البصرة وفقا للمصادر العثمانية
البصرة
انضمت البصرة إلى الممالك العثمانية في عام 1538( 945). والواقع أنه قبل هذا التاريخ بأربع سنوات، وخلال استيلاء سليمان القانوني على بغداد ومكوثه فيها أربعة شهور جاء حاكم البصرة راشد بن مغامس بنفسه وقدم عروض الطاعة، لكن إرسال ابنه معن ووزيره مير محمد وقاضي عسكره إلى السلطان الذي كان في أدرنه يستعد لحملة البغدان وتقديم مفاتيح المدينة وقراءة الخطبة وسك النقود باسم السلطان شرط إبقائه واليا على هذه المدينة كان بهذا التاريخ. وتقول المصادر التركية بأن منح الملك سابقا كان بهذه الطريقة وأن البصرة تحولت إلى ولاية في عام 1668(1079) واقتضت الأصول وجرت العادة في تلك الفترة على أن تعطى كافة الأراضي للوالي الذي يلتزم بالواردات البالغة 10 يوك. وأن يعين لهذا المنصب أمير محلي. وفي الأعوام الأولى لم يقصر الأمير راشد في طاعته للدولة، لكنه نقض عهده فيما بعد عندئذ قام والي بغداد أياس باشا بحركة تأديبية ضده في عام 1546(953)، فلاذ راشد بالفرار، وأسندت ولاية البصرة إلى أياس باشا بالإضافة إلى ولاية بغداد. وقد أعقبت حركات التنكيل في أغلب الأحيان تكليف ولاة بغداد بإدارة شئون البصرة فمثلا عندما قضى علي باشا الملقب بالتمرد والي بغداد في عام 1549 (956) على عصيان حاكم الجزائر ابن عليان أسندت ولاية البصرة إلى عهدته.
ومع معاهدة أماسيا التي عقدت مع إيران (1555) ألحقت البصرة بالممالك العثمانية من الناحية الحقوقية أيضا. وأبلغ ولاة الحدود الشرقية ومتوليا البصرة والكوفة بأحكام المعاهدة. وكان الهدف من ذلك وضع حد للجوء عشائر تلك المناطق إلى الصفويين بمختلف الحجج والذرائع. فمن المعروف أن القبائل التي كانت تعارض الحكم العثماني وترتبط بالصفويين بروابط مذهبية كانت تطلب المساعدة من إيران بين حين وآخر. وتمرد ابن عليان في عام 1568(975) بسبب فرض ولاة بغداد والبصرة الضرائب الباهظة على بعض النواحي، وقضاء والي بغداد إسكندر باشا على هذا العصيان بشدة، وكذلك العصيان الذي أعلنه في مناطق البصرة السيد مبارك في عام 1598(1006) من الأدلة الظاهرة على هذه الحقيقة.
وحتى نهاية القرن السادس عشر نجد بين الولاة المعينين على البصرة قباد باشا(1553=960) ودرويش علي باشا(1563=970) وعثمان باشا اوزدمير اوغلى(1567=975) وأحمد باشا الميخاليجي(1587=995) وسنان باشا(1591=999) وعثمان باشا المخصي(1593=1001). والمعروف أنه في عهد قباد باشا قام القبطان الشهير بيري رئيس ببعض التحركات خلال أعماله في المحيط الهندي، ثم جاء إلى البصرة، وبوشاية من هذا الوالي أعدم في القاهرة. وفي عهده أيضا عين القبطان مراد ، وبعد فشله عين السيد علي القبطان(شعبان 961=تموز 554).
