الأستاذة الأديبة هدى الخطيب،أخي الأستاذ سليمان الراجحي:
إن حادثة التحكيم التي وقعت بين سيدنا علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وماسبقتها وماتبعها من أحداث، جعلت للمبتدعة ميداناً لنشر الخلاف والفرقة، وكان من أعظم تلك الوسائل: نشر الروايات الباطلة التي تصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بطالبي الدنيا ،أو(بالمغفلين) !
فإذا أردنا إعادة قراءة التاريخ ،كان لزاماً أن نأخذ الأخبار من مصادرها الموثوقة ،(مع العلم أنَّ كثيراً من علماء التراجم والسير ذكروا الروايات بأسانيدها، فمنهم من
بيَّن مواطن الضعف في الرجال إن كانت ضعيفة،وصحح الرواية إن كانت صحيحة، ومنهم من اكتفى بذكر السند - وفي هذه الحالة لابد من تتبع رجالات الإسناد من كتب
الرجال للتحقق من صحة الخبر- ) .
وتعتبر الكتب التالية من أهم المصادر التاريخية،(وهي حسب وفيات المؤلفين):
1- الطبقات الكبرى لابن سعد (محمد بن سعد البغدادي: 168هجرية - 230 هجرية) ويعد من أقدم المصادر التاريخية ،ومؤلفه يذكر الروايات بإسنادها،لكن فيه بعض
الروايات التي لا تصح .
2- تاريخ خليفة بن خياط (العصفري،ت: 240هجرية) ومروياته التي في الفتن سليمة.
3- كتب السنن المعتمدة:
صحيح البخاري (محمد بن إسماعيل: 194 هجرية - 256 هجرية).
صحيح مسلم (مسلم بن الحجاج النيسابوري: 206 هجرية- 261 هجرية).
سنن ابن ماجة (محمد بن يزيد القزويني: 209 هجرية- 273 هجرية).
سنن أبو داود( سليمان بن الأشعث السجستاني: 202 هجرية- 275 هجرية).
سنن الترمذي( محمد بن عيسى: 210 هجرية- 279هجرية).
سنن النسائي(أحمد بن شعيب: 215 هجرية- 330 هجرية).
سنن الدارقطني (علي بن عمر: 306 هجرية- 385 هجرية).
ولم يلتزم بالحديث الصحيح إلا الإمام البخاري والإمام مسلم.
4- مسانيد الحديث الشريف:
مسند أحمد بن حنبل (أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني: 164 هجرية- 241 هجرية).
مسند الدارمي (عبد الله بن عبد الرحمن: 181 هجرية- 255 هجرية).
مسند أبي يعلى الموصلي (أحمد بن علي التميمي: 210 هجرية- 307 هجرية).
المعجم الكبير: سليمان بن أحمد الطبراني (260 هجرية- 360 هجرية).
5- تاريخ المدينة لابن شبة (عمر بن شبة النميري: 173 هجرية- 262 هجرية)،وفيه روايات مهمة عن الفتنة الكبرى،لكن مروياته غير مكتملة لعدم اكتمال المخطوط الأصلي للكتاب.
6- تاريخ الطبري (محمد بن جرير الطبري: 224 هجرية- 310 هجرية)، لكنه حوى الكثير من الروايات والأخبار التي لا تثبت، لاكتفائه بذكر الإسناد دون تبيين أحوال رجاله.
7- الاستيعاب في معرفة الأصحاب :ابن عبد البر (يوسف بن عبد الله القرطبي 368 هجرية- 463 هجرية).
8- العواصم من القواصم: ابن العربي (محمد بن عبد الله: 468 هجرية- 543 هجرية)، وهو من أنفع الكتب في الرد على شبهات المبغضين للصحابة .
9- تاريخ مدينة دمشق: ابن عساكر (علي بن الحسن: 499 هجرية- 571 هجرية)،وهو يذكر إسناد كل خبر .
10- المنتظم في تاريخ الملوك: ابن الجوزي (عبد الرحمن بن علي: 510 هجرية- 597 هجرية).
