عوني فرسخ/ كاتب فلسطيني
شكراً لوزراء الثقافة العرب لقرارهم باعتماد القدس عاصمة الثقافة العربية للعام 2009 في مواجهة الاجماع الصهيوني باعتبارها بشطريها عاصمة ابدية للكيان الصهيوني. ولا أدل على أهمية القرار العربي من الاجراءات التعسفية الاسرائيلية ضد المواطنين العرب الذين احتفوا به في القدس والناصرة المحتلتين. غير أن قرار اعتماد القدس عاصمة الثقافة العربية جاء في مرحلة لا تفتقر الأمة العربية فيها فقط لاستراتيجية ادارة الصراع مع التحالف الامبريالي الصهيوني، وانما تفتقد ايضا وحدة الموقف تجاه الوجود الصهيوني مغتصب الارض العربية، خاصة تجاه الاجراءات الاسرائيلية الجارية لطمس عروبة القدس، لتهويدها وتصفية الوجود العربي فيها. ولما كان واقع القدس كمدينة محتلة مختلف نوعيا عن بقية العواصم العربية فالثقافة التي ترقى لمستوى اعتمادها عاصمة للثقافة العربية انما هي ثقافة مقاومة كل ما يتهددها على المحاور التالية:
فعلى محور الهوية تواجه المثقفين العرب كافة، والمؤرخين منهم بالذات، تحديات الادعاءات المنكرة عروبة اقدم مدينة عربية. فالثابت ان اليبوسيين أنشأوها لدى هجرتهم من شبه الجزيرة العربية مطلع الالف الثالث قبل الميلاد. وعلى مدى القرون السابقة للفتح العربي الاسلامي لم ينقطع تدفق عرب شبه الجزيرة عليها، ضمن
هجراتهم المتوالية لبلاد الشام. وكانوا على تفاعل دائم مع أبناء عمومتهم المقيمين فيها. بما يدحض الادعاءات الصهيونية، وغير الصهيونية، حول ان عروبة القدس انما تعود فقط للفتح العربي الاسلامي في العام 15 هـ 638 م. والجدير بالتذكير به انه منذ بداية الاحتلال البريطاني لفلسطين سنة 1917 توالت الحفريات في القدس، ثم تكثفت بعد احتلال القدس الشرقية عام 1967، دون اكتشاف اي آثار يهودية يعتد بها الاثريون. مما يدحض الادعاء بالصلة التاريخية بين اليهود والقدس العربية نشأة وتاريخا. وهذا يتطلب تصويب ما بات منصوصا عليه في بعض المناهج والكتب الجامعية والمدرسية حول هوية القدس في تضاد مع حقائق تاريخها الممتد.
استهداف المقدسات
وعلى محور ما تتعرض له المقدسات ويستهدفها، مطلوب من وزارات الثقافة وروابط المثقفين تكثيف الاتصال باليونسكو وغيرها من الهيئات الدولية المعنية بالتراث الانساني، لكي تقوم بمسؤولياتها تجاه ما يتهدد المقدسات العربية، الاسلامية والمسيحية بالقدس، خاصة المسجد الاقصى بسبب الحفريات الجارية تحت اساساته. كما انه مطلوب اشهار القرار الصادر عن 'مجلس الملك الخاص' في قصر بكنغهام الملكي بلندن في آيار / مايو 1931 بتأكيد أن حائط البراق، والساحة التي امامه، جزء لا يتجزأ من الحرم القدسي الشريف، وهما من املاك الوقف الاسلامي، وأن مطالب اليهود بالحائط وحارة المغاربة غير مستندة لاي حجة قانونية ومن الواجب ردها. وعلى محور الاحتلال الصهيوني غير المشروع للقدس بشطريها مطلوب من الكتاب والاعلاميين تسليط الضوء على مخالفة الصهاينة القرارات الدولية الخاصة بشطري القدس واغتصاب حقوق مواطنيهما العرب. إذ جرى احتلال الشطر الغربي في حرب 1948 بعد معارك ضارية مع قوى 'الجهاد المقدس' و'جيش الانقاذ' وسرية من الجيش العربي الاردني وعناصر الشرطة الفلسطينية. ولقد لعب التآمر البريطاني دورا تاريخيا في احتلال احياء القدس الغربية، في مخالفة صريحة لقرار الجمعية العامة للامم المتحدة بتقسيم فلسطين رقم 181 لسنة 1947، بالنص على ان منطقة القدس دولية. فضلا عن أن المواطنين العرب، الذين هجر غالبيتهم منها يمتلكون نحو 70 ' من عقاراتها، كما وثق ذلك الراحل فيصل الحسيني. اما الشطر الشرقي، الذي احتل سنة 1967، فلمواطنيه العرب ما يجاوز 95 ' من عقاراته واراضيه. فضلا عن ان قرار مجلس الامن رقم 242 يدرج القدس الشرقية ضمن الضفة الغربية المحتلة. وقد اكد مجلس الامن ذلك باعتباره قرار الكنيست بضمها والاستيطان الصهيوني فيها غير مشروعين. وعليه فان من حق الاجيال العربية التي لم تعش نكبة 1948 ولا نكسة 1967 تعريفها بالحقوق العربية المشروعة بالقدس بشطريها، كما بعدم التزام العدو الصيوني بقرارات الشرعية الدولية الخاصة بالشطرين.