وولاة البصرة الذين كانوا تحت قيادة ولاة بغداد لدى حدوث الحملات مع أن البصرة تشكل ولاية مستقلة، لم يبقوا في مناصبهم التي يعينون فيها لقاء العشر مدة طويلة بسبب صراعهم ضد القبائل العربية من مختلف المذاهب. حتى أن بعضه تعرض للحصار. وحسب ما ذكره تافرنيير فإنه جرى اتفاق مع العرب الذين تقدموا حتى مشارف المدينة بأن تكون الصحارى كلها إلى مسافة فرسخ من سلطات الحكومة في البصرة تحت حكم العرب على أن تبقى المدينة نفسها تحت حكم الأتراك. ولكن تعذر تطبيق هذا الاتفاق. وأخيرا باع أحد الولاة منصبه لرجل محلي ذي نفوذ مقابل أربعين ألف قرش، تخلصا من هذا الوضع المضطرب. هذا الرجل الذي يحمل اسم أفراسياب وله نفوذ قوى على أهالي المنطقة جمع قوة مسلحة كبيرة ونجح في تشكيل ما يشبه بالأسرة المالكة المستقلة. وفي عهد هذه الأسرة فتح ميناء البصرة للتجارة الأوربية وجاء إليها البرتغاليون فالهولنديون فالإنجليز ثم الفرنسيون. والأحداث التي جرت في بغداد والأحداث الأخرى خلال الفترة من عهد السلطان أحمد الأول وحتى صدارة الكوبريليين حولت أفراسياب وابنه علي وحفيده حسين باشا إلى ما يشبه بالحكام المستقلين. وعقب استرداد الدولة العثمانية لبغداد دخل ولاة هذه الولاية في صراع ضد الذين الذين يحكمون البصرة بصورة مستقلة. وعلى اثر استيلاء علي باشا على قلعة دكه التابعة لبغداد عام 1645(1055) جهز والي بغداد موسى باشا الصغير قوة تمكن بها من إعادة الوضع إلى عهده السابق. وعلى اثر شكوى محمد باشا والي لحسا تحرك مرتضى باشا والي بغداد بأمر من الحكومة وحاصر قلعة القورنة التي تحصن فيها حسين باشا فاضطره إلى الفرار. ودخل البصرة، لكن الحرص والطمع وسعيه إلى إلحاق البصرة ببغداد أدى إلى ثورة الأهالي والقبائل المجاورة، ففر مرتضى باشا إلى بغداد، وجيء بحسين باشا إلى البصرة بناء على رغبة الأهالي وموافقة الدولة. وبعد هذه الحالة زادت جرأة حسين باشا فقام بعزل محمد باشا من ولاية لحسا وألحقها بالبصرة. ولما لجأ محمد باشا إلى زيد شريف مكة وأبلغ عن طريقه العاصمة بالوضع، تشكلت قوة بقيادة إبراهيم باشا الطويل والي بغداد وأمرت بالسير نحو حسين باشا. أما حسين باشا فقد أبدى مقاومة شديدة في القورنة، كما تلقى دعما من شيخ المنتفك والقبائل الأخرى لكن الاضطرابات أدت إلى استيلاء القبائل العربية المجاورة على البصرة. وأخيرا قبل القائد بتوسط والي ديار بكر إبراهيم باشا الذي كان في معيته من القادة، وعقد اتفاقا مع حسين باشا تقرر بموجبه أن يعطي حسين باشا للدولة خمسمائة كيسة نقدا ومائتي كيسة كل سنة وأن يعلن خضوعه للركاب السلطاني، ويعيد إلى التجار ما سلبه من أموالهم ويترك البصرة لابنه أفراسياب وإعادة محمد باشا واليا على لحسا. وبالرغم من هذه الاتفاقية فإن حسين باشا واصل تصرفاته الاعتباطية، مما أدى إلى أن يعين مكانه مساعده يحيى آغا وتكليف مصطفى باشا الأسود والي بغداد على رأس قوة كبيرة لتنفيذ ذلك. فما كان من حسين باشا إلا أن أرسل أمواله وأفراد أسرته إلى إيران وتحصن بقلعة القورنة ليقاوم، لكنه غلب واضطر إلى الفرار وأسندت ولاية البصرة إلى يحيى باشا. ومنذ هذا التاريخ بدأ حكم البصرة على غرار الولايات الأخرى. وعين مصطفى باشا الأسود ألفا وخمسمائة من الإنكشارية لحماية قلعة البصرة وتم تحرير حوالي ثلاثة آلاف من السكان المحليين وحددت القلاع التي تحتاج إلى الإصلاح والمعدات الحربية وأبلغت استنبول بإمكانية إعمار ولاية البصرة بما يزيد من وارداتها وتأمين رواتب القوات المحلية في ملحقاتها وحاجتها إلى دفتردار ومحرر مستقل.
البصرة في عهد العثمانيين
البصرة الحالية التي فقدت أهميتها بمرور الوقت، ونقلت إلى مكان أبعد شرقا قريبا من ضفاف شط العرب على بعد ثمانية إلى عشرة كيلو مترات من البصرة القديمة، لكنها إلى الغرب من شط العرب وعلى بعد ثلاثة كيلو مترات منه، تمتد من شط العرب إلى الغرب في ثلاث قنوات متوازية نهر الخندق في الشمال ونهر العشار في الوسط ونهر الهورة في الجنوب. وبعد مرورها بين أشجار النخيل والبساتين وانقسامها إلى العديد من القنوات حتى مدينة البصرة الحالية، تعود فتتحد غرب المدينة، والملاحة النهرية في نهر العشار وهو الأهم بين هذه الأنهار وكذلك الاسم الذي يطلق على ميناء البصرة الأصلي في مكان التقائه بشط العرب وفي القنوات الأخرى وخاصة وقت المد يكون بالسفن التي تعرف بـ"بلم" ويتراوح طولها بين ثمانية وعشرة أمتار.
