الحوار المتجدد
في ربوع الأدب السياسي
حوار التناظر مع الأديب الكبير محمود شقير
د. مازن حمدونه
كتبت وقلت الكثير.. ومنه الكثير سراج في العتمة الهوجاء . تجربة امتدت ما بين سطور الأمس وواقع غطى مرار الحال . حتى الأمس كانت واضحة مسالك شعب توحدت قضيته .. إلا ان اعتراك وتداخل أهل السياسة خلطت أوراق التجربة، فتاهت ، وأرقت عقول من قادوا مشاعل على درب تزاحمت فيه المتناقضات .
أهل البلد ...
من يتفحص سطور قصتك ويعيش وسط الحالة ، يدرك كم تبدلت القيم ، وكم تقلبت الأحوال ، ما بين الثبات والتغيير .. سلم ما أحسنت الأيام مقامه ، وداست أطواره ، أجيال سقطت معها ثقافة في ظل تبدل الأحوال .. صراع قائم لا ينقطع حاله، ما بين الخير ، والشر . حالة ديناميكية ، تضبط موازينها توازن بناء المجتمع ومكوناته. ولكن ما للقيم ان تنضج في غياب العدل .. وعندما يغلب القهر ،والفقر جنبات مجتمع أوصاله ، يطغى الشرير فيه ويصبح العبد مهان .. سمك القرش ملك في جزيرته ، كجسارة اللص في غفلة الفارس من أهله .. يبقى الجسور من الباطل في عسر من حاله ، يخشى أن تنال منه أقدام الفرسان .. فالجسور كعادته في أوجع محنه ، لطالما داست أقدامه حدود الفوارس .. فلا تردع الجبان إلا حواسم .. والحواسم في مقام الجد هي مفاصل القرار .
حين غصت أحداث قصتك تفحصت مكوناتها ، لا أخفي عليك أمرا إن قلت لك ، وصف القرية كمن لو عشت أيامها .. ترى القارئ كالساكن في ديارها ، وما تنفض من نهايتها حتى ترى، كم هي موحشة تبدل القيم من الفضيلة ؛ والعدل غائب في حضور الشريرين ، حين يسنّوا نبالهم في ضحاياهم.. تستعبدهم جسارة مارق على الزمان بغلياء تجبره .. وشيمة اللص اختلاس ونهش الضعيف . والجور طارده كالذئب الذي استفرد بزوجه الواهن في قصة "أهل الديار" . وما تنقضي رحلة بين أحوالها ، تشتاط غضبا ،و لكنك تكتشف أنك جبت رحلة ما بين السطور والكلمات .. وأنت مازلت تجلس في المكان الذي بدأت القصة من حيث قرأت !!
محمود شقير وأهل البلد ...
تقول أنها قرية أصابها الفتور بحرارة الصيف ، وظلال جدارها مهدمة وتنحسر النهار في نصفها . مختار القرية كعادته يجول في الطرقات ،والأماكن يتفحص وهو في حلة لم يتنازل فيها عن حلة أصيلة متوارثة بالقمباز.. يتفحص أهل القرية وأحوالهم ، يقترب من كومه من رجال القرية وهم اخذوا من الدنيا قسطها .. يلعبون السيجة في ظل إحدى جدار بيوت القرية ..
لا أبيح سرا ، لو قلت : انك أخذتني بذاكرة الأيام الأولى من حياة طفولتي ، فشهدت حال أهل قريتك كحال أهل جيرتي في المخيم بعد اللجوء .. حين كنت أرى مشاهد العجائز ، وقد تكوروا حول تراب الأرض في كومة لا اعرف ما سريرتهم بها ، غير أنهم يقضون نهارهم في لعب لم اخبر؛ ولم أبحث أسرارها .. ويخطون تراب الأرض ، وكل طرف قرر حجارة لعبته، كل ما خبرته ان حالهم تبدل ، من خط الأرض وحصدها ، لحال خط التراب ، يقضون نهارهم بعد أن هرس أيامهم ملل ، نخل عظامهم ، ولا حيلة لهم ، وهم ينتظرون نجدة الواهم ..التائه .