11- الكامل في التاريخ : ابن الأثير (علي بن محمد الشيباني: 555 هجرية- 630 هجرية).وكتابه في التراجم: أسد الغابة في معرفة الصحابة.
12- منهاج السنة النبوية: ابن تيمية (أحمد بن عبد الحليم: 661 هجرية- 728 هجرية).
13- سير أعلام النبلاء ،وتاريخ الإسلام : الإمام الذهبي (محمد بن أحمد 673 هجرية- 748 هجرية) وهو إمام في الجرح والتعديل، وحرص في كلا كتابيه على تعقب الروايات وبيان وجهها ،في الغالب الأعم.
14- البداية والنهاية:ابن كثير(إسماعيل بن عمر القرشي: 700 هجرية- 774 هجرية)، وقد تتبع الروايات وبيَّن حالها ،في الغالب.
15- مقدمة ابن خلدون: ابن خلدون (عبد الرحمن بن محمد: 732 هجرية- 808 هجرية) .
16- الإصابة في تمييز الصحابة، وفتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر (أحمد بن علي العسقلاني: 773هجرية- 852 هجرية).
** ** **
وسنعاود بإيجاز سرد حادثة التحكيم لأهميتها:
لما فرغ علي بن أبي طالب من أمر البصرة ،وأعطى أهلها بيعتهم له فاستقام له الأمر فيها ،رأى أن الشام يجب أن تبايعه ،فأرسل جرير بن عبد الله البجلي(ت:51 هجرية) ومعه كتاباً لمعاوية يطلب منه البيعة ،ويذكره بما حدث في الجمل ،فلما وصل جرير أعطى لمعاوية الكتاب ،فأرسل معاوية يستشير رؤوس الشام ،فأبوا البيعة إلا بأخذ الثأر أولا ، فمعاوية على قوة في الشام، ولن يفرط في هذه القوة إلا بالانتقام لمقتل عثمان، لأنه ابن عمه وولي دمه.
وقد تحدد موقف بني أمية من بيعة سيدنا علي منذ حمل النعمان بن بشير الأنصاري (ت: 65 هجرية) قميص عثمان وهو ملطخ بدمائه ومعه أصابع نائلة بنت الفرافصة الكلبية زوجة عثمان،ووضع القميص على المنبر في الشام ليراه الناس ،والأصابع معلقة في كم القميص ،فندب معاوية الناس للأخذ بثأر عثمان والقصاص من قتلته.
وقام مع معاوية جماعة من الصحابة في هذا الشأن ، وكان علي يقول: تبايع، ثم ننظر في قتلة عثمان.
وما ذكره بعض المؤرخين من روايات أن علياً أرسل بشير بن سعد الأنصاري (والد الصحابي النعمان بن بشير) وسعيد بن قيس الهمداني وشبث بن ربعي التميمي وعدي بن حاتم الطائي وغيرهم ليكلموا معاوية ويطلبوا منه الرضوخ لعلي، وما جرى بينهم من مناقشات وسباب ولعان وشتمٍ لمعاوية ،واتهامٍ لبعض الصحابة في التورط في دم عثمان، وأن معاوية تباطأ في إرسال العون طمعاً في أن تكون الخلافة له . فكذب كله ليس له أصل.
فسبب القتال بين أهل الشام وأهل العراق يرجع - كما قلنا قبل قليل- إلى تباين المواقف بينهما:فأهل العراق يدعون إلى علي بالبيعة وتأليف الكلمة على الإمام، وأهل الشام يدعون إلى التمكين من قتلة عثمان ويقولون : لا نبايع من يؤوي
القتلة.وليس هذا من أمر الخلافة في شيء. وما شاع بين الناس قديماً وحديثاً أن الخلاف بين علي ومعاوية كان سببه طمع معاوية في الخلافة ،وأن خروج معاوية على علي وامتناعه عن بيعته ،كان بسبب عزله عن ولاية الشام،فغير صحيح.