ليس لدينا معلومات تبين وضع المدينة في القرن السادس عشر. وإذا كان ما قاله كاتب جلبي عن قلعة زكية في هذه المنطقة بأنها كانت في وقت من الأوقات" عاصمة آل مشعشع" صحيحا ( جهاننما، المكان المشار إليه) فمن الممكن أن نفترض بأن البصرة في هذه الفترة على غرار مدن العراق الصغيرة، ونقبل بافتقادها لكثير من الأشياء التي نعرف وجودها في القرن السابع عشر. وتافرنيير الذي قام بزيارته الأولى إلى هذه المدينة عام 1639(Le Six voyages en Tutrquie, en Perse et aux Indes,Paris,1677,I,213 V.dd.) يقول بأن البصرة أطول من فرسخ وجميع أبنيتها من الأحجار المنحوتة. وأن سورا أبقت القنوات في الشمال والجنوب تحيط بالمدينة على شكل مستطيل، وأن هذا الجدار تم مده حتى شط العرب في أواسط القرن السابع عشر من قبل حسين باشا الذي حصن القورنة وأقام سورا ثانيا هناك. وجرى توسيع البصرة بضم الكثير من الحدائق والبساتين إلى داخل المدينة. فحفيد أفراسياب الذي اهتم بهذه المدينة وصرف جهده من أجلها، قام أيضا بتحصين حي المناوي في مكان وجود عشار الحالي بجانب الشط وأمر بإنشاء قصر له فيه، وسنرى كيف انسحب أخيرا إلى هذا المكان في صراعه مع والي بغداد، ودافع ضد هجماته.
أمر حسين باشا ببناء مسجد كبير في البصرة، فكان أكبر جوامع المدينة حتى القرن الثامن عشر. لكن الجامع الذي بناه عزيز آغا المتسلم في القرن التاسع عشر وهو من عبيد داود باشا ومن بناء حجري فاق عليه بجمال منظره. وقد أدى إعطاء حريات وصلاحيات واسعة للنصارى وخاصة للأوربيين منهم في عهد أفراسياب ومن جاء بعده من أبنائه وزيادة أهمية البصرة تجاريا تبعا لذلك، ولتوريد التجار الهولنديين والإنجليز والهنود كميات كبيرة من البضائع إلى هذه المدينة كل عام إلى إنشاء مستودعات وخانات، وخصصت من أجل ذلك أحياء مقام علي في الضفة الشمالية من المناوي ونهر العشار مقابل الشط وقلعة قبان قبالة مقام علي. ومع ذلك يمكننا أن نقول في هذا الشأن بأنه تمت الاستفادة أيضا من قلعة كردالان إلى الجانب الأيسر من الشط وجنوب قبان قبالة المناوي ( قارن، قوردالان ، سياحتنامهء حدود، مكتبة بايزيد، مخطوط باللغة التركية رقم 4935، و بوغوردلان، جهاننما) (وخلال سيطرة الإيرانيين على البصرة لأول مرة( 1696-1700) أنشأوا فيها قلعة أخرى، وضع فيها بعد استرداد المدينة لحمايتها مائة من الانكشارية ومدفعان) من جهة أخرى وفي القرن الثامن عشر قدم إلى المدينة أعداد كبيرة من التجار من استنبول وإزمير وحلب والشام ومصر ومن المدن الكبرى الأخرى في الإمبراطورية لتبادل السلع مع التجار الأوربيين كما أن قسما منهم نقل بضائعه عبر نهر دجلة بالرغم من الصعوبات والمصاريف الباهظة Niebuhr,Voyage) en Arabie,Amsterdam,1780,II,172 v.d) .
وفي القرن السابع عشر كانت الرسوم الجمركية بالنسبة للجميع 5%، ولكن تدفع أيضا لأمير الأمراء نسبة 4% من الرسوم. هذه الرسوم التي يأخذها من مبيعات الجمال والتمر تحقق له دخلا كبيرا في العام الواحد. وأخيرا أصبحت رسوم الجمارك على الأوربيين 3% وعلى الأمم الأخرى 7% (Niebuhr, نفس المكان).
