الحديث عن سيدنا عثمان بن عفان ،ثالث الخلفاء الراشدين ،يثير أسى ،وألماً ، ويتطلب حيطة وحذراً شديدين في تناول أخباره .
فهو ثالث الخلفاء الراشدين ،وأحد العشرة المبشرين بالجنة ،ومن السابقين إلى الإسلام: دعاه أبو بكر الصديق إلى الإسلام ،وكان ناهز الرابعة والثلاثين من عمره ،فكان رابع من أسلم من الرجال، ( فأوذي بسبب إسلامه ،على يد عمه الحكم بن أبي العاص ،ولما رأى عمه صلابته في دينه تركه).
وهو صهر الرسول صلى الله عليه وسلم وابن عمته،(تزوج ابنة الرسول رقية سنة 3 هجرية ،ولما توفيت تزوج أختها أم كلثوم سنة 9 هجرية,فلُقب بذي النورين.
ويجتمع نسبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم من طرف كلا والديه: فجده الرابع "عبد مناف" هو الجد الثالث للرسول صلى الله عليه وسلم .
وأمه: أروى بنت كريز ،أمها: أم حكيم ،واسمها البيضاء، بنت عبد المطلب ،عمة الرسول صلى الله عليه وسلم. وأم أم حكيم: فاطمة بنت عمرو المخزومية جدة الرسول عليه الصلاة والسلام).
وهو ممن هاجر إلى أرض الحبشة الهجرتين مع زوجته رقية:
الهجرة الأولى ،وكانت في رجب سنة 5 هجرية ،وكانوا ستة عشر فرداً:
اثني عشر رجلاً وأربع نسوة ،وظلوا في الحبشة ثلاثة أشهر.
والهجرة الثانية ،وكانت في المحرم من نفس السنة سنة 5 هجرية ،وكانوا ثلاثة وثمانون رجلاً وثمانية عشرة امرأة أو تسع عشر امرأة .(لكن المدقق في قائمة ابن هشام يجد أن عدد المسلمين في الحبشة كان 78 رجلاً و17 امرأة و8 من الأبناء فيكون عدد المهاجرين 103 وهذا هو الصواب، فابن هشام إنما هذب سيرة ابن إسحاق (إسحاق محمد بن إسحاق المطلبي80 هجرية- 151 هجرية) وهو يروي عن أهل المدينة،وأهل البلد أعرف بتاريخهم).
** ** **
لكن أخذ على عثمان في خلافته الأمور التالية:
إيثار أقربائه بإسناد الولايات إليهم وعزل كبار الصحابة عنها وتولية الأحداث منهم ومنحهم الأموال :
فولَّى الوليد بن عقبة ( ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخو عثمان من أمه ) إمارة الكوفة سنة 25 هجرية.
وردَّ عمه الحكم بن أبي العاص(المتوفى سنة 31 هجرية وهو أيضاً عم أبي سفيان) بعد أن نفاه النبي صلى الله عليه وسلم.
وأعطى ابن عمه مروان بن الحكم (ت :65 هجرية)صدقة فدك ومائة ألف درهم .
وأعطى ابن أبي سرح (عبد الله بن أبي سرح العامري ،أخو عثمان من الرضاعة ،ت:59 هجرية) خمس أخماس غنيمة إفريقية.
وضرب عمار بن ياسر حتى تفقت أعضاؤه ،وابن مسعود حتى كسرت أضلاعه ،ونفى أباذر إلى الربذة.
وترك القصاص من عبيد الله بن عمر حين قتل الهرمزان في حادثة مقتل عمر بن الخطاب .
** ** **
وتكفلت بالرد على هذه الأقوال سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما .ففي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولَّى عمرو بن العاص قيادة الجيش في غزوة ذات السلاسل سنة 8 هجرية ولم يمض على إسلامه أربعة أشهر ،وكان في جند ذلك الجيش أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب.
وكان عمرو سأل النبي صلى الله عليه وسلم :من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة. قال: من الرجال؟ قال أبوها. قال: ثم من؟ قال: عمر بن الخطاب، حتى عدَّ رجالاً لم يذكر فيهم عمرو.
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ردَّ أبا ذر رضي الله عنه ولم يرغب أن يوليه، لعلمه أنه لا يستطيع أن يتحمل أعباء الإمارة، فقال له: يا أبا ذر أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم.
وأبى أبو بكرالصديق أن يعزل خالد بن الوليد (خشية افتنان الناس فيه ونَسْبِ النصر إليه )،محتجاً لعدم عزله بقوته ومقدرته على إدارة الجيوش ،فقال: لا أشيم سيفاً سله الله على المشركين.