قال إمام الحرمين الجويني (عبد الملك بن عبد الله:419 هجرية- 478 هجرية) في لمع الأدلة : إن معاوية - وإن قاتل علياً- فإنه لا ينكر إمامته ولا يدعيها لنفسه ،وإنما
كان يطلب قتلة عثمان ظناً منه أنه مصيب ،وكان مخطئاً .
وقال ابن تيمية (أحمد بن عبد الحليم:661 هجرية- 728 هجرية): إن معاوية لم يدَّع الخلافة ولم يبايع له بها حتى قتل علي ، فلم يقاتل على أنه خليفة ،ولا أنه يستحقها،وكان يقر بذلك لمن يسأله.
كما لاصحة لأخذ علي أموال معسكر معاوية،ومصادرته شيئاً من أموال البغاة. فذاك مفتعل موضوع.
ولم يكن الجيشان يكفر بعضهما بعضاً،لكن الخوارج في جيش علي كانوا يلعنون ويكفرون الشاميين ،وما لقوا من علي إلا الإنكار والتوبيخ ،ففي حديث زياد بن الحارث الصدائي،قال : كنت إلى جنب عمار بن ياسر(ت: 37 هجرية)فقال رجل : كفر أهل الشام ،فقال عمار: لا تقولوا ذلك ،نبينا ونبيهم واحد ،وقبلتنا وقبلتهم واحدة، لكنهم قوم مفترون جاروا عن الحق .
وسئل علي عن قتلى الفريقين يوم صفين فقال : قتلانا وقتلاهم في الجنة ، يصير الأمر إليَّ وإلى معاوية .
وفي حديث سالم بن عبيد الأشجعي وهو صحابي شهد المعركة،قال: رأيت علياً بعد صفين وهو آخذ بيدي ،ونحن نمشي في القتلى، فجعل علي يستغفر لهم حتى بلغ أهل
الشام فقلت له : يا أمير المؤمنين إنّا في أصحاب معاوية !؟ فقال علي : إنما الحساب عليَّ و على معاوية.
أي إنه يرى نفسه و معاوية مسؤولين عما حدث و هما يُحاسبان على ذلك .
وقد اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتصَّ من أحد ويأخذ حقه دون السلطان ،أومَنْ نصبه السلطان لهذا الأمر ،لأن ذلك يفضي إلى الفتنة وإشاعة الفوضى. ولهذا جعل الله السلطان ليقبض أيدي الناس بعضهم عن بعض.
قال ابن العربي(محمد بن عبد الله:468 هجرية -543 هجرية): ولا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدى ذلك إثارة الفتنة وتشتيت الكلمة.
ونجد أن موقف الصحابة الذين اعتزلوا الفتنة،وآثروا عدم قتال أهل القبلة ،هو الأمثل في هذه الفتنة ،وذلك أن الله تعالى إنما أمر بقتال الفئة الباغية وسماهم باغية إذا رفضت الصلح ، ولم يأمر بقتالها ابتداءً .
وبهذا المذهب التزم الإمام ابن حنبل(أحمد بن محمد الشيباني164 هجرية-241 هجرية) وبنى عليه موقفه في رفض الخروج على الدولة العباسية .
** ** **
وبعد أن تم الإتفاق على حادثة التحكيم، اختار معاويةُ عمروَ بنَ العاص،الذي كان بمثابة الوزير الأول له، وكان عمره سبعة وثمانين سنة.
واختار عليٌّ عبدَ الله بنَ عباس(ت:68 هجرية حبر الأمة) فرفضه القوم، وطالبوا أن يخرج عنهم أبو موسى الأشعري (عبد الله بن قيس،ت:42 هجرية) لأنه رفض الدخول في القتال من بداية الأمر،(مع يقينه أن عليًا على الصواب)، ولأنه كان قاضيًا لعلي على الكوفة.ولما ذهب إليه القوم في قريته التي كان معتزلا فيها، قالوا له:إن الناس قد اصطلحوا .قال: الحمد لله.
فقالوا له: وقد جُعلت حكماً.