وفي القرن الثامن عشر كانت البصرة مدينة داخل سور له خمسة أبواب، تتشكل من سبعين حيا وعدد سكانها ما بين 40و50 ألفا. ويقع بابان من هذه الأبواب في الجانب الشمالي وهما دروازة الرباط أو باب الرباط وباب بغداد. وأما الأبواب الثلاثة الأخرى فتقع في الجانب الغربي والجنوبي وهي دروازة الزبير أو باب الزبير ودروازة الشراجي ودروازة المجموعة. والبصرة التي تحوي المناوي ومقام علي، وأحياء بأسماء كثير من الشيوخ بالإضافة إلى محلة الأفغان ومحلة اليهود- من أحياء صغيرة وكبيرة يتراوح عدد بيوتها بين 10-20 وبين 300-400 بيتا- كانت في هذه الفترة كما ذكرها نييبوهر قد فقدت أهميتها. والمبنى الذي سبق أن أقام فيه أمير الأمرالء ثم سكن فيها المتسلم على ضفة نهر عشار. وأقيمت بجانبيها وكالات تجارية فرنسية وإنجليزية. بينما كان الباشا القبطان يقيم في المناوي( نفس المصدر) والباشا القبطان المعين من قبل استنبول وتحت إمرته ما بين 50-60 من الزوارق، لا تنحصر مهمته على ضمان الأمن في نهري دجلة والفرات، بل يحمي أيضا خليج البصرة المفتوحة على القراصنة. واحتياجات الباشا القبطان وهذا الأسطول تغطيها الواردة المرسلة من الأقضية الكبيرة التابعة لولايتي بغداد والبصرة. وخلال الفترات التي أصبح الحكم بيد ولاة بغداد وصارت البصرة تدار من قبل متسلم، صارت الواردات ترسل إلى الولاة وأصبح "الباشوات القباطنة " بمنزلة الموظفين لديهم، يتلقون أوامرهم من ولاة بغداد على غرار المتسلمين. ومن الطبيعي أيضا أن يتعرض الأسطول في هذه الفترة إلى الانكماش والتآكل كما وكيفا.
وكان في البصرة إلى جانب المتسلم ومدير المال التابع لوالي بغداد مسئول عن الجمارك ورجل قوي النفوذ يعرف بين السكان المحليين باسم"أجلّ البلد" وكان عضوا في الديوان لا يقطع المتسلم بأمر إلا بعد أخذ رأيه وموافقته. كما كان هناك قاض معين من قبل استنبول أو نائبه ونقيب للأشراف الذي يتبعه كافة العلماء والأسياد والأشراف، ومفتي الأحناف وهو منصب وراثي يتبعه الجميع. ثم استحدث منصب مفتي الشافعية اعتبارا من عهد سليمان باشا الكبير. وبعد احتلال الإيرانيين قدم الشيعة أيضا إلى البصرة، وبعد فترة ارتفعت نسبة السنة إلى 30% وفي أواخر القرن التاسع عشر ارتفعت هذه النسبة إلى 50% (سالنامة البصرة، 1309) ومع عدم تشكيلهم الوسط كان في البصرة الانكشارية أيضا. لكن أغوات الفصائل كانوا بقلعة القورنة بشكل عام. وعلى نحو ما كان في مركز الدولة فإن هذه المؤسسة العسكرية اعتراها الفساد في البصرة أيضا وجند المتسلم كثيرا من المجرمين والحرامية على أنهم من القوات المحلية لتحقيق أغراضه الشخصية. ومع ذلك فإن الحرفيين أيضا كانوا ينضمون إلى هذه المنظمة كيلا يتعرضوا للاعتداء والنهب.
