لا أجدني في هذا الزمان إلا على قبر أمّي معتزلة العالم وكأن لا مكان لي سواه...
كل ما توصلت له في الآونة الأخيرة ، أنه من الصعب أن تحكم على أحد وتحاكم مواقفه وتصرفاته .. قريباً كنتَ أم بعيداً عنه .. من الصعب أن تفهم حقيقة حاله وما يعتريه وأن تبصر وتقرأ بوضوح ما يتفاعل بداخله وما يتشكل من متغيرات – وأن تفهم - وبالإذن من نزار قباني – لماذا يتنفس تحت الماء - ويترك نفسه يغرق أكثر وأكثر وأكثر؟!!
لماذا تباشر خلايا النفس في التقدم إلى الفناء والتلاشي قبل أن يفنى الجسد .. حين تصاب الروح بالشيخوخة والعجز قبل أن يدخل الجسد مرحلة الكهولة وحتى لو بدا للناظرين في عز الشباب .. حين يشدنا الشرود ونمسي إلى العدم أقرب ويتحول الجسد إلى تابوت..
أدركت أن الموت يأت الإنسان الحسّاس تدريجياً ويموت منا جزء مع كل مصيبة وموت متصل بالذات ولا يحدث دفعة واحدة إلا في الحواداث..
متى وكيف ولماذا يبدأ الإنسان بإعدام كيانه ومحاربة وجوده ، وكيف يتحول إنسان إلى العدو الأول لذاته والأشد خطورة عليها ؟؟!!..
حين نصل إلى حالة من الشلل وهيمنة الطاقة السلبية – مفادها – أن هذه الدنيا لا تستحق أن نعيشها وتغدو مجرد طوق في العنق يزداد ضيقاً ومحاصرة للأنفاس نزداد معه اختناقاً !!..
إني أتنفس تحت الماء .. وإني أغرق .. أغرق ....
التغيرات الهائلة وقرار العقل الباطن بإفناء الذات لا تحصل لأمر واحد مهما كان كبيراً وعظيماً وقاصماً ومفجعاً .. هي تغيرات تتراكم كالسوس ينخر الأسنان داخلاً والجير يتشكل عليها خارجاً ..
أعترف .. أعترف وأقر بذنبي.. بتركيبتي الغريبة عن هذا الزمن..
أعترف أني طفلة لم تعرف أبداً مع الزمن كيف تكبر وتقسو في مواجهة رياح الحياة وعواصفها وزلازلها.. أعترف أني مادّة شفّافة لينة تتأثر بكل ظروف الحياة فتنعكس عليها ..
أعترف أني مزاجية جداً وأني أحلّق مع الطاقة الإيجابية من حولي فينبت لي أجنحة، وأتبعثر أشلاء دامية على صخور الطاقة السلبية..
وتتعاظم الطاقات السلبية من حولنا حتى تفترسنا..
حين تفنى الأحلام ونصل إلى قناعة واحدة – لم أعد أريد شيئاً من هذا العالم – حين تقضم وقائع الحياة المدينة الفاضلة في تطلعاتنا وتجعلها تتبخر – حين تسقط القيّم الحقيقية – حين نفقد الثقة بصدق إنسانية الإنسان – حين يسود الهرج والمرج – حين يتداخل الخير والشر حتى يصعب التمييز بينهما...
حين ترى العيون تنظر ولا تبصر!..
حين يسود الاستقطاب فيزور الإنسان نفسه ويغدو مسلوب الإرادة يرى السفاح بطلاً والضحية جلاد والحق باطلاً والباطل حق...
حين يعتاش الناس على الوهم ويحاربون الحقيقة ويرون النور ظلاماً والظلام نور..
حين يصطف الناس بين طريقين كلاهما شر ولا يرى أحد الطريق الثالث .. طريق الخلاص...
حين يُكتشف إيلي كوهين واحد ويظل ألف إيلي كوهين محمولين على الأكتاف نفديهم بالروح والدم يهدمون قلاعنا ويقتاتون على دمنا ..
حين تسقط قضية فلسطين نهائياً ويغدو حماية أمن إسرائيل هو ما يتسابق عليه - جميع الساسة ..وإلاّ !..