وكان عمر بن الخطاب يولي الرجل ويترك من هو أفضل منه من أهل السابقة والفضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ينظر إلى استطاعته ضبط العمل ونفاذ بصيرته في التدبير والسياسة.
وإذا كانت هذه سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم والشيخين من بعده، فأي عيب يلحق عثمان في أن يسير على نهجها ؟
أو ليس له من حقوق الخلافة والإمامة العظمى مثل ما كان لصاحبيه أبي بكر وعمر؟
وما الذي يبقى له من معنى السلطان إذا حُجر عليه عزل أمير وتولية آخر مراعاة للمصلحة التي يجتهد فيها الخليفة ؟
بل من العجب أن يُنكر على عثمان عنه تولية أقاربه بينما ولَّى علي بن أبي طالب أقاربه، ولم ينكر ذلك عليه أحد (ولَّى عبد الله بن عباس على البصرة، وولَّى عبيد الله بن عباس على اليمن، وولَّى على مكة والطائف قثم بن عباس ، وولَّى على مصر ربيبه محمد بن أبي بكر الذي رباه في حجره، وولَّى على المدينةثمامة بن عباس).
وكان رسول الله يستعمل بنو أمية في حياته، واستعملهم بعده أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب ،ولا تُعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من بني عبد شمس بنو أمية ،لأنهم كانوا كثيرين ،وكان فيهم شرف وسؤود: فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة سنة ثمان عتاب بن أسيد بن أبي العاص وهو شاب في نحو العشرين من العمر، واستعمل على نجران أبا سفيان ، واستعمل خالد بن سعيد بن العاص على صدقات مذحج وعلى صنعاء اليمن ولم يزل والياً عليها حتى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم .واستعمل عثمان بن سعيد بن العاص على تيماء وخيبر وقرى عربية ،واستعمل أبان بن سعيد بن العاص على بعض السرايا ثم استعمله على البحرين .
ولهذا قال عثمان: أنا لم أستعمل إلا من استعمله النبي صلى الله عليه وسلم ومن جنسهم ومن قبيلتهم.
وكذلك كان أبو بكر وعمر ،فولَّى أبو بكر معاوية بن سفيان في فتوح الشام، وأقره عمر.
وهذا النقل في استعمال هؤلاء ثابت مشهور، بل متواتر عند أهل العلم.
ويمكن القول إن أبرز العمال الذين ولاهم عثمان رضي الله عنه من أقاربه قد أثبتوا الكفاية والمقدرة في إدارة شؤون ولاياتهم، وفتح الله على أيديهم الكثير من البلدان ،وساروا في الرعية سيرة العدل والإحسان.
قال الإمام الذهبي: عبد الله بن ابي سرح لم يتعد ولا فعل ما ينقم عليه ،وكان أحد عقلاء الرجال وأجوادهم.
أما الوليد بن عقبة في الكوفة، فهو أحد عمال الخليفة الصديق رضي الله عنه، والواسطة بين الخليفة وبين خالد بن الوليد في نقل الرسائل الحربية في وقعة المذار عام12 هجرية.كما وجهه أبو بكر رضي الله عنه بعد ذلك مدداً لقائده عياض بن غنم .ثم ولاه عمر رضي الله عنه على صدقات بني تغلب ،وكان على عرب الجزيرة عاملا له .أما قولهم شرب الوليد الخمر وهو وال على الكوفة من قبل عثمان ،فهو مع عدم ثبوته تاريخياً، ليس مأخذاً على عثمان ،بل هو من مناقب عثمان رضي الله عنه أن أقام عليه الحد وعزله عن الكوفة ,ولذلك ذكر الإمام البخاري هذه الحادثة في باب مناقب عثمان ،ومنه قول علي : إنكم وما تعيرون به عثمان كالطاعن نفسه ليقتل ردءه ! ما ذنب عثمان في رجل قد ضربه بفعله وعزله عن عمله .
وسعيد بن العاص ولاه عثمان على الكوفة بعد أن عزل الوليد عنها، وكان من فصحاء قريش، وممن انتدب لكتابة القرآن. قال ابن أبي داود في المصاحف40: إن عربية القرآن أقيمت على لسان سعيد بن العاص، لأنه كان أشبههم لهجة برسول الله صلى الله عليه وسلم .وحين ولي الكوفة غزا طبرستان ففتحها، وغزا جرجان، وكان مشهوراً بالبر والكرم ،وقال الإمام الذهبي :وكان أميراً شريفاً، جواداً ممدحا،ً حليماً وقوراً، ذا حزم وعقل، يصلح للخلافة.