وكما كانت في السابق فإن البصرة بعد دخولها تحت الحكم العثمانية تعرضت بين حين وآخر لاعتداءات القبائل المجاورة وخاصة اثنتين منها وهما قبيلة كعب وقبيلة المنتفك. وكانت هذه الاعتداءات تستهدف أكثر ما تستهدف أشجار النخيل الشهيرة في البصرة التي تزيد عن عشرين نوعا، وكذلك سفن التجار التي تمر من شط العرب. فكانت قبيلة كعب تجبر السفن المحملة بالبن على دفع ضريبة عالية لدى مجيئها، وتجبرها على شراء تمرها لدى عودتها، حتى إن شيخ هذه القبيلة أوقف في عام 1765 عددا من السفن الإنجليزية وأوقع بعض الحوادث. وكان أتباع هذه القبيلة خلال الحكومات الضعيفة يقومون بأعمال النهب، ويدخلون في صراع مع قبيلة المنتفك التي تعتبر نفسها صديقة للبصريين لكنها في حقيقة الأمر ترى أن أشجار النخيل هي ملكها بسبب تفويض مقاطعتها لشيخ هذه القبيلة(Niebuhr, نفس المصدر ص 191، و Hurat ، نفس المصدر ص 149) كما كانت قبيلة المنتفك تعترض طريق السفن المتجهة إلى بغداد وتأخذ منها الأتاوات. وفي الحقيقة فإنه بسبب عدم الأمان كانت السفن تبحر في مجموعات تصل إلى ما بين مائة وخمسين ومائتي سفينة لكنها تدفع للقبائل في 13 نقطة ضرائب تعرف بالخوة( سالنامة البصرة، 1308) ومنذ القرن السابع عشر أعطيت مزارع النخيل لشيخ قبيلة المنتفك على شكل مقاطعة. ولأسباب اقتصادية وإدارية صارت هذه القبيلة تدعي بحق لها على البصرة. ولذلك صاروا يعلنون التمرد والعصيان بين فترة وأخرى. فإذا ما تعرضوا للملاحقة هدموا السواقي التي تعرف بسدود الجزائر على نهر الفرات ولجأوا إلى الأهوار التي تتشكل نتيجة غمر المياه لهذه المناطق، وبذلك يصعب القيام بعمليات ضدهم بل ويستحيل في بعض الأحيان. وأخيرا استطاع والي بغداد رشيد باشا أبو نظارة من انتزاع قسم من هذه المقاطعة من يد المنتفك وجعلها تحت سلطة الحكومة( 1273=1856/1857) كما انتزع والي بغداد نامق باشا القسم المتبقي لديهم وجعلها في أموال الخزينة تحت إشراف متسلمي البصرة(1282=1865/1866) وفي النصف الأول من القرن التاسع عشر شهدت البصرة مزيدا من التراجع والتأخر وانخفض عدد سكانها كثيرا بسبب انتشار الوباء بصورة متكررة وزيادة نسبة الإصابات بالحمى بسبب المستنقعات. ففي النصف الأول من هذا القرن نجد عدد بيوت البصرة ألفين ستمائة منها مبينة من الإسمنت والباقي من سعف النخيل التي تعرف بالشرفة، وعدد سكانها لا يتجاوز عشرة آلاف( محمد خورشيد، نفس المصدر ، ص 5)
ومع ذلك فإن البصرة في النصف الثاني من هذا القرن عادت إلى التطور والتوسع شيئا فشيئا بفضل فتح قناة السويس وتطور تجارة بحر الهند والخليج من خلال الظروف الجديدة من جهة، وتقوية نفوذ الدولة في المنطقة خاصة أثناء ولاية مدحت باشا وترسيخ الأمن وتزايد النشاط العمراني في المدينة تبعا لذلك،. والمصادر المتعلقة بهذه الفترة تقول بأن عدد سكان المدينة يتراوح بين ثمانية عشرة ألفا(حسب V.Cuinet) وستين ألفا. ولعل هذا الرقم الأخير فيه بعض المبالغة. فلم يكن بميناء البصرة في السابق سوى عدد من الخيام والبراكات وبعض المباني الخربة. ولكن منذ النجاح الأول لمدحت باشا فيما يتعلق بعمران البصرة، تأسست خلال فترة قصيرة ثكنة ومستشفى وحوض لصناعة السفن وغيرها من المباني الكبيرة بالإضافة إلى حي جديد. كما أسس مدحت باشا "الإدارة النهرية" لمنافسة السفن الإنجليزية، ونجح أيضا في إنشاء إدارات للسفن عرفت بـ" عمان عثماني" لتشغيل السفن بين استنبول والبصرة عبر قناة السويس التي فتحت حديثا.
وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانت أراضي البصرة مثلها مثل كافة أراضي العراق، تشكل جزءا من أيالة(ثم ولاية ) بغداد. وبعد انفصال مدحت باشا حكمت على أنها ولاية تارة ومتصرفية تارة أخرى. وفي عام 1884 باتت ولاية بصورة نهائية بحيث تشمل العراق الأسفل كله وتمتد نظريا على أقل تقدير في الساحل الشرقي لخليج البصرة حتى مسافات بعيدة وبصورة غير محددة لهذا الساحل.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|