أثرت في تساؤل حول شخصية مختار القرية ، ونزعت عنه النخوة ، فهل كل المخاتير كما شخصتهما بهذا الحال من الجوف ؟!
قلت ان مختار القرية خرج على رجال القرية وشيختها ، استصرخ فيهم نخوة الرجال ، وشحذ عزيمتهم ، فقد يكون صرخة من داخلة على من خرج على قيم العدل والكرامة والشرف ؟ ان لم يكن هناك مآرب أخرى لم تفصح عنها مفاصل شخصية مختار القرية في قصتك ، ولم تخبرنا كراهية المختار لأهل الحارة في قريته ودوافعه .
فلو كان هذا في مقامه ؛ لما جال بشوارعها ، واخذ على عاتقه فصل نزاعاتها التي لا تنفض لحظة ورجالها في غفلة عن ردع الجسور في موطن الإجحاف بحق زوج "عزيزة" .. ذلك الرجل الواهن الذي أكل الجبن فؤاده .
دار حوار حامي الوطيس أطرافه، توزعت بين أطراف العجائز ورجال القرية صراع بين الخير، والستر والباطل .
منهم من ثارت ثائرته ، وأخر تحامل على الضحية في موضع دفع البلاء في جلد الذات ، وأخر ختمت الدنيا عليه بوقارها ،فدفع البلاء عن الضحية بستر حالها ..حين غافل زوج الضحية في غيبته ، جسور راعي الغنم في البرية "عواد" الذي كشفت خفاياه عيون "خالد العلي" حين شخص مشهد الذئب وخلوته بالضحية في لحظة دعته إلى نفسها ، من سوء منبت بيت نبعت منه طفولتها . هو قص عليهم مشهد الحكاية لا من حيث بدأت تفاصيلها وإنما قص من حيث انتهت!! وكانت أكثر إثارة للجدل !!
أهل القرية من الرجال رأى ان زوج الضحية القانون ينصف حقه ..وأخر ركل القانون بحذائه .. فالشرف لا تعاد هيبته إلا بإهدار دم الجسور ..
في قصة ترددت أهوالها عقب ديارهم وزمانهم "بنت الجراش" الذي طحن أهلها جسور الردى ببارود نالت من الجسور ومن ساند معصيته .. وانتهت تفاصيلها بدية الدم ..
ذاك الجسور "عواد" هاجم الضحية لحظة ضعفها .. وكان يقرأ المشهد من جوانبه .. امرأة دعته بسلوكها الأرعن إلى نفسها وزوجها في غيبة من عقلها ، وهو يدرى حال زوج الضحية من وهن وضعف وغلب حاله !!
إما رجال تعودوا على جلد الضحية في مقام الضعف دوما يطرحون الكرب على الضحية ، حتى لا يكلفوا أنفسهم وجع الضمير ، والشهامة في إثارة القلاقل مع جسور لم يحرك غيرتهم ،وخشيتهم من النيل من أخريات في ربوع قريتهم البائسة.
وقف مختار القرية في جدل بين نفسه ، هامت بعقله صور الذاكرة لجده ، حين كان يمر عن أهل قريته ، وكيف كان من قبلهم في ذات المكان تصطك جنبات الرجال من حضوره ، وكم كان ينتابهم الرعب بمشهده ، ويتلبس الخوف والرهبة حضوره ، وكيف تبدل حال قريته بعد أجيال وأصبح مختار القرية لا تعيره نظرات أهل السيجة استهتارهم وهم في وطيسها غاصوا ..
أصبح مختار القرية كمختال تلحف في عباءة جده .. وحسرة تنتابه بين حاله وهيبة جده !!
تبدلت قيم القرية من النخوة والرجولة والشهامة .. حتى نسوة القرية لم تعد تعير فجور صوتها أحدا ً .. وأصبحت جدار قريتهم لا تستر فجورهن ، كمن تحولن إلى معشر غجر .