وقول المخالفين: استعمل سعيد بن العاص على الكوفة وظهر منه ما أدى إلى أن أخرجه أهل الكوفة ،فالرد عليه إن مجرد إخراج الكوفة له لا يدل على ذنب يوجب ذلك ،ومن عرف الكوفة وسبر أحوالها، عرف كثرة تشكي أهلها من ولاتهم بلا مبرر شرعي حتى قال فيهم عمر بن الخطاب: أعياني وأعضل بي أهل الكوفة ،ما يرضون أحداً ولا يرضى بهم ،ولا يصلحون ولا يصلح عليهم.
ودعا عليهم فقال: اللهم إنهم قد لبسوا عليَّ فلبس عليهم. .وعبد الله بن عامر بن كريز ولاه عثمان رضي الله عنه على البصرة وهو فاتح خراسان كلها وأطراف فارس وسجستان وكرمان وغيرها من البلدان ،حتى بلغ أعمال غزنة .وفي إمارته قتل يزدجرد آخر ملوك الفرس ،وهو الذي شق نهر البصرة ،وأول من اتخذ الحياض بعرفات وأجرى إليها العين.وقال الإمام الذهبي: وكان من كبار أمراء العرب وشجعانهم وأجوادهم،وكان فيه رفق وحلم . وأما استعمال الأحداث، فكان لعثمان رضي الله عنه في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة: فقد جهز الرسول صلى الله عليه وسلم جيشاً لغزو الروم في آخر حياته واستعمل عليه أسامة بن زيد وسنه دون العشرين ،وكان في جنده كبار الصحابة ومنهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وعندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تمسك الصديق رضي الله عنه بإنفاذ هذا الجيش .
فأقارب عثمان تقلَّد أغلبهم مهام الولاية في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، وكانوا أهل نجدة وكفاية وبصر بالإمارة وقدرة عليها، فلا يعتد بكلام أهل الأهواء فيهم .والكلام في الناس ينبغي أن يقوم على موازين التثبت والعدل والإنصاف.
أما قول المخالفين بأن عثمان كان يمنح أقاربه المال فيمكن القول بأن سيرته رضي الله عنه في أقاربه وذويه تمثل جانباً من جوانب الإسلام الكريمة:
قال تعالى:(قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) الشورى 23، وقوله جل ثناؤه:( وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل) الإسراء 26.
وثبت فيما صح من الأخبار: أن الناس أصابوا في عهد عثمان خيراً كثيراً وفيئاَ عظيماً ،ولوحظ أن عثمان كان قبل أن يلي الخلافة شديد البر بقرابته كثير البذل لهم وللمسلمين ،وقال: لقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرغيبة من صلب مالي أزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي ،وفني عمرى، وودعت الذي لي في أهلي قال الملحدون ما قالوا !
وقال:" فبسطت يدي في شيء من ذلك لما أقوم به فيه"، وفيه إشارة إلى أنه كان يتولى منصب الخلافة ويقوم على أمور المسلمين احتساباً دون مقابل بينما كان صاحباه أبو بكر وعمر يأخذان ما فيه حد الكفاية لأنفسهما وعيالهما من بيت المال. وهذا من باب الاجتهاد والتأويل السائغ، لأن الإمام من العاملين على المال والعامل يستحق مع الغنى.
وأما رد الحكم فيقول فيه ابن العربي : لم يصح زعم البغاة من أن عثمان خالف فيه مقتضى الشرع ،وقال علماؤنا في جوابه :قد كان أذن له فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عثمان لأبي بكر وعمر فقالا له: إن كان معك شاهد رددناه .فلما ولي الخلافة قضى بعلمه في رده ،وما كان عثمان ليصل مهجور رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان أباه ولا لينقض حكمه (العواصم من القواصم).
ونقول:إذا كان حكم النفي والتغريب وارداً في حق الزاني غير المحصن والمخنثين ،تعزيراً لهم وتأديباً،فهل تجيز الشريعة أن يبقى (المذنب) منفياً طوال الزمان ؟
وأما ما نسب إلى عثمان رضي الله عنه من أنه أقطع مروان بن الحكم فدك ومنحه مائة ألف درهم من أموال إفريقية فكان من الأكاذيب المختلقة عليه .
