فيض الدلالة في النص التامري
[align=justify]
أعتقد بأن قصص زكريا تامر أحرجت النقاد العرب الراغبين في فهمها وتفسير دلالاتها. فقد واجهتهم هذه القصص بشيئين لا أمثلة كثيرة لهما في القصّ الحديث، هما الحكائية المستندة إلى لغة واضحة مباشرة، وانفتاح النص على الدلالات المتعدّدة المتكثّرة، بل انفتاحه على فيض وافر من الدلالة، زاخر بالإشارات التي توحي بأنواع مختلفة من التأويل السياسي والاجتماعي والنفسي.. وهذان الشيئان يندرجان في قالب سردي قصصي يتسم بالتكثيف والتركيز والحرص على وحدتي الحدث والانطباع، وينحو منحى القصر فلا يجاوز الصفحتين في الغالب الأعم، ويتنوع تنوعاً شديداً، فيبدو مرة حكاية سردية قصيرة، ومرة مجموعة حكايات لكل منها عنوان خاص بها وعنوان شامل للحكايات كلها، ومرة حكاية ذات مقاطع وعنوانات فرعية، ومرة حكاية ذات أقسام مرقمة..
هذا النص التامري حيّر النقاد العرب الذين اعتادوا اللجوء إلى المعايير الغربية للقصة القصيرة في أثناء التحليل.. فماذا يفعل هؤلاء النقاد ليفهموا دلالة (الكلب) في قصة: العشاء الأخير (مجموعة: سنضحك – ص17)، ودلالته في قصة: الكلب (مجموعة: نداء نوح – ص55)؟. المريح بالنسبة إليهم أن يعدوا (الكلب) ترميزاً للقيم التي يوحي بها هذا الحيوان، ويدخلوا حقل تفسير القصتين استناداً إلى معرفتهم المسبقة بالقيم التي اشتهر بها هذا الحيوان في الواقع الخارجي.. ولكنهم سيكتشفون أن القصة الأولى (العشاء الأخير) تضم كلبين، لكل أسرة من الأسرتين المتجاورتين كلب.. ولكن الكلبين مختلفان، أولهما (مطيع، مؤدب، مهذب، لطيف، مسالم، وديع، ذكي، لا ينبح ولا يعضّ، يلاعب الأولاد ويحرس البيت)، وثانيهما (شرس، يعضّ وينبح ليلاً ونهاراً، ويهاجم كل من يراه، ويحلو له كلما خرج للتنزّه في الحارة أن يرفع إحدى قائمتيه الخلفيتين ويبول على باب البيت الذي تسكنه عائلة الحواصلي)..
إذا استقام لدى هؤلاء النقاد القول إن الكلب يرمز إلى قيمتين يدل عليهما الكلبان، هما: الوداعة والشراسة، فكيف يستطيعون المضي في تفسير القصة التي تعلن مقتل الكلبين واستمرار التبول كل صباح على باب أسرة الحواصلي؟.
إن هؤلاء النقاد سيضطرون إلى العودة إلى بنية القصة للبحث عن التأويل الملائم لكل منهم.
والظن بأن النقاد الذين اكتشفوا بأن (الكلب) ليس ترميزاً في قصة (العشاء الأخير)، وقرروا العودة إلى بنية القصة ليبحثوا عن تأويل مناسب لها، سيضطرون إلى اللجوء إلى الترميز ثانية حين يقرؤون قصة (الكلب).. ولكنهم ـ هذه المرة ـ لن يجعلوا الكلب موطن الترميز، بل سيجعلون الناس موطن هذا الترميز على الرغم من الإشارات القصصية المتوالية من بداية القصة إلى نهايتها، إلى متعلقات الكلب الحقيقية من ذيل ونباح وسير على أربعة قوائم..
فقد اختير إنسان فقير ليكون ملكاً بعد موت الملك العجوز، وكان هذا الإنسان يملك كلباً جائعاً، فلما صار الفقير ملكاً طلب الكلب لحماً كثيراً فقدّم له.. أكل الكلب.. ولما شبع تثاءب ونام، وبدأت التصريحات بعد ذلك تتوالى.. فقد رأى اختصاصي في التربية أن الدليل على أن مناهجنا معادية للتقدّم هو أنها لا تدرّس لغة الكلاب مادة أساسية.. ورأى القائد أننا نستطيع هزيمة عدونا إذا عرفنا كيف نستخدم بإتقان الأنياب والمخالب والنباح.. ورأت وزارة الصناعة ضرورة تلبية مشيئة الجماهير الكادحة باستيراد مصانع حديثة لصنع الذيول الصناعية.. ورأى الشاعر الغزل أن حبيبته جميلة ككلب أبيض صغير.. ورأت الصحيفة أن ارتباط المواطن الصالح بوطنه لن يتحقق إذا لم يمش هذا المواطن على أربع، ويرفض إغراءات الامبريالية بأن يمشي على قدمين.. ورأى المفكر أن ديكارت مفكر استعماري لأنه قال: أنا أفكر فأنا موجود، في حين كان واجبه أن يقول الحقيقة وهي: أنا صاحب ذيل فأنا موجود.. وأخيراً صدرت أوامر الملك الجديد بأنه من المباح قانونياً للمواطنين كافة بأن يعضوا وينبحوا، فأصبح بشر الكرة الأرضية يمشون على أربع، ويهزون ذيولهم بمرح، وينبحون معلنين انتصار الإنسان على معذبيه..