فقال: إناَّ لله وإناَّ إليه راجعون.
وذلك لأن هذا الأمر أمر صعب،وشاق عسير،لكنه وافق أن يذهب معهم، ويحكم في هذه القضية الشائكة.
** ** **
ولما التقى أبو موسى الأشعري(عبد الله بن قيس،ت:42 هجرية) وعمرو بن العاص (ت:43 هجرية) في (صفين)، اتفقا على كتابة كتابٍ مبدئي يضع أسس التحكيم،فبدأ أبو موسى يملِى الكتاب وعمرو بن العاص يسمع:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما قاضي عليه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين.
فقاطعه عمرو بن العاص قائلا: اكتب اسمه، واسم أبيه، هو أميركم، وليس بأميرنا.
فقال الأحنف بن قيس: لا نكتب إلا أمير المؤمنين.
فذهبوا إلى علي بن أبي طالب، وذكروا ذلك له، فقال: امح أمير المؤمنين، واكتب:
هذا ما قاضى عليه علي بن أبي طالب.
(فعمرو بن العاص إنما يتحدث بلسان أهل الشام الذين لم يباعوا علياًّ أميراً للمؤمنين،وإلا ما قاتلوه).
وقبل عليٌّ هذا الأمر؛ حرصًا على جمع الكلمة، ووحدة الصف، وسعة صدرٍ منه،فكتبوا: هذا ما تقاضي عليه علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان: إننا نزل عند حكم الله، وكتابه، ونحيي ما أحيا الله، ونميت ما أمات الله، فما وجد الحكمان في كتاب الله عملا به، وما لم يجدا في كتاب الله، فالسنة العادلة الجامعة غير المتفرقة.
ثم ذهب كل من الحكمين إلى كل فريق على حدة، وكان ذلك في شهر صفر سنة 37 هجرية، وأخذا منهما العهود والمواثيق أنهما (أي الحكمان) آمنان على أنفسهما،
وعلى أهليهما، وأن الأمة كلها عونٌ لهما على ما يريان، وأن على الجميع أن يطيع على ما في هذه الصحيفة.
فأعطاهم القوم العهود والمواثيق على ذلك، فجلسا سوياً، واتفقا على أنهما يجلسان للحكم في رمضان من نفس العام (أي بعد سبعة أشهر من هذا الكتاب )، وذلك حتى تهدأ نفوس الفريقين ويستطيع كل فريق أن يتقبل الحكم أيًّا كان.
وشهد هذا الاجتماع عشرة من كل فريق، وممن شهد هذا الاجتماع عبد الله بن عباس(حبر الأمة،ت:68 هجرية)،وأبو الأعور السلمي(عمرو بن سفيان)، وحبيب بن مسلمة الفهري، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي.
لكن بعد أن قرأ الأشعث بن قيس الكتاب خرج له عروة بن جرير التميمي، وقال للأشعث: أتحكمون في دين الله الرجال ؟!
فغضب الأشعث، وكاد أن يحدث الخلاف، لولا تدخل الأحنف بن قيس وكبار القوم.
لكن طائفة من جيش علي بن أبي طالب أخذت هذه الكلمة، وبدأت تتحدث بها وظنّتها صوابًا، وكان الكثير ممن ردد هذا الأمر من حفاظ القرآن الكريم، وشديدي الورع والتقوى، وممن يكثرون الصلاة بالليل والنوافل، فأخذوا هذه الكلمة وقالوا: أتحكمون في دين الله الرجال؟
وغضبوا لأمر التحكيم وقالوا: لا حكم إلا لله.
واستمرّ مسير علي بن أبي طالب، حتى وصل الكوفة، فسمع رجلا يقول: ذهب عليٌّ ورجع في غير شيء.
وفي هذا لوم له رضي الله عنه على أمر التحكيم.
فقال علي: لََلَذين فارقناهم خيرٌ من هؤلاء.