حين تحارب حرية الشعب العربي وتوقه للعيش الكريم بالإرهاب المركّب ليحيل ثوراتهم الشريفة إرهاب ووطنيتهم الصادقة رجس وعقيدتهم ضياع !..
حين تشكل العولمة وحكومة العالم المهيمنة فرق عمليات للتخريب وخلايا إرهابية بشكل ووجه ومسمى عقيدة غالبية هذا الشعب المنكوب في بلادنا لتصطاد شبابنا المعدم وتخرب علينا ديننا وكل أمل بالخلاص ، ويقتدي بها كل من لديه أطماع في بلادنا وحكومات يفترض أنها منّا وتحمينا – في سبيل كراسي ومناصب – ويغدو الدين القيّم الفطري تجارة وكل عصابة إجرامية لها مسمّى ديني متصل بمخابرات ما أو مرتزقة يعملون بالقطع ويمسي لكل نظام مرتزقته!!..
حين يغدو الوطن طوائف والسياسة تأجيج مذهبي بغيض وينشد الغرباء في منازلنا – غرب زمان العرب – وبعضنا يصفق لهم ويؤمن بهم ولا يشعر بالإهانة!..
حين يتباكى البعض على أطفال وهم أنفسهم يقتلون أطفالاً آخرين دون توقف!..
حين يتحول الناس إلى فريقين وكل فئة تقنع نفسها بصواب قناعاتها وتزين الباطل لنفسها، ولا يبحث أحد عن الصواب في زمن الدم المراق!..
حين يسقط في الجريمة من كنّا نراهم أبطالاً.. حين تسقط الأقنعة وتكشف عن وجوه قبيحة متعصبة كنا نراها نبيلة بغاية الجمال.. حين تتكشف الأيام عمن كنّا نظنهم أصحاب قيم أصيلة آمنّا بها وإذا بها سراب!..
حين يصبح الاخوة أعداء والوطن مقبرة والجوع ينشب أنيابه في أرض الخير والهاربون من الحروب مستعبدون في عرض البحار إما يباعون أو طعاماً للسمك!..
أعترف وأقّر بأني عربية حتى نخاع العظم مع سبق الإصرار في زمن تباع فيه العروبة بسوق النخاسة وتتكالب عليها الأمم..
حين يمسي الخونة العملاء أبطالاً والأبطال في غياهب السجون وبطون الأرض!..
حين يهَدد الإسلام في أرضه وتحرق كتبه وتنتخب الراقصات والساقطات أمهات مثاليات ويعلو شأنهن وتغتصب الحرائر وتجري حملات لمنع الحجاب – والاسم محاربة الإرهاب - محاربة الإسلام في بلاد الإسلام!..
حين يمسي الإسلام إرهاباً والشرف عيباً ونقيصة!..
حين يقال في زماننا أن صلاح الدين الأيوبي يحض على الإرهاب وعقبة بن نافع داعشياً وهارون الرشيد زير نساء وطارق بن زياد انفصالياً !!..
حين يعادينا من نتفوه أمامه بكلمة حق وتغدو التهم جاهزة وحين تكمم أفواهنا وتشلّ أقلامنا أمام سطوة الاستقطاب !!..
أمي يا حبيبة قلبي وصديقة عمري وتوأم روحي يا من علمتني أن أعتز بعروبتي وأتنفسها وأتمسك بها .. يا غريبة التراب اقبليني هنا بجوار قبرك أحتمي من هذا العالم وألوذ وإلى أن تضم رفاتك رفاتي غريبتان في تراب غريب عن بلاد الضاد - في زمن الغربة – وقد بات كل العالم غربة موحشة..
ذبحوا فلسطين واغتالوا العروبة يا أمي ويغتالون اليوم الإسلام..
خذيني إليك فأنا أشعر بالبرد ينخر عظامي .. متعبة يا أمي وأحتاج صدرك ولمسة حانية من يديك .. عروبتي جريحة وإنسانيتي ذبيحة يا أمي...
ربما ينبغي لي أن أعتذر لأني أغرق وأبتعد ولكن .. أعتذر لنفسي ومن نفسي أولاً..
والأجدى على هذا الزمن أن يعتذر مني ومن أمثالي.
هدى
مونتريال في 26 نيسان 2015