| 
	
		
		
			
			 
				
				رد: عش رشيد الميموني الدافئ
			 
			 
			
		
		
		[align=justify] 
حين أخلو لنفسي ، تأخذني سنة وأتأمل حالي وأنا وسط مرج يمتد حتى النهر ، أو على صخرة تطل على الوادي السحيق ، أو في أعلى الشجرة مندسا بين الأغصان الكثيفة متخذا من أغصانها سرجا لي كأنني فارس استعد للانطلاق مع أول هبة لريح الخريف الآتي . هل أغبط نفسي على ما هي فيه من انتشاء ؟ أم أقلق على احتمال أن يكون كل ما أعيشه حلما ؟ أو أن يعرف هذا الانتشاء وهذه الطمأنينة نهاية ؟ 
أشعر بهذا حين أرى الأفق يتلبد بأولى غيوم الخريف الزاحف بهدوء . غيوم بيضاء ناصعة ، لكنها تخفي جانبا من أديم السماء الصافي . وأنا اعلم يقينا أنها غيوم سوف تأخذ لونا مغايرا مع مرور الأيام . وأنا أعلم كيف يسود ذاك الجو القاتم ويصطبغ الأفق بذاك اللون الرمادي الداكن .. لكن هذا لا يعني أن قدوم الخريف يسبب لي انقباضا . فأنا تعودت أن أعيش على إيقاع الفصول الأربعة بكل بهائها . 
وعندما أفيق من غفوتي .. وأنتبه إلى أنني يجب أن ألتحق بحليمة ، أنهض وأوغل بين الحقول التي غلفها الضباب حتى لم أعد أرى من الكروم و الذرة إلا أشباحا .. لكنها أشباح أليفة لدي . أمر بالقرب منها و ألامسها في حنو فتتمايل في دلال . 
أنا وحليمة على موعد اليوم مع نزهة قريبا من البلدة .. نسير على الأقدام والأصيل قد بدأ يضفي صفرته على الكون . الطريق يمتد أمامنا في سكون . يستقبل وقع أقدامنا في استسلام . بل أحس به يعانق خطواتنا مصغيا إلى كل همس ننبس به أو كلمة ننطق بها . مثله مثل كل ما يحيط من حولنا . 
عن يسارنا يبدو الوادي غارقا في سباته وقد تناثرت عبر أرجائه بعض الدور التي انعكس ضوء الشمس على سقوفها القصديرية . وعن يسارنا جثم الجبل بكل جبروته و بهائه كأنه يهم باحتضاننا . بين الفينة و الأخرى تشير حليمة إلى زوجين من اليمام عائدين نحو الوكر المنغرس في الصخور . فنظل نتابعهما يتهاديان في الأفق قبل أن ينزلقا نحو العش . 
- ما أهنأهما . 
- ألست تشعرين بالمثل ؟ 
- بلى ولكني أحس أنهما لا يلقيان بالا للآتي .. لا يتساءلان هل ستدوم تلك الرفقة .  
- وأنت .. هل تتساءلين كذلك ؟ 
- في بعض الأحيان وأنا في قمة السعادة أتساءل .. ما الذي أريده أكثر مما أنا فيه ؟ ثم فجأة تأخذني نوبة من البكاء وتغوص نفسي في كآبة لا أدري منبعها . 
وحين أصمت ، أشعر أنها تنتظر مني ما يشعرها بالاطمئنان . فأتوقف لحظة و أنظر إلى حيث تلاشى زوجا اليمام . وأشير بيدي قائلا : 
- ربما كانت الفتهما تغنيانهما عن التفكير في ما سيأتي . 
وتنظر بدورها إلى هناك وقد لمعت عيناها ببريق صرت أعرفه جيدا . صرت أدرى بأدنى حركة تند عنها بل بكل تغيير يطرأ على ملامحها و أعرف للتو مصدره . 
- أنت تقلقين متسائلة إن كنت متلهفا دوما للقائك ومرافقتك عبر الحقول . 
صمتها يصيح :( نعم ، نعم ) 
- وتكتئبين إن لمست مني في بعض الأحيان سهوما أو لاحظت شرود ذهني . 
( بلى ، بلى )  
- قلت لي مرة أنك ترين الجدول في مترقرقا ، و الشجر متمايلا و الجبل شامخا . 
- أجل .. 
- هل يمكن للجدول أن تكون رقرقته كاذبة ؟ هل يعقل أن يكون حفيف أوراق الشجر في تمايله مجرد صوت حركة لا غير ؟ ألا ترين في الجبل و شموخه سوى قوة و جبروتا لا روح فيهما ؟ 
حليمة لا ترد أنها تعلم أنني حين أتكلم فإن كلامي يصير هذيانا . و ما أكثر ما ضحكت حين أندفع في حديثي . لكنها هذه المرة لم تضحك .. لم تبتسم .. لم تقل شيئا . 
- ألا فاعلمي يا حليمة أن الجدول حين يترقرق ماؤه ، فإنه يكون في قمة البوح ، وهو صادق في بوحه . وأن الشجر حين يتمايل و قد تعالى حفيف أوراقه ، فإنه يكون في أبهى حالات العشق ، وهو صادق في عشقه . و أن الجبل في شموخه و جبروته ، يكون أحنى من الأم الرؤوم في احتضانه لما يقع حواليه ، وهو صادق في حنوه . فإذا كنت ترين في أنا ، الجدول و الشجر و الجبل ، فإنك ولا شك ستشعرين بشيء غير الكآبة . هل فهمتني ؟ 
حين تطرق حليمة ، أعرف أنها قد أجابت عن كل سؤال أطرحه عليها . وعندما نعرج على أحد الغدران المنتشرة هناك نجلس قليلا ، ونرمي بحصى متلذذين بوقعه على صفحة الماء الراكدة ، بينما الشمس تهوي من وراء الجبل . و يبدو المساء كأنه يتثاءب مسدلا جفونه في غبطة و حبور . 
[/align] 
		
		
     |