من وعد بلفور إلى قرار التقسيم والمشروع القومي و المؤامرة على فلسطين ـــ يوسف جاد الحق
لئن كنا في مثل هذه العجالة لا نستطيع الإسهاب في تفاصيل جمة حول أسباب النكبة عام 1948 بمقدماتها وملابساتها، بيد أنه يمكننا أن نتحدث ـ ولو بأكبر قدر ممكن من الإيجاز ـ عن العوامل والظروف التي أفضت إليها. لم تكن هذه وتلك وليدة مصادفات بحتة أو نتيجة لمجريات حوادث عفوية، وإنما كانت ثمرة تخطيط دقيق ومُحكم بعيد المدى، منبثق عن تآمر تحالفت فيه الصهيونية العالمية ودول الاستعمار الغربية المعادية لأمتنا تاريخياً، والطامعة في ثرواتها الطبيعية في حين كانت غاية الصهيونية من وراء هذا التحالف الاستعانة بالدول الاستعمارية من أجل تحقيق حلمها الأكبر في إقامة «مملكة صهيون» القديمة واستعادة «أمجاد إسرائيل» المزعومة على أرض فلسطين وإعادة بناء «الهيكل» في المدينة المقدسة. حلم يهودي بنوه على أوهام مريضة، وتصورات عنصرية خرافية معادية لسائر البشر، وإن يكن للمسلمين بوجه خاص، وحتى المسيحية لم يضمروا لها يوماً غير العداء، ولكنها تهادن أصحابها لغايات مصلحية تحكمها الظروف على مرِّ الزمن. وهي على الدوام تعتمد المبدأ الميكافيلي إياه (الوسيلة تبررها الغاية).
وأما غاية الدول الغربية الاستعمارية فهي استكمال الحروب الصليبية ـ مستعينة باليهود من منطلق أن «عدو عدوي صديقي» ـ لكي تعينها على الهيمنة والتحكم في بلاد أعدائها المسلمين ـ من وجهة نظرهم ـ ولنهب ثرواتها واستخدام أراضيها وأجوائها ومياهها للوصول إلى أغراضها الاستعمارية الإجرامية في أماكن كثيرة من هذا العالم.وكما عودنا هؤلاء وهؤلاء الاعتماد في تمرير مخططاتهم والتغطية على مؤامراتهم ودسائسهم واعتداءاتهم وحروبهم على أكاذيب ومبررات، وذرائع وافتراءات تهدف في مجملها إلى التضليل والخداع وقلب الحقائق، وهو ما يرى أمثلة صارخة له في أيامنا الراهنة مما يجري في العراق وفلسطين وأفغانستان والصومال، ولما يحاك ضدَّ إيران والسودان وسورية ولبنان وغيرها. وكانت حكاية (الحق التاريخي) لليهود في ديار فلسطين من أفدح افتراءاتهم على الحقيقة والتاريخ، مستخدمين إياها وسيلة لتضليل الجهات الممالئة لهم، وتضليل عامة اليهود أنفسهم، الأولون من أجل إعانتهم على تحقيق حلمهم كما أسلفنا والآخِرون من أجل دفعهم إلى الهجرة إلى «أرضهم الموعودة»...!
