قصر المحيط ( قصة قصيرة )
د. ناصر شافعي
جلس الصبي الصغير على رمال شاطئ البحر بملابسه الكاملة , خافت عليه أمه من أشعة الشمس الحارقة في عز الظهيرة , فأصرت على أن يجلس على الرمال بكامل ملابسه الوقورة , لا بلباس البحر . زادته الملابس مهابة و وقار تتناسب مع المهمة الجليلة الكبيرة التي أتى من أجلها .
أحضر معه جميع معدات الحفر و التشيد و البناء , الجاروف و الجردل البلاستيكي الصغير . وأحضر المساعدين المهرة في أعمال البناء , صديقه الصغير الذي تخرج منذ أيام قليلة من الروضة , وبنت جيران الشمسية المجاورة الصغيرة النشطة , التي عرضت خدماتها الجليلة , مقابل لحظات متعة حقيقة في رؤية القصر الرملي و النهر المائي الذي يطل عليه .. لم يكلف نفسه حتى معرفة إسمها أو سنها .. فهي أصغر منه بكثير و لا تملك ما يملك من خبرات و مهارات في الحياة .
إنهمك الجميع في منظومة عمل جماعي إبداعي رائع .. " البناء لابد أن ينتهي قبل المغرب " .. " محتاج ميه أكثر ! " .. " الحفر تحت البيت بهدوء " .. تنادي الأم على إبنها ليأكل .. يهز رأسه رافضاً تماماً أي محاولات لإضاعة وقت العمل , أو تعكير صفو الأفكار المتدفقة ..
أوشك الجدار الرملي على الإكتمال .. وإكتمل البيت بسور أنيق .. وإطلالة جميلة على نهر من الماء المتدفق بفعل العمال الصغار .. ولكن ماء البحر الملح تبتلعه الرمال بلا شفقة .. فيعاود الصغار ملأ النهر بمنتهى السرعة و النشاط و الحيوية .
كلما أوشك العمل في البيت و الحديقة و السور و النهر على الإنتهاء , كلما إزدادت سعادة الصغار بتكوينهم الإبداعي الجميل . وأقترب قرص الشمس البرتقالي الخلاب من سطح الماء , وأوشكت سيدة البحار الذهبية على الرحيل .
وغادر الجميع مكان ورشة العمل .. أخذت أمه تزيل الرمل اللاصق على ثيابه , و تعنفه على الحالة الرثة التي أصبح فيها , وتجفف وجهه و رأسه من ماء البحر المالح . إختفى الجميع عن الأنظار , وبقيت نظراته وهو يبتعد , تتابع قصره الجميل يصغر و يختفي شيئاً فشيئاً .
في صباح اليوم التالي , إستيقظ مبكراً , وأيقظ أخيه الأكبر ليرافقه إلى الشاطئ . هل سيبقى القصر الجميل ؟ .. هل سينجو من الأقدام الغادرة , التي تحطم في طريقها كل شئ ؟ هل ستبتلعه مياه البحر المتوحشة ؟
أسرع الخطى نحو المكان .. ومن بعيد رأى من يسرق حلمه .. صبية كبار يكملون بناء القصر .. يعيدون تخطيط الحديقة و السور !! .. يضعون بعض المحار و القواقع لإخفاء معالم القصر الحقيقية !! يسرقون جهده وعمله و فكره , بلاإستئذان !! .. نعم .. نعم .. إنه قصري .. نفس المكان و نفس المعالم .. ولكن النهر جاف بلا روح أو مياه .
وقف أمام الصبية يحدق فيهم , مكتوف الأيدي , غير قادر على الكلام , يتنهد في حسرة و ألم ..أخرسته الحادثة .. وعلمته الواقعة .. وقرر في نظام حياته , أن لن يبني - مرة أخرى - قصراً فوق الرمال , وأن يحمي بكل ماأستطاع من قوة كل ما يعمره و يبنيه , في أرضه و وطنه.
إنتهى .
د. ناصر شافعي . القاهرة 5 يونية 2009