الحوار المتجدد
حوار التناظر مع الأديب الكبير أميل حبيبي
مشهد أم الروبابيكا "سوق الدير" – يافا
د.مازن حمدونه
إلى أميل حبيبي ...
اكتب سيدي رغم أنني هجرت كتابة الأدب منذ كنت صبيا ؛ إلا انه أبا أن يهجرني .
أنا هنا في مقامكم أؤكد بأنني ليس أديب قصة أو شاعر .. ولكني ما زلت ألملم حاجاتي المبعثرة .. آلالام الماضي و مرار الحاضر ، فمازالت جراح الماضي لم تغادر وجداني بعد ..ومازالت آلالام الدهر تسكن فيه .. ولوعة شعب مزقته النكبات أصبح ينتحر الآن ويمضي في غيابات الجب ، والموت الأكبر دعاني لأن اصرخ عسى ان يسمعونني بعد ان سمعت كل أرجاء المعمورة آلالام جرحي .
أميل حبيبي ...
كثر كل أولئك الذين سقطت عبارات الذل على تعبيراتهم ... وآخرين أبوا ، وأخذتهم العزة بالإثم ، فسلطوا كرابيج حياتهم في جلد الذات .. وأسقطوها على الآخر .
ستون عاما من ألم ولوعة ، ما بين رائحة الموت المتغطرس مضت وبين هدير الدبابات وقصف الطائرات في شوارع يافا .. وحيفا.. وصفد.. وطبريا .. والرملة .. واللد والمجدل .
مازالت مذابحهم تسكن الوجدان رغم إني لم أكن من جيل خلت عليه النكبة .
راهن كل علماء النفس والاجتماع على ان تنتهي هذه الحقبة والزمن كفيل ان يشطب ذاكرة الأيام .. ليسقط حق العودة .نسوا سيدي ان الأجداد قدموا لنا وصفا ما وصفته كل الصحف ومحطات المذياع ..ولم تكن تسجله بعد عدسات الفضائيات ، ولم تعهده شاشات ناقلة الثقافة الرقمية .. في قرية العولمة .
أميل حبيبي ..
مشهد أم الروبابيكا "سوق الدير" – يافا
كما وصفته بعض أقلام كتابنا ، وكما وصفه عامة الأشباح الهائمة
لا أخفيك الأمر ان قلت لك ان كل قطعة من تراث الوطن كانت معروضة في أم الروبابيكيا ، وسوق الدير كما ينطقها عامة الناس من أهل غزة والضفة ..هي نفيسة لا تقل في عزتها عن أبار النفط العربية . هي الماضي ولكنها ما زالت تسكن فينا ..مقتنيات الأجداد من المرآة حتى الحذاء .. تحف تزين أدراج ورفوف الدلالين في سوق الدير ..ورغم هذا مازالت مفاتيح بيوت القرية والمدينة بحوزتي .. وشهادات ملكية تراب الوطن مازالت تحت وسادتي .. فانا املك ما لا يملكوه العابرون بين الكلمات .
شوارع يافا معبدة ورائحة العتق ما زالت تفوح منها..مساجدها مازالت شامخة ..
أميل حبيبي ... وأهل يثرب !!
قالوا: لكم انتم القعداء ، وماذا قالوا عن وصف ذواتهم ؟ فهل كانوا من أهل يثرب ، أو كانوا في عمرة لبيت الله الحرام ؟ هل اغمدوا سيوفهم كسيوف أهل يثرب لأنهم في كل الأشهر حرم؟!
أيا أميل حبيبي ... من منا لا يبربر على خضرة السهل والروابي .. من ينسى عبير الليمون وزهر البرتقال في يافا .. من ينسى نسيم بحر يافا وحيفا والمجدل ؟
من ذا الذي سيخلد للنوم وحصون عكا تصرخ واقفة في وجه التاريخ المغتصب؟!
من ذا الذي لا تؤرق جفونه بؤبؤ العين وهي تستباح في كل ليلة وزنادقة التاريخ يحفرون حتى وصلوا نخاع حرماتها !
سيدي .. ترى كيف اجتمع الغني والفقير في شوارع أم الروبابيكيا .. يتجولون شوارعها .. يمعنون البصر في قطعها العتيقة الثمينة ..يخجلون ويمضون وهم يحاولون إخفاء ملامحهم من الغرباء .
أميل حبيبي ..
هل خبرتنا عن حال المسجد الكبير في يافا .. هل مازالت مآذنه شامخة .. هل مازالت مكبرات الصوت تجلجل المدينة بإحياء الصلاة في أوقاتها الخمس . هل مازال معتمرا بالمؤمنين؟
اخبرنا عن حراس البحر من أهل يافا ، الذين مازالوا يقطنون تحت سقف البيوت الآيلة للسقوط ، متجذرين لأنهم عشقوا المكان .