حكاية الحق التاريخي:
عندما عجز الصهاينة عن إيجاد مستند قانوني، أو مسوِّغ منطقي يمكنهم الاستناد إليه في ادعاء حق لليهود في أرض فلسطين عمدوا إلى أكذوبة هائلة أرجعوها ـ إمعاناً في التعمية ـ إلى حقبة تاريخية موغلة في القدم فزعموا أن فلسطين هي أرض إسرائيل موطن آبائهم وأجدادهم منذ فجر التاريخ، وربما قبله أيضاً، وأن «سكانها» العرب منذ القديم لم يكونوا سوى «دخلاء» عليها «غرباء» عنها وأن من حقهم ـ أي اليهود ـ استرجاعها الآن وإجلاء هؤلاء الدخلاء عنها بالقتل والتشريد والمطاردة، بل والإبادة إن أمكن، جزاءً وفاقاً لما اقترفوا في حقهم..! ولقد بلغت بهم القحَّة في الادِّعاء، والجرأة على الحق، فضلاً عن الإزراء بكل منطق، والاستخفاف بعقول الآخرين أن راحوا يطلقون على المهاجرين منهم إلى فلسطين، من أي مكان في الأرض جاؤوا لفظ (العائدون الجدد..!) أما كيف «عادوا» وهم الذين لم يكونوا فيها أصلاً ثم غادروها فهذه مسألة لا حاجة بهم إلى تسويغها أو تفسيرها إذ إن أحداً لم يطالبهم بتفسير أو تسويغ. ولا نغفل الإشارة إلى أن معظم (العائدين) هؤلاء ليسوا غير شراذم من أعراق وأجناس شتى لا تمت بصلة إلى ما يمكن إدعاؤه من سلالة إسرائيلية، أو ديانة يهودية، جمعت كالقطعان من هنا وهناك، مدفوعة بعوامل الترغيب حيناً والوعد بحياة حافلة بالسعادة والرفاه في أرض تمطر عليهم (المن والسلوى)، وحيناً بالتضليل الأيديولوجي المغرق في البداءة والتخلف والمستمد من تعاليم التلمود والمعادية لسائر البشر في حقيقة أمرها.
ولعلها أعجب مفارقة في التاريخ كله، وفي عصرنا هذا على وجه الخصوص (عصر المدنية والمنهجية العلمية) أن تجد دولاً علمانية لا تؤمن بالغيبيات والأساطير والخرافات أو حتى بالأديان تدعي المنافحة عن حقوق الإنسان تقرُّ الصهيونية على منطقها الأخرق وتوافقها على دعاواها الباطلة العجيبة. إن الأمر في غرابته يكاد لا يصدَّق. ذلك أن أحداً لا يتصور أي شكل من الفوضى يمكن أن يؤول إليه حال العالم لو ساد هذا المنطق فخرجت كل أمة على وجه الأرض بزعم من هذا القبيل على الملأ مطالبة بإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء لآلاف من السنين كيما تعود إلى موطن تزعم أنها كانت فيه ذات يوم، ولتخلي منه سكانه الحاليين بعد أن توسعهم قتلاً وتشريداً أيضاً.
على الرغم من هذا كله لقي هذا المنطق الصهيوني المتهافت سبيله إلى بعض العقول، ومن ثمّ إلى حيّز التطبيق والتحقق فاندفعت هذه العصبة المارقة إلى تنفيذ مآربها وسط عالم سيطرت على الأقوياء فيه قيم ومفاهيم لا تؤمن إلا بشريعة الغاب، وسياسة الاستعلاء، وواقع المصالح الخاصة على حساب شعوب برمتها، ذنبها الوحيد أنها صغيرة، أو ضعيفة، أو غير ضليعة بخفايا التآمر والتواطؤ.
من ثم قامت دول الاستعمار بدعم هذه الطغمة وإمدادها بكل ما استطاعت من وسائل العون المادي والمعنوي، إذ هما ـ الاستعمار والصهيونية ـ يلتقيان في المصالح المشتركة، وفيما يرميان إليه من نزعة السيطرة على هذا الجزء من العالم، باعتباره موقعاً استراتيجياً خطير الشأن من جهة، وموئلاً لحضارة يناصبانها عداءً تقليدياً وتاريخياً من جهة أخرى. ألم يعلن الرئيس بوش أنها «حرب صليبية؟» ثم زعموا أنها «زلة لسان» ليس إلا..!