وما قيل عن منحه مائة ألف درهم لمروان ،فلا يصح بهذا الشكل ،ويحتاج إلى نظر، وحقيقة هذا الامر: أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح غزا إفريقية وفتحها وغنم منها غنائم كثيرة قسمها على جنده وأخرج الخمس من الذهب فكان خمسمائة ألف دينار ،فأنفذه إلى الخليفة ،وبقي من الخمس أصناف لا يستطاع نقلها إلى عاصمة الخلافة ،فاشتراها مروان بمائة ألف درهم، ونقد أكثرها. ولما وصل إلى الخليفة موفداً ببشرى الفتح وهب له عثمان ما بقي في ذمته وكان شيئاً قليلاً جزاء بشارته حيث كانت قلوب المسلمين مشغولة بهذا الفتح لبعد الشقة فيه.
وما نسب إليه من أشياء استحدثها وخالف بها من سبقه في زعمهم ،كجمعه القرآن في مصحف واحد ،واتخاذه الحمى ،وإتمامه الصلاة بمنى ،وإتمامه سنة القصر في الصلوات الخمس، وزيادة الأذان الثاني يوم الجمعة ،وترك القصاص من عبيد الله بن عمر قاتل الهرمزان.
فإحراقه المصاحف وجمع الناس على مصحف واحد، يعتبره العلماء العارفون منقبة لعثمان، لأنه حسم مادة الخلاف بين المسلمين وجمعهم على مصحف واحد. يقول ابن العربي: وأما جمع القرآن فتلك حسنته العظمى وخصلته الكبرى، وحَسْم مادة الخلاف فيها، وكان نفوذٌ وَعَد اللهُ بحفظ القرآن على يديه حسبما بيناه في كتب القرآن وغيرها(العواصم من القواصم 108). وفوق هذا لم يكن هذا العمل تصرفاً فردياً من عثمان بل كان رأي كثير من الصحابة الذين رأوا جميعاًرأي حذيفة وأعجبهم هذا العمل الجليل ،وفي ذلك يقول عثمان:" إنما أنا في ذلك تابع لهؤلاء" أي الصحابة.
أما كونه حمى الحمى فقال عثمان: ،ما لي اليوم من بعير غير راحلتين ،وما لي ثاغية ولا راغية، وإني قد وليت وإني أكثر العرب بعيراً وشاء، فما لي اليوم شاة ولا بعير غير بعيرين لحجي.
وأخرج البخاري،من حديث الصعب بن جثامة الليثي،أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا حمى إلا لله ورسوله . وقال: حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع. وثبت عن عمر رضي الله عنه أنه حمى أيضا النقيع لخيل المسلمين ،وحمى الربذة، والسرف لإبل الصدقة.
وقال علي :أما الحمى فإنما حماه عثمان لإبل الصدقة لتسمن، ولم يحمه لإبله ولا لغنمه ،وقد حماه عمر من قبله.
أما إتمام عثمان رضي الله عنه الصلاة بمنى فهو أمر ثابت: أخرج الإمام البخاري من طريق ابن عمر رضي الله عنهما قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وأبي بكر وعمر ومع عثمان صدراً من إمارته ثم أتمها. وفي رواية ابن عساكر يعلل عثمان ذلك بقوله: أيها الناس إني تأهلت بمكة منذ قدمت ،وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من تأهل في بلد، فليصل صلاة المقيم وفي رواية أخرى: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا تزوج الرجل ببلد فهو من أهله، وإنما أتممت لأني تزوجت منذ قدمته.
وإتمام الصلاة في السفر،وارد عن جمع من الصحابة : منها السيدة عائشة ،وسلمان الفارسي،وأربعة عشر صحابياً.
أما قولهم إنه زاد الأذان الثاني يوم الجمعة وهو بدعة ، فيجاب على ذلك بأن سنة الخلفاء الراشدين من سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق ذكره ،وروى الإمام البخاري من طريق السائب بن يزيد، أن عثمان رضي الله عنه زاد الأذان الثاني في خلافته لما كثر الناس بالمدينة . فعُلم بذلك أن المصلحة اقتضت زيادة الأذان الثاني ليعم الإخبار، نظراً لاتساع المدينة وكثرة من فيها ،وإلاَّ لو كان الأمر خلاف السنة لأنكر عليه كبار الصحابة وهم موجودون في المدينة .كما أن علياًّ رضي الله عنه لم يأمر بإزالة هذا الأذان لما صار خليفة.