وكان أكثر من خرجوا مع هذه الطائفة من قرية قرب الكوفة تُسمَّى (حروراء) ،وهم الذين عُرفوا في التاريخ بعد ذلك باسم الخوارج؛ لأنهم خرجوا عن طاعة عليٍّ ، وقد تنبّأ بهذه الطائفة الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي حديث أَبِي سعيد الْخُدْري (سعد بن مالك،ت:74 هجرية) الصحيح قَال: قَال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: تَمْرُقُ مَارقَةٌ عندَ فرْقَةٍ مِنَ الْمسلمينَ يقتلها أَوْلَى الطائفتين بِالْحَقِّ.
** ** **
ثم أرسل معاوية أربعمائة فارس إلى أرض دومة الجندل (جنوب غرب مدينة سكاكا ،إحدى مدن محافظة الجوف في السعودية) معهم عمرو بن العاص ، وكان معهم من رؤوس الناس عبد الله بن الزبير بن العوام، والمغيرة بن شعبة ، وعبد الله بن عمر بن الخطّاب(وكان ممن اعتزل الفتنة، ويرى أن عليًا على الحق، وكان حينئذٍ في الشام، فجاء مع الوفد الذي أرسله معاوية للتحكيم).
وقد تمّ اختيار دومة الجندل للتحكيم،لأنها تقع في مسافة متوسطة بين الكوفة والشام، فهي على بعد تسع مراحل من كلٍ منهما.
ويروي كثير من الباحثين رواية لا أساس لها من الصحة ،أن أبا موسى تقدم ،فحمد الله وأثنى عليه،ثم قال: أيها الناس إنا قد نظرنا في أمر هذهالأمة فلم نر أصلح لأمرها ولا ألمَّ لشعثها من أمر قد أجمع عليه رأيي ورأي عمرو وهوأن نخلع علياً ومعاوية وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر ؛ فيولوا منهم من أحبوا عليهم.وأني قد خلعت علياً ومعاوية فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من رآيتموه لهذا الأمرأهلاً.
ثم تنحى، وأقبل عمرو فقام مقامه فحمد الله وأثنى عليه وقال : إن هذا قال ما قد سمعتم وخلع صاحبه وأنا أخلع صاحبه كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية، فإنه ولي عثمان والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه. فتنابزا.
ويروي المسعودي(علي بن الحسين:283 هجرية-346 هجرية) أنهما لم يحصل منهما خطبة وإنما كتبا صحيفة فيها خلع علي ومعاوية وأن المسلمين يولون عليهم من أحبوا.وهذا القول أقرب إلى الصواب،وإن لهج كثير من المؤرخين بذكر الأول.
والحادثة ،على شهرتها ،تالفة الإسناد، وجاءت من طرقِ عدَّة تدور على الضعفاءِ والكذابين والمتروكين.
فالطريق الأول:
أخرجه ابن سعد فى "الطبقات الكبرى" ( 4/256)، ومن طريقه أخرجه ابن عساكر فى "تاريخ مدينة دمشق"
(46/172) عن محمد بن عمر، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي سبرة ،عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن عمرو بن الحكم.
وأبو بكر بن عبد الله بن أبى سبرة: ضعيف منكر الحديث، اتهم بالوضع.
وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة: متروك ،ذاهب الحديث.
والطريق الثاني:
أخرجه الطبري فى "التاريخ" (3/112) من طريق أبي مخنف، عن أبي جناب الكلبي.
وأبو مخنف :هو لوط بن يحيى، إخباري تالف.
وأبو جناب الكلبي:هو يحيى بن أبي حية الكوفي، ضعيف ،في أحاديثه مناكير.
والطريق الثالث:
أخرجه البلاذري فى "أنساب الأشراف" (1/336) عن عباس بن هشام ، عن أبيه ، عن أبي مخنف لوط بن يحيى ، وعن عوانة فى إسنادهما.
وهشام :هو ابن محمد بن السائب الكلبي ،متروك.
وأبو مخنف لوط بن يحيى: إخباري تالف.
والطريق الرابع:
أخرجه عبد الرزاق فى "المصنف" ( 5/452) والطبرى فى "التاريخ" (3/105) عن الزهري به.