مر مختار القرية يدرب بكفه حال النسوة وقد سقط قناع حيائهن ، "عزيزة" تجرجر جارتها من جدايل شعرها ، ونسوة القرية في فسحة تراقب فجورهن .. ما بين المتعة وقذف اللسان كأفعى ترقط وتفيح بلسانها .. ولا هم لهن سوى القذف ..
كان واضحا من سلوك الجماعة وتبدل أحواله من نظام اجتماعي متراصٍ إلى سلوك فوضوي عبثي ، تنازلت فيه عن قيم لم نشد تدهوره إلا في تفكك لم تعهده أهل القرى من قبل ..(إضاءة من كاتب الحوار)
عودة الزوج الضعيف الواهن :
حين عاد زوج "عزيزة" .. وهو يجر أقدامه بعد يوم دام من مكابدة التعب في ترهل حاله .. ما بين غلب حاله وكده سعيا لستر وجلب قوت أطفاله يحمل كيسا من طعام لأطفاله .. وزوجته في زقاق القرية توزع فجاجتها ..ما بين فضيحة صنعها سلوك لا يؤخر افتراسها من ذئاب دون وجل .. وبين فجاجة سلوكها في الحي وأطفالها يرقدون في حوش الدار .. هذه المرأة التي لا هيبة تردعها .. ولا عصمة زوجها سجلته في عقلها ..
مضى ذاك الرجل الواهن العزيمة .. خائر القوى يجرجر أقدامه شوارع القرية ، وعيناه لا يرفعهما عن تراب الأرض .. استقبله أطفال القرية يقصون عليه ما دعاه للشعور بالعار .. ولم تشتعل فيه سوى الجبن والضعف .. ومضي بين الطرقات عن رجال الحي لا يجرؤ على رفع رأسه ، وعيناه تنقع بالذل والأسى ، حتى غاب عن رد التحية على الجالسين بممرات الطريق من أهل جيرته .. رجل يخشى من ضعف حال تملكه .. وأرعبته حتى غيبت عزيمته .. إلى حد نحرت غيرته ، فحبس غضبه في مميعة نفسه .. وتقوقع على نفسه كالسلحفاة حين ترقد في حلتها كلما شاهدت من يقترب منها حتى لو كان طفلاً رضيعاً.
طوال مشوار طريقه بين الطريق والأزقة ، يقلب ببنان عقله ما يفعل بأمر زوجته الملعونة التي فضحت حاله عند أهل القرية ، وكيف استقبله أطفال الحي استقبال المروج و"اركوز" عاد بعد غفلة طويلة !!
رجل من أشباه الرجال .. زادتنى غرابة كيف عزت عليه الحياة وتربع فيها بالذل والهوان !!
رجل اختار الاستسلام للذلة والهوان ، والمواقف تبرق فيها معادن الرجال وصنعة القرار ما بين الشجاعة والرزانة والاستسلام ..
فإما حياة تسر الصديق ... وأما ممات يغيظ العدى ..
من مثل هؤلاء الرجال تلهو بهم النساء .. ويسقطون سدى من عيون زوجاتهم حين تشخص فيهم غياب شيم الرجال في مطلع حاله ، فالأصيلة تهجره بانفصال ، ولا ترضى بعشرة زوج من أشباه الرجال ، إما فقيرة النفس والقيم تأخذه كحذاء .. كقشة تدوسها نعال الأطفال ..
دخل الرجل الضعيف الواهن على أطفاله ، وصفق باب الحوش في بيته ، أمطرته عيون أطفاله ، وعيونهم تعلقت بالكيس الذي بيده ، وانطلقوا صوب والدهم ببراءة .. فهو يسجل لهم الأمن والأمان وراع كرامتهم ..كانت زوجته وقد تربعت في البيت واجمة الوجه، تمدد .. وعجز لسانه عن النطق بكلمة لساعات وساعات .. حاصر حسرته لا يعرف من أين يبدأ السؤال .. وهو وصف لا ينطبق إلا على رجل رحلت شهامته، وتملكه الخضوع والاستسلام.