ولا تفوتنا هنا الإشارة إلى ما امتلكته الصهيونية من وسائل وإمكانات هيأت لها سبل الوصول إلى غاياتها بالتأثير في مراكز القوى وصناعة القرار في دول بعينها، كما في المحافل الدولية؛ فهي تملك ما يشبه الهيمنة المطلقة على البيوتات والمراكز المالية، من القاع حتى القمة، كالبنك الدولي ـ الذي ترأسه قبل الفضيحة التي أقصته عنه بول وولفتر الصهيوني وأحد أبرز مخططي الحرب على العراق وأفغانستان ـ وصندوق النقد الدولي المتحكم في ميزانيات وموارد الكثير من دول العالم، لا سيما دول العالم الثالث. كما تملك الصهيونية التأثير الهائل على وسائل الإعلام في دول الغرب، وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، ولأسفنا الشديد بعض مراكز الإعلام في الدول العربية والإسلامية، فاتخذت من هذه وتلك أبواقاً تنطق بمصطلحاتها ذاتها، وتعمم رؤاها وأضاليلها، فضلاً عن توجيهها نحو الصمت بالتعتيم على جرائمها الموصوفة على شعب فلسطين وغيره من بقية الشعوب العربية!! إن لم يكن تبريرها أيضاً. كما أنها تملك ما لا حصر له من التنظيمات السرية، كالمحافل الماسونية، واللوترية، والليونز، وبنى بريت، وشهود يهوه، والبهائية.. وغيرها وغيرها..
إذن، كانت المؤامرة ـ بما هُيّئ لها من وسائل وإمكانات ـ أكبر من أن يوقفها أو يحول دون تنفيذها شعب صغير أعزل تألبت عليه ظروف قاسية شديدة الضراوة، مهدت لها وتضافرت حولها أعتى قوى الشر في عالمنا المعاصر.
المؤامرة قيد التنفيذ:
عقد المؤتمر اليهودي العام في مدينة (بال) في سويسرا عام 1897 بناء على دعوة زعيمهم النمسوي الأصيل (ثيودور هرتسل) بغية العمل على تحقيق الفكرة الصهيونية الاستراتيجية الرامية إلى هجرة يهودية واسعة النطاق من مختلف أقطار العالم إلى فلسطين العربية، ومن ثم تأسيس دولة يهودية فيها.
في هذا المؤتمر تأسست (الجمعية الصهيونية) وانتخب هرتسل رئيساً لها. كانت باكورة أعمالها قيام هرتسل بمقابلة السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ليعرض عليه أن تكون فلسطين (وطناً قومياً) لليهود، لقاء خمسين مليون جنيه ذهباً، الأمر الذي رفضه السلطان رفضاً قاطعاً. لم تيأس الصهيونية لفشلها المبدئي هذا بل مضت تطرق أبواباً أخرى، مثابرة السعي للحصول على الاعتراف لها بحق في إقامة ذلك (الوطن القومي) إلى أن نجحت في حمل اللورد (آرثر بلفور) على إصدار تصريحه الشهير في الثاني من نوفمبر عام 1917 موجهاً إلى اللورد روتشيلد، المليونير اليهودي الإنكليزي، على الرغم من أن فلسطين لم تكن جزءاً من مستعمرات بريطانيا، بل كانت وديعة لديها تحت الانتداب المؤقت، كما أنها لم تكن ملكاً لبلفور حتى يستطيع أن يهبها لمن يشاء.
ومن هنا.. رأى خبراء القانون أن تصريحه هذا ليس وثيقة قانونية شرعية يمكن للصهيونية اعتمادها، ولا هو صكٌّ شرعي أو أي شيء من هذا القبيل. إلا أنه برغم ذلك كان نقطة التحول التاريخية في مجرى الأحداث كلها بعد ذلك، وما ترتب عليه من تبعات وعواقب غيّرت مصائر شعوب المنطقة كلها، وما برحت آثارها ونتائجها تفعل فعلها حتى يومنا هذا. واقع المنطقة الذي نشهد اليوم وما نحفل به من تعقيد واضطراب، إلى جانب المعوقات التنموية والألاعيب السياسية والمصائب الفردية والجماعية السائدة والمستمرة في تفاعلاتها دون توقف.