وزعم الخارجة أن عثمان بدأ خلافته بترك إقامة الحد قصاصاً من عبيد الله بن عمر لقتله الهرمزان, وذلك في زعمهم تعطيل لحد من حدود الله،والمتأمل في هذه الحادثة سيرى أن عثمان رضي الله عنه لم يداهن في حد من حدود الله ،وإنما عرض الأمر على الصحابة رضوان الله عليهم للمشاورة، وأخذ برأي الأغلبية من الصحابة ،ورأى أن تسكين الفتنة وتهدئة النفوس أرجح للمصلحة، فتعهد بإرضاء أهل الهرمزان وقال: "أنا وليهم، وقد جعلتها دية في مالي" فاحتملها من ماله رضي الله عنه .ويعقب ابن كثير على هذا الموقف بقوله: والإمام يرى الأصلح في ذلك.
وأما قصة نفي أبي ذر الغفاري إلى الربذة فيوضحه حديث زيد بن وهب في صحيح البخاري 162 ،قال:
مررت بالربذة، فإذا أنا بأبي ذر، قلت: ما أنزلك هذا! قال: كنت ،بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في قوله تعالى :(والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) التوبة 34 فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت :نزلت فينا وفيهم. وكان بيني وبينه في ذلك، فكتب إلى عثمان يشكوني ،فكتب إليَّ عثمان أن اقدم المدينة. فقدمتها فكثر عليَّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان فقال: إن شئت تنحيت. فكنت قريباً، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمَّروا عليَّ حبشياً لسمعت وأطعت . وهي صورة واضحة عن حقيقة هذا الحادث الذي لعبت فيه الأهواء وتزيد فيه المغرضون.
وقولهم إنَّ عثمان ضرب عمارا حتى فتق أمعاءه ووطأ ابن مسعود حتى أصابه الفتق، فيعلق ابن العربي على هذه الحوادث المفتعلة بقوله: وأما ضربه لابن مسعود ومنعه عطاءه فزور، وضربه لعمار إفك مثله، ولو فتق أمعاءه ما عاش أبداً. وقد اعتذر عن ذلك العلماء بوجوه لا ينبغي أن يُشْتغل بها، لأنها مبنية على باطل، ولا يبنى حق على باطل ،ولا نذهب الزمان في مماشاة الجهال، فإن ذلك لا آخر له (العواصم من القواصم 187). وقصة عمار في حقيقتها تحدَّث بها عثمان نفسه فيما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه،قال:جاء سعد وعمار فأرسلت إليهما، فانصرف سعد وأبى عمار أن ينصرف ،فتناوله رسولي من غير أمري. فوالله ما أمرت ولا رضيت،وهذه يدي لعمار فليقتص ( العواصم من القواصم 188) ففي هذه الرواية ما يكشف عن وجه الحق في موقف عثمان رضي الله عنه وهي أن رسول عثمان تناول عماراً بغير إذن عثمان ولا رضاه،فما ذنب عثمان في ذلك وما حيلته ،وحلف -وهو البر الصادق حين عوتب- أنه ما أمر بتناول عمار ولا رضي بذلك، بل كرهه،وأسرع إلى إرضائه بقوله:" وهذه يدي لعمار فليقتص مني إن شاء" وفي ذلك تقدير لعمار لأنه كافأه بنفسه إذ جعل القصاص منه، ولم يجعله من رسوله إلى عمار ،مع العلم ،أنَّ للخليفة حقَّ تأديب من شاء من رعيته، لا يقدح ذلك فيمن ناله أدب الخليفة ،كما أن الخليفة غير متهم فيمن أدَّب ،فهو أبعد ما يكون عن الهوى ،وأوْلى بالعلم والعدل فيمن أدَّبهم، فهو إمام مأمور بتقويم الرعية.
وما اعترض عليه في أحواله الشخصية مثل تغيبه يوم بدر وفراره في أحد وعدم شهوده بيعة الرضوان، فردَّ على هذه الاعتراضات عبد الله بن عمر في نص صحيح رواه الإمام البخاري من حديث عثمان بن موهب 198 ،قال: جاء رجل من أهل مصر حجَّ البيت، فرأى قوماً جلوساً، فقال :من هؤلاء القوم؟ قالوا: هؤلاء قريش. قال: فمن الشيخ فيهم؟ قالوا: عبد الله بن عمر. قال: يا ابن عمر، إني سائلك عن شيء، فحدثني عنه: هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد؟ قال: نعم. فقال: هل تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهد؟ قال: نعم. قال: هل تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان؟ قال: نعم .قال: الله أكبر. قال ابن عمر: تعال أبين لك: أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له ،وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه ،وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحدٌ أعزَّ ببطن مكة من عثمان، لبعثه مكانه، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: هذه يد عثمان، وضرب بها على يده، وقال: هذه لعثمان.
** ** **
والحديث عن عثمان لم ينته ،ولنا كلام عن وفاته واستشهاده رضي الله عنه،ودور اليهود في ذلك.