مقاربة قصيدة - سونيتات سيدة النهر - د.رجاء بنحيدا
مقاربة قصيدة - سونيتات لسيدة النهر - للشاعر شكري بوترعة
وأنا أقرأ هذه القصيدة أول مرة ،لم تتوقف ذاكرتي طويلا في حجرة الانتظار ، بل استرجعت مع كل كلمة حكايات أحزاننا ،. التي تتشابه داخل الوطن الواحد .. وفي القصيدة الواحدة ..
إذ يحملك الشاعر إلى دائرة مغلقة ، بدايتها ...حزن جلّ وقعه ونهايتها... حزن عظُم فجعه ،
دائرة استفاضت فيها نغمة الحزن .. حتى صارت ظاهرة تلفت النظر " على حد تعبير عز الدين إسماعيل.
حزينون تماما .... *
*حزينون تماما .... *
*و ليس لنا في هذه الدائرة *
*سوى *
*رغوة الخمر على شفاهنا *
*غسيل فوضانا *
*بقايا التبغ على أظافرنا الممرغة بالحبر و الفجائع *
*و هذا الطفل الذي يخترع الأخضر في الحرائق *
*يغادر طفولته على نعش الكبرياء *
مآسي وأحزان في وقائع يومية ..يصورها الشاعر بإدراك شعري ، يجعلك تتأمل هذه التفاصيل المأساوية في تفاصيل حياة مؤلمة .. ( رغوة خمر، فوضى ، بقايا تبغ ، حرائق ،نعش)
مع هذا التأمل تتوسع رقعة الحزن ومأساوية الواقع .. من تفاصيل صغيرة إلى أخرى كبيرة عميقة ، من تفاصيل باهتة ألوانها ،.إلى تفاصيل فاقعة بالدم مخضبة به ..
*حزينون تماما .... *
*حزينون تماما .... *
*باهتة علبة التلوين *
*في ذاكرة الطفل المسجى *
*حين يسيل منها دمه ... *
*و لون الشمس في دفتر الرسم *
هكذا هو صراع الروح والجسد صراع أزلي صراع يجسده سؤال البقاء .. سؤال المكيدة .. سؤال حزن أصاب روح الأوطان ' بغداد '
سؤال الروح المطروح على الروح" *
*هكذا يختتم الوقت إذا! .... *
أسئلة متلاحقة بإيحاءات معنوية .. وبصور مجازية متناسقة متكاملة تبرز للقارئ مخزونا انفعاليا من خلال شحنات داخلية كامنة ... بألفاظ ومفردات موحية دالة على عمق التأثير النفسي وعمق الجرح .. وعمق الهلاك الذي أصاب روح الأوطان ،،
*بغداد التي أرضعت من قبل ذئاب الأساطير *
*و أينع الزعتر البري على أحراش أهوازها *
*هي *
*نفسها بغداد التي تعلم الآن جلجامش إمساك المسدس في *
*ساحة الدم *
*بغداد هذا الكوكب الذي انحرف عن مدار الهزيمة *
*يحصي أطفاله كل مساء *
*و حين يتشعث ماء الفرات *
*ويخرج سمك دجلة إلى الطرقات *
*و تلقي العصافير بيانها من فوق سطح الإذاعة *
*:كفى هلاكا *
لوحة درامية .. تكشف نظاما فنيا يقوم على بنية الاعتراف والتصريح ، ، تصريح يجعل القارئ يطيل التمعن في هذه اللوحة المعتمة بظلالها السوداء ..