إثر وعد بلفور هذا انتقلت الصهيونية من مجرد المطالبة بما يشبه الخرافة المستحيلة التحقق على أرض الواقع إلى المرحلة العملية لإقامة دولة المستقبل ليهود، فاستطاعت بما ملكته من نفوذ، حمل عصبة الأمم على أن توصي بانتداب بريطانيا على فلسطين، لأنها كانت أكثر الدول تحمساً واستعداداً لتنفيذ المخطط الصهيوني، الذي رأت فيه ما يحقق مصالحها هي أيضاً في الهيمنة على الرقعة العربية من المنطقة، وتأمين طرق مواصلاتها إلى الهند ودول شرق آسيا وجنوب أفريقيا. ترى هل تغير شيء عما سبق فيما يتعلق بهيئة الأمم المتحدة وريثة عصبة الأمم البائدة..!؟
أما ذلك الوعد (البلفوري) فقد حصل عليه (حاييم وايزمن) الذي أصبح فيما بعد أول رئيس للكيان الصهيوني، عندما سئل عن الجائزة التي ينتظرها من بريطانيا لقاء تعاون اليهود معها في تلك الحرب ضد الألمان والدولة العثمانية من جهة، ولجهوده هو، من جهة ثانية، في مجال الأبحاث الكيميائية وإنجازاته لصالح بريطانيا (العظمى) في حقل المتفجرات والديناميت، فأعلن وايزمن أنه (لا يريد شيئاً لنفسه وإنما لشعبه). يريد من بلفور، بوصفه وزيراً لخارجية بريطانيا، (وعداً) في بضعة سطور على ورقة صغيرة.
وكان له ذلك، ولننظر لما أسفرت عنه تلك (البضعة من السطور) بفضل العبقرية الإجرامية في العقل اليهودي وقدرته على الاستغلال والابتزاز والصفاقة التي عرفت عن هذه الفئة التي ابتليت بها البشرية على الدوام.
عصبة الأمم وإضفاء الشرعية على الاغتصاب:
بدا للوهلة الأولى أنها منظمة دولية قامت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، بغية المحافظة على السلام ـ شأن هيئة الأمم المتحدة المعاصرة ـ أي أنها ذات أهداف إنسانية سامية, غير أنها لم تكن في واقع الأمر سوى فكرة يهودية ـ صهيونية، دعا إليها أقطابهم في الدول الاستعمارية. ولقد نجحوا في حمل تلك الدول على إنشائها، ولم يكن من قبيل الصدف أن يغدو أول رئيس لها يهودياً يدعى (جاكوب سكيف).
وقد يجدر بنا إيراد مقتطفات من كتابات مؤرخين يهود وغيرهم، حول هذه المنظمة:
«لو كتب تاريخ الحرب بوساطة مؤرخ موضوعي الاتجاه فلا شك أنه سيعتبر المادتين التاليتين من أهم نتائج الحرب.
الأولى: إعادة بناء الوطن القومي اليهودي في فلسطين
والثانية: تكوين عصبة الأمم»(1).
«عندما اتجه المؤتمر نحو تكوين عصبة الأمم وإدخال نظام الانتداب في دستورها كان الرجال البارزون على المسرح من الصهيونيين وقد صيغت المواد الخاصة بالانتداب بوساطة الجزال (سمطس) واللورد (سبيسيل)»(2).
أما (لوسيان ولف) فيقول: «كان من بين الشخصيات اليهودية البارزة في مؤتمر الصلح (مستر ماندل) واسمه الحقيقي (روتشيلد) وهو السكرتير الخاص لمستر (كليمانصو) الذي امتد نفوذه على المؤتمر كله. و(هنري مورجانتو) والد السكرتير المالي لمستر (روزفلت). وقع المعاهدة عن فرنسا (لويز كلوتز) وعن إيطاليا البارون (سونيو) والأمريكي (أوسكار ستراوس) وهؤلاء جميعاً يهود»(3).