شخصته عيون زوجها وهو في حالة من ارتباك حاله ، وأخذت تفذلك عليه حالها ..طار خيالها في حال ضعفه صوب الجسور "عواد" وجرأته نحوها ..وكم كانت معجبة به من داخل نفسها ..فقارنت جسارة من لا تربه بها ذمم وضعف زوجها ..
ما أثار استغرابي من تشخيص حال الزوجة اللعوب عندما مررت بإشفاق على حال زوجها ، وأرى أن ما جاء هنا ليس بموضعه ، فليس أمثال تلك النسوة في هذا المقام لهن إشفاق !!
فحين حدثت نفسها بتأوه وأسى ثقيل وصبت زوجها بنظرات فاحصة وهي تقارن وضع الزوج بالجسور الذي راودها ... عاد المشهد من جديد في بنان عقلها حين رجع الجسور "عواد" يعزف على شبابته وكيف اقترب منها وجلجلت البرية بضحكتها وعندما اهتزت وهو يثبت حزمة الحطب من على رأسها وتحول من حال إلى ذئب أراد التهامها بعد ان رصّع وجنتها بقبلة لم تيقظ سريرتها سوى أنّه جاء ما أيقظ غيابها جرس رن في المكان من أغنامه .. لملمت حالها وشخصّت المكان فلم تجد من رصد مشهدها .. سوى ان لطمتها تحديق عيون "خالد العلي" الذي نقل المشهد فأصابها وكبلها وجهه من خلف جذع شجرة زيتونة ..فصرخت لتطفي على المشهد فزعها !!!
كم كانت في درك النساء اللواتي .. لا تثمر فيها كرامتها وعفتها .. استباحت نفسها فاستباحتها الذئاب !!
انتظر الزوج من زوجته أن تدغدغ رجولته بعبارات الشهامة .. وكان حاله ينم عن عقم الرجال ..
بادلته أطراف الكلام من غير مكانه بتدبر منها في حال لم تجد فيه من عناء .. وأغلقت مشهدها بكل يسر .. وفي سريرتها كم لامت والدها على زوج كانت لا تقبل به سوى أنها مرغمة على حاله .. فكانت بأعماقها تلوم الأب وتبحث عن الأعذار .. اخذوا يراقبون سلوك الأب الذي رسموا له صورة اسدية في بنان عقولهم .. سطر الأب أمام عيون أطفاله ملحمة من الضعف والهزال .. قلبت أطوار حالهم ومزقت وجدانهم ..فما الأب الذي رسموا له بطولة رأوه وقد سقط فغاص الزوج الهزيل بعد ان دس رأسه بين ركبتيه من قرفصاء ... انهار وانهارت صورة والدهم من بعدها وتبدل صورة الأسد إلى كبش عالق في فم أسد .. بكى على حاله كطفل .. وبكى من بعده أطفاله كالذين لحدوا والدهم ورشوا على قبره بضعا من ماء .. أمعن أطفاله بالبكاء والعويل ولم لا؟ وهم أصبحوا مكشوفي الظهر للقدر ولكل جسور لطالما سقط الأب من علياء وكسر ظهر أطفاله ..ومضت الليالي ومضت عزيزة بلا عزة .. وزوج شاخته الأيام بلا عزّ وزاد هزله .. ومازال مختار القرية يجول طرقاتها بحسرته على أطلال جده ، وفوق القرية توسوس رياح صيف غريبة وخالد العلي شاهد على عفتها ، وبقى الجسور "عواد" راعي الأغنام بحلة الذئب يجول بها .. فالجسور الذي لا تسحق عظامه الرحى ..ينال ممن تخوض نسوتها ويجسر على غيرها .. فمن يستبيح العرض لا تكبله كرامة ، ولا يلجمه ؛إلا الحسام ..