وعلى محور اعتماد استراتيجية تصفية الوجود العربي الانساني بالقدس بالتمييز العنصري ضد مواطنيها العرب، الذين هم وحدهم اصحاب الوجود الطبيعي والتاريخي فيها. فقد جرى التضييق عليهم ولا يزال بكل السبل الممكنة لحملهم على مغادرتها، والمؤشرات كثيرة على احتمال تعرضهم للتهجير القسري 'الترانسفير'. ولقد وجد الصهاينة في اتفاق اوسلو، كما في الهرولة للصلح والتطبيع، ما شجعهم على التنكر للحقوق العربية التاريخية بالقدس، وإهدارهم لحقوق مواطنيها العرب. وعليه فالمثقفون العرب، كما صناع القرار، مطالبون بالاجابة عن سؤال : ماذا يتبقى من عروبة القدس اذا نجحت عملية تهويدها، واليس من اولى الواجبات الوطنية والقومية العمل على توفير متطلبات البقاء الآمن والكريم للمرابطين في أولى القبلتين ومسرى الرسول وقيامة المسيح عليهما السلام؟
ثقافة السلام؟
وعلى محور الصلح والتطبيع مع الكيان الصهيوني، وما يسمى تجاوزا 'ثقافة السلام'، فالمطلوب سؤال مطالبي قوى المقاومة الاعتراف باسرائيل اعترافا شفافا كما 'الكرستال'، ان يقدموا بيانا لامتهم عما حققه التنازل عن 78 ' من ارض فلسطين ومسخ الميثاق الوطني الفلسطيني، وابداء الاستعداد للتنازل عن حق العودة، ونعت مقاومة الاحتلال المشروعة في القانون الدولي بانها عبثية و'ارهابية'؟ وأي ثقافة سلام يجري الترويج لها والتجمع الاستيطاني العنصري الصهيوني يزداد انغلاقا على الذات، ويمعن في امتهان حقوق المواطنين العرب في الارض المحتلة، وآخر الشواهد ما جرى في القدس والناصرة المحتلين ضد المحتفين بمدينتهم كعاصمة للثقافة العربية؟
وعلى محور الصمود والتصدي فليس من عمل يرقى لمستوى ما تواجهه القدس ومواطنوها من تحديات سوى ان يعتبر عام اعتماد القدس عاصمة للثقافة العربية عام ثقافة المقاومة، والتصدي لثقافة الهزيمة. وذلك بوقوف المثقفين العرب بموضوعية مع حقائق تاريخ الصراع العربي الصهيوني منذ نكسة 1967 الى فشل المحرقة الصهيونية في قطاع غزة في استعادة قوة الردع الاسرائيلية التي اسقطتها المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله صيف 2006. ليتبين المواطن العربي أن حرب 1967 كانت آخر الانتصارات المجانية الصهيونية، وأن المقاومة أعادت للامة العربية اعتبارها واثبتت قدرتها على دحر الغزاة، وهي بالتأكيد وحدها القادرة على تحرير القدس بؤرة الصراع العربي الصهيوني.