فهو مرسل ضعيف، ومراسيل الزهري ليست بشيء ،هي بمنزلة الريح.
فالخبر باطل موضوع،وإسناده يدور على الكذابين والضعفاء، ورواية الزهري قبض الريح.
وقول عمرو فيما زعمواعليه: ( وأثبت صاحبي معاوية ) لايخلو من أمرين:
الأول أنه ثبته في الخلافة كما كان أولاً ،وهذاهو المتبادر من لفظ التثبيت،وهو باطل ؛ لم يقل به أحد أنه كان خليفة قبل التحكيم حتى يثبته حَكمه فيها بعده .
الثاني أنه ثبته على إمارة الشام كما كان من قبل،وهذا هو المتعين دراية وإن لم يصح رواية ،وهو تحصيل الحاصل! فأي دهاء امتاز بهعمرو بن العاص على أبي موسى في تحصيل الحاصل؟بل أي تغفيل يوصم به أبو موسى مع هذا العبث؟ وهل زاد به معاوية شيئاً جديداً لم يكن له من قبل؟وهل نقص به علي عما كان له قبل؟
قال القاضي أبو بكر بن العربي(محمد بن عبد الله 468 هجرية- 543 هجرية): قد تحكم الناس في التحكيم فقالوا فيه مالا يرضاه الله ،وإذا لحظتموه بعين المروءة دون
الديانة رأيتم أنها سخافة حمل على تسطيرها في الكتب في الأكثر عدم الدين، وفي الأقل جهلٌ متين، وقال : وزعمت الطائفة التاريخية الركيكة أن أبا موسى كان أبله ضعيف الرأي مخدوعاً في القول،وأن ابن العاص كان ذا دهاء وأرب حتى ضربت الأمثال بدهائهتأكيداً لما أرادت من الفساد،اتبع في ذلك بعضُ الجهال بعضاً وصنفوا فيه حكايات،وغيره من الصحابة كان أحذق منه وأدهى ، وإنما بنوا ذلك على أن
عمراً لما غدر أبا موسى في قصة التحكيم صار له الذكر في الدهاء والمكر، ثم ذكر الأسطورة باختصار وقال : هذا كله كذب صراح ما جرى منه حرف قط ، وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة ووضعتهالتاريخية للملوك ؛ فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع .
** ** **
ومع ذلك، فلم يصل كلا الحكمين، بعد مشاورات كثيرة، إلى شيء.فاتفقا على أنْ يُترك أمر تحديد الخلافة إلى مجموعة من الصحابة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، وهم أعيان الصحابة،(فيهم علي بن أبي طالب ؛لأنه من السابقين الأولين)، وليس فيهم معاوية بن أبي سفيان، ولا عمرو بن العاص؛ لأنهما ليسا من السابقين، على أنْ يُستعان برأيهما إن أراد القوم ذلك.
كما اتفقا،بحضور الشهود،على أن يكون لهم اجتماع آخر في العام المقبل في دومة الجندل، بعد تشاور الأعيان، لفعل الأوْلى، فيحكم خلال ذلك كلاهما ما تحت أيديهما . وبعد تعيين الخليفة الجديد على الجميع طاعته (سواء رأى قتل قتلة عثمان أو رأى تأخير القصاص).
ومن الواضح أن الحكم في ظاهره هو لصالح علي بن أبي طالب، خاصة أنَّ معاوية وعمرو بن العاص خرجا من الأمر، ولا رأي لهما في اختيار الخليفة الجديد.
وقد تفرق المسلمون على هذا الأمر،وهم راضون تمامًا،حتى يجتمع كبار الصحابة لتحديد الخليفة، ولما وصل الأمر إلى علي بن أبي طالب رضي به، كما رضي به معاوية.
لكن الرواية الكاذبة تقول: إن عليًا لما بلغه هذا الأمرغضب، وجهَّز الجيوش لمحاربة معاوية ومن معه، وهذا ما لم يحدث.