ويلخص ذلك كله قول (ناحوم سكولوف) رئيس اللجنة التنفيذية للمؤتمر الصهيوني المنعقد في 25 أغسطس سنة 1932 «إن عصبة الأمم فكرة يهودية»(4).
لقد جاء على لسان (هربرت صموئيل) أول مندوب سامي في فلسطين، وهو يهودي قوله «لقد عينت مندوباً سامياً في فلسطين وحكومة جلالة الملك على دراية تامة بعواطفي الصهيونية، بل لاشك أنني عينت في هذا المنصب بسبب هذه العواطف»(5).
وأما (حاييم وايزمن) فيقول في مذكراته التي نشرت عام 1949 ما يلي: «لقد احتضنت بريطانيا الحركة الصهيونية وأخذت على عاتقها تحقيق أهدافها ووافقت على تسليم فلسطين خالية من سكانها العرب لليهود في سنة 1934، ولولا الثورات المتعاقبة التي قام بها عرب فلسطين لتم إنجاز هذا الاتفاق في الموعد المذكور».
هيئة الأمم المتحدة تستكمل مهمة عصبة الأمم
وفاءً منها للوعود والعهود التي قطعتها للصهيونية واصلت بريطانيا عملها الدؤوب للتمكين لليهود في أرض فلسطين، بما عمدت إلى اتخاذه من إجراءات على الأرض، منهاتسهيل الهجرة اليهودية، ومنها إقامة المستعمرات حيثما شاؤوا، بعد إخراج أهلها منها بوسائل إكراهية أو احتيالية، ومنها الإجراءات القمعية التنكيلية بالشعب الفلسطيني، ومنها التصدي لثوراته المتعاقبة إلى حد الذهاب إلى إعدامات فردية وجماعية للقائمين بها أو عليها، وكان ذلك كله تنفيذاً بريطانياً (أميناً....!)، للبند القائل من وعد بلفور بـ (وضع البلاد في أوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية لتمكين اليهود من إقامة وطن قومي لهم في فلسطين). واظبت بريطانيا على سياستها هذه طوال الحقبة الممتدة مابين الحرب العالمية الأولى ونهاية العالمية الثانية وما بعدها حتى عام 1947، حين أنهت عهدة انتدابها وأوكلت مصير فلسطين وشعبها إلى هيئة الأمم المتحدة ـ صهيونية المنشأ أيضاً ـ بفضل (أمريكا ـ ترومان)، و(بريطانيا ـ تشرشل) لاستكمال مهمة اغتصاب الأرض بمشروع التقسيم وتشريد أهلها تهجيراً وقتلاً وترويعاً.
فعلت بريطانيا هذا بعد أن ضمنت لليهود القدرة ـ عدداً وتدريباً عسكرياً وتسليحاً ـ للوصول إلى ما وصلت إليه على النحو الذي رأينا آنذاك والغني عن البيان في هذا المقام.
حول مشروع التقسيم:
ظهرت صحف لندن في 20 سبتمبر 1947، لتعلن على العالم عزم بريطانيا على ترك فلسطين والتخلي عن الانتداب لكي تضع هيئة الأمم المتحدة مشروعاً معتمداً، يكون معقولاً ومقبولاً لدى كل من العرب واليهود. وحددت موعداً لذلك يوم 15 أيار 1948. وما ذكر هنا عن قبول العرب ليس إلا تمويهاً وذرّاً للرماد في العيون. منذ تلك اللحظة بدأت الوفود اليهودية في (ليك ساكسس) تبذل جهودها المستميتة في مختلف الأوساط لشرح وجهة النظر اليهودية في مسألة الحق التاريخي.