هي ظلال الهلاك والموت .. ظلال ترخي سدولها على زهرة القلب " بغداد" كل مساء، على الطفل .. على الجسد .. على النجم . .. على ذراع نحيلة .. كل مساء
هي ظلال أرخت سدولها على نمط الجملة في القصيدة التي تجاوبت وانقطاع النغمة والتنافر الصوتي مع انتفاضات " الحزن "
جمل مبتورة .. وأخرى طويلة متوقدة .. تنتهي بجمل دالة قاطعة ومحددة ، تكشف لنا ذاك التمرد الواعي على شكل سونيتات مختلفة
*: مزيدا من الثلج على اللحم الذي يلتصق بالحديد *
*:دعوا الطفل يفتش عن إناء الحليب تحت الركام *
*:دعوا زهرة القلب تنامُ *
*حزينون تماما .... *
*يزوغ نجمنا و يرفو ثغرة *
*في القلب الذي يتأرجح *
*و بغداد لا تتعرى تماما للغزاة *
*هنالك خلف الحقول ذراع نحيلة تحصد القمح و تحصد الطائرات *
*.....أنا لا أرثي العراق *
*إنما أرثي الطعنة *
*التي تفشي رائحة الشقيق *
لغة وصور بعدسة إنسانية تقلق وعي المتلقي ليعيد قراءة القصيدة من جديد .. ليعيد النظر في مشاهد واقعية بصور إيحائية مجسدة تسهم في تعميق الإحساس بالحزن .. هكذا هي لغة الصورة ذات الإشارات والإيحاءات ،ذات الأبعاد الثلاثية .. لغة تقارب بين عالمين ، عالم القصيدة الرحب وعالم الواقع المرير في عالم يروغ نجمه ويرفو ثغره في القلب الذي يتأرجح *
في عالم هنالك خلف الحقول ذراع نحيلة تحصد القمح و تحصد الطائرات ، في عالم يتزايد فيه النغم الدرامي فيصبح قصف الكلام .. قبل الكلام مشروعا ، وقصف الأفكار .. التي ترثي الطعنة .. حقاًمعلوما ..
فهل تقصفون المساء الذي يتنزه على لوحة في الجدار
نعم لقد قصفوا مساء اللوحة .. قصفوا مساءنا .. قصفوا قهوتنا .. قصفوا أفكارنا .. وتركوا لنا نبض الأحزان .. في كل ركن ..
*أنا لا أرثي العراق *
إنما أرثي من فتح بوابة البحر *
*كي يمر لنخل العراق الحريق ... *
*تعب القتل *
*و لم يتعب القاتلون *
*فهل تقصفون و هل تقصفون ...... *
*ضواحي الكلام الذي سوف نقول *
*و هل تقصفون ضواحي الكلام الذي *
*لا نقول ........... *
*و من نبض النخيل فينا *
*نعيد إلى بيتنا الكهرباء *
*فهل تقصفون المساء الذي يتنزه على لوحة في الجدار *
*و تقصفون قهوتنا في الصباح *
*و تقصفون سلسلة أفكارنا *
*دعونا إذن ... *
*نكتب قصائدنا في هدوء *
*من أي جهة سيأتي مساء بدون نواح *
*و كيف سنعرف في هذا الخراب *
*بأن الذي على الطاولة دمنا *
*أم قهوة للصباح *
إنه الحزن الحقيقي .. لا المتخيل المختلق ، حزن يمزج في قصيدة" جوهرة" ، بسونيتات مرتبة جيدا ، تختتم بنبض أطواله متناقصة كما جمل المقطع ،مختصرة وبالغة التركيز والتصريح .. تفتح أفق القارئ ... ليطيل التمعن في نهاية .. إيقاعها أكثر حزنا وتوترا ..
*سيدتي بغداد *
*آخر ما تبقى من ملح الروح *
*على الجسد الملطخ بالوحل *
*و قبعات الجنود .... *
*سيدتي هل تسمعين صهيل الطائرات ؟ *
*هل توقف القلب عن النبض؟ *
*أم انحنى النبض *
*كي يمر ماء الفرات ... *
نهاية سونيتات تمنح النبض طاقة إيحائية .. تنسجم والرؤيا الشعرية ، حيث تتحد الإيحاءات وإيقاعات الكلمات المترابطة ، وتمتزج مع الحالة الشعورية في قالب يحقق التوازن بين النثر والشعر ، بين الحزن والإبداع ، بين التعبير والتمرد ، في جمل سلسة شفافة ، بلازوائد ولا تعقيدات .. نهاية تجعلنا نصرح مع الشاعر المبدع
*إننا حزينون تماما ... *
*حزينون تماما ... *
وها قد رحلت .. بعد أن تجرعت -وتجرعنا- كؤوس الحزن مرارا ..
رحمك الله..!!
بتاريخ 29/9/2017
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|