت عيني جافلا من ضربته الفجائية ، رافعا يدي تلقائيا لتلقي الضربة .. فاخطأ بضربته كما يبدو ... فتحت عيني متحفزا لمواجهة غضبه .. فلم اجده امامي .. أمسكتني حيرة شديدة .مددت يدي قلقا لأشعل الضوء .. فتحت عيني .. صحوت .. اخذت نفسا طويلا .. ابتسمت ، اطفأت الضوء ، وعدت اغفو من جديد وصوت حازم يصل لاذني مناديا :
- أمينة !!
اتوجه بالشكر العميق للصديق الأديب والخبير في معالم الوطن ، جغرافيتة وتاريخية ونباتة ، ابن قرية اقرث المهجرة .. الأستاذ فوزي ناصر حنا ،على المجهود الذي قام به بمراجعة النص وتصويب الأخطاء – نبيل عودة