ولم ينس َاليهود ـ في الوقت ذاته ـ العمل على الإعداد للمعركة القادمة داخل فلسطين لتنفيذ بقية مخططهم للاستيلاء عليها بالقوة... والمذابح...
اجتمعت اللجنة العمومية لهيئة الأمم المتحدة بنيويورك في 28 نيسان 1947 وقررت تأليف لجنة خاصة من أعضائها (للتحقيق..!)، ورفع تقرير لها عنها. كان معظم أعضاء اللجنة من الضالعين مع اليهود، مما أسفر عن صدور توصية هيئة الأمم المتحدة الظالمة الفظة، غير المسبوقة في تاريخ البشرية، التي تنص على:
«تقسيم فلسطين بين العرب واليهود وربط الدولتين المقترحتين باتحاد اقتصادي، أما القدس فتخضع لنظام دولي».
وقد أخذت الأصوات اللازمة لإقرار التوصية بموافقة ومباركة الضالعين والمتآمرين على أمتنا من ناحية، وتحت الضغط والتهديد والوعيد أو الإغراء بالمعونات والمنح... والرشوة من نواحي أخرى. وسنورد هنا مثالاً واحداً عما جرى يومئذٍ في تلك الهيئة للوصول إلى تحقيق الهدف الصهيوني ـ الغربي لاغتصاب فلسطين وإخلاء أهلها منها.
وقف مندوب الفلبين في هيئة الأمم المتحدة الجنرال (كارلوس رومولو) يلقي خطاباً يهاجم فيه مشروع التقسيم مدافعاً عن حق العرب في تقرير مصير بلادهم. ومما قاله «إن حل مشكلة يهود أوروبا لن تكون عن طريق إقامة دولة يهودية في فلسطين وعلى حساب أهلها العرب». لكن شيئاً ما حدث في اليوم نفسه، فقد تلقى (رومولو) برقية عاجلة من حكومته تطلب إليه العودة إلى بلاده فوراً. وبعدها بقليل وقف المندوب الفلبيني الجديد ليصوت في صالح التقسيم. كانت أمريكا وراء ذلك التغيير المكشوف أمام العالم كله، إذ هددت حكومة الفلبين بقطع المعونات الاقتصادية عنها إذا هي لم تصوت إلى جانب مشروع التقسيم.
المؤسف أن ذلك كان يجري في غياب سياسة عربية فاعلة لا يتسع المجال هنا للخوض فيها.
لقد تألبت على شعب فلسطين الصغير عدداً، المسالم إنسانياً، مجموعة من قوى الشر العالمية بضراوة وهمجية قلَّ مثيلها. وما برحت كذلك حتى يومنا هذا. بيد أنه ما انفك قويَّاً بإيمانه، عنيداً صابراً مصابراً، واثقاً بأن الغلبة للحق على الباطل في نهاية المطاف.
فما من ليلٍ إلا وله آخر، وهذه الموجة من الغزو لابدَّ مندحرة في قابل الأيام، وبوادر ضعفها ثم اندحارها بدأت تلوح في الأفق منذ عام 1973 في حرب تشرين على الجبهتين السورية والمصرية،وعلى أيدي المقاومين الفلسطينيين في الانتفاضتين، وفي عام 2000 في جنوب لبنان، وفي حرب تموز 2006، بفضل المقاومة في لبنان. النصر إذاً لابد آتٍ في يوم يرونه بعيداً ونراه قريباً.
هوامش:
1 ـ روبرت سيبل ـ خطاب في ألبرت هول ـ عام 1950.
2 ـ ج.م.ن. جنفرس ـ المرجع السابق.
3 ـ لوسيان وولف ـ موضوعات في التاريخ اليهودي ـ ص 408 ـ (1934).
4 ـ كولونيل أ. هـ. ولان ـ اليد المختفية ـ ص 28.
5 ـ مذكرات هربرت صموئيل ـ ص 168.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|