معرض المنهوبات في زمن النكبة مازال يحتفظ بأوان الأجداد في أم الروبابيكيا ، كان المكان يجذبنا إلا إننا نجزع من هول المشهد فتتيبس أطرافنا ونبقى بين الثبات والصراخ .
كان لصوص المكان ورعين ان يتخلصوا من مقتنيات الأجداد ..ولكن في كل جولة تتكدس على رفوف حوانيتهم رغم جفاف حلق الدلالة في أسواق أم الروبابيكيا .
تقول لهم أطلالنا بشموخ .. نحن هنا باقون كالجبال .. كأشجار البلوط وحتى الصبار . ستجدنا في حبات الرمل ، في قطرات المياه .
كل زنازين الجزارين لم تقيد معصمي .. كل أشكال العزل لن تخطف صرختي .. قد تنزعون مني الأظافر وقطع اللحم من جسدي .. ولكن لن تنزعوا الوطن من أعماق صدري .
الأشباح الهائمة ...
رجال غزة ونساء أهل الضفة الغربية ..والقدس العامرة حتى من جاءوا من بلاد يثرب والحجاز وجدة والكويت والرياض ، وكل من جاءوا من حول المستعمرات الأمريكية وأهل الانتداب في بلادنا العربية في عصر عولمة المستعمرات ..
جاءوا هنا ليجددوا البيعة للدار التي سكنت العقل والوجدان .. جاءوا ليقدموا الطاعة والولاء .. جاءوا يهمسوا في أذنيها أنهم باقون على العهد .. يعدونها بالعودة بالتحرير يوما لها من أصفاد الطغاة .. يقسمون أنهم سيغتالون خماراتهم .. ويهدمون سجونهم وان يعيدوا الوتر المبتور من الساعد والساق ، حتى ان يعيدوا وصل وتر العود والناي لتعود ترانيم وأهازيج أهل الدار .. ان يعيدوا تشييد قبر جدي الراقد في ركن مقبرة الثوار عام 1948.
كل الزائرون يجوبون شوارع القرية والمدينة القديمة .. يطرقون الأبواب .. يسترقون النظر خلسة في فناء أو فسحة الدار .. يسألون عن كومة حجار هدمتها جنازير الأغراب .. في هذا المكان كان جدي يقطن وانا صاحب الدار..يطلبون جرعة ماء هي لا تروي ظمأ الطفل الرضيع ، ولكنها تتسلل في خلايا الجسد يتطيب منها ينال بركاتها ليصف انه شرب ماء نفس الدار .
أنا كنت اسمع آهاتهم بعد كل جولة ..يستعيدون السعادة والفراق الممزوج بالمرار .. يقصون علينا كيف نالت منهم طائرات الموت في كل لحظة وكانوا يطلقون عليها لقب "الدانات" .
أميل حبيبي ..
أنت لم تمر بلوعة فراق الوطن .. وربما لم تشاهد كيف تداهم عيونهم الدموع وتهمي ..ولم ترى عيونهم وقد غطتها شدة الاحمرار .
أنا والله ما لمست في وداع الشهداء من فلذات أكبادهم حسرة وألما ، كحسرتهم على الغربة التي طالت عن الديار .. وهم مازالوا متشبثين .. يرفضون ان تبقى ذكرى أو أطلال!!
أطلال الديار هي الان مازالت تتمالك بعض من عافيتها رغم أنها شاخت ستون عاما .
أخبرني يا سيدي ماذا افعل ؟
ماذا افعل بعد ان تخلى عنا بلاد تنطق الضاد .. وأهل العقيدة يغرقون في عزوة ويهيمون صوب خالد بن الوليد ، وصلاح الدين ، وعمر المختار..تركنا أهل بلاد العرب لذاك المجرم السفاح ينكل في أجساد الرضيع والشيخ والأطفال .. وهم يقهقهون في بارات الغرب ومازالوا يقولون سنعود قريبا وقد طال الانتظار.
نحن آثرنا الموت على حياة الموت المغموسة بالذلة والهوان والعار .
ترى أميل هؤلاء الأشباح الهائمة ، هم هؤلاء الذين رسم التاريخ على جباههم الأسى والشقاء .. يفتشون عن قبر الجد والجدة تحت الجدار .يفتشون تحت الجدار المبعثرة في المكان ، يلملمون بقايا العظم المتناثر في المكان .
ترى أميل ، هل حقا أن "إسرائيل" توأم الروح المستنسخة من رحم الشيطان الأكبر ؟
أنا اتفق معك ولا اختلف ان تبقى أم الروبابيكيا مفتوحة وان لا تنتهي حلقاتها إلا بعد نهاية المشهد ونوصد الباب بعد ان يرحل عنها ذاك السفاح الأجوف .