ولا أشك في أن النقاد الذين سيجعلون الناس موطن الترميز بعد قراءتهم الإشارات السابقة، سيضطرون مرة أخرى إلى السؤال عما إذا كانت القصة قد أفادت من رمز (الطاعة) المنسوب إلى الكلب في الواقع الخارجي، وراحت توظفه في القصة للدلالة على الإنسان العربي المقهور؟.. وعما إذا كان زكريا تامر قد وظف الكلب في القصتين السابقتين كلتيهما ليوحي بقيم مختلفة، وهي الوداعة والشراسة والطاعة، أو أنه لم يرغب أساساً في الإيحاء بأية قيمة، بل رغب في الإسقاط، بحيث يصبح الكلب مجرد وسيلة فنية للتعبير عن القهر؟.. إن نص القصتين يحتمل الترميز كما يحتمل الإسقاط، ويعضّد الدلالة على القهر كما يعضّد الدلالة على سيادة القيم السلبية. فهو نص فني موح حمّال أوجه..
لقد انطلقت من فرضية (النقاد)، لأنهم – بحسب التصنيف المتداول – قرّاء مثاليون.. والقارئ المثالي لا يدخل النص التآمري مزوداً بمعرفة مسبقة عن قصص زكريا تامر، مفادها اتكاؤه على الرمز في قصصه، وخصوصاً الرمز التاريخي، وتوظيفه الحيوانات بكثرة انطلاقاً مما فعله سابقاً في قصص الأطفال (قصة: الحمار المحترم، مثلاً).. إن منطلقي مجرد فرضية نقدية تناقش ما قيل في عدد من الدراسات عن قصص زكريا تامر، وتضعه على لسان نقاد يفترض بأنهم قراء مثاليون.. صحيح أنني اخترت مثالاً (هو الكلب) غير مستمد من أية دراسة من الدراسات، وابتدعت أقوالاً وآراء لم يذكرها بنصها أي ناقد، غير أن ذلك لم يكن لشيء غير الإشارة إلى أن النص التآمري متفرد بين مثيله في القصة العربية القصيرة.. وهذه الفرادة فيه نابعة من صوغ قصة سهلة ممتنعة دالة على براعة زكريا تامر الأدبية..
والمعروف أن النقاد – ما عدا العاملين في حقل علم نفس الإبداع – لا يبحثون عن الفرادة في النص القصصي، بل يحللون هذا النص، ويفككون آلية عمله الفنية، ليجعلوه قريباً من القارئ العادي.. وهذه المهمة الجليلة لا تستقيم لهم إذا اعتقدوا بأن النص التآمري يقبل الخضوع لتأويلات مسبقة وإن كانت مستمدة من المجموعات القصصية الأولى لزكريا تامر. ذلك أن ميزة النص التآمري هي عدم استجابته للتعميمات المطلقة.. فهو نص متفرد، يملك في كل مرة مرجعية داخلية خاصة به وإن كان الإطار العام الحكائي البسيط واحداً فيها كلها.. ولهذا السبب بدت مجموعة زكريا تامر الأخيرة، وعنوانها: سنضحك (1998) مغايرة لما سبقها.. كما بدا أن أحداً ـ في حدود ما أعلم ـ لم ينتبه إلى أنها بدأت وانتهت بالقصة نفسها، قصة (ظلمات فوق ظلمات)، فذلك أمر لا سابقة له في مجموعات زكريا تامر السابقة خصوصاً، وفي المجموعات القصصية العربية عموماً..
علام يدل ذلك كله؟. أعتقد بأن النص التآمري يضم ما سبقت الإشارة إليه من حكائية وعمق فني وإيحائي وتوظيف وترميز، ولكنه قبل ذلك وبعده يمتاز بأنه يضم طبقات من المعنى، كل طبقة منها تخاطب قارئاً معيناً، دون أن تتناقض أو تدل على فضاء مطلق غير قابل للتحديد.. فالقارئ العادي يعثر فيها على حكاية تشده وتدهشه تبعاً لنهايتها غير المتوقعة لديه.. ويجد القارئ المنقّب فيها فرصاً لالتقاط الإيحاءات الجانبية، كما هي الحال بالنسبة إلى سعاد في قصة (النائمات).. فقد رأت نفسها في المنام تغتصب ثلاث مرات، مرة في منزلها، ومرة في المقبرة، ومرة في الشارع.. وما حدث لها سيتكرر بالنسبة إلى سكان الحارة من النساء.. فما تفسير المنام والمنزل والمقبرة والشارع وتعميم الاغتصاب؟..
إن هناك إيحاءات نفسية واجتماعية وسياسية يستطيع القارئ المنقّب التقاطها وتفسير القصة استناداً إليها.. ولا شكّ في أن القارئ المثالي (الناقد) سيدرك ما يفهمه القارئ العادي والقارئ المنقّب، وسيضيف إليهما جديداً يحتمله النص.. ومسوّغ ذلك كله هو تمتع النص التامري بفيض الدلالة.. فلكل طبقة من طبقات المعنى دلالة، تضاف اللاحقة منها إلى السابقة حتى تكتمل بنية النص بالتماسك الداخلي في كل طبقة، وبالعلاقات العضوية المتكاملة بين الطبقات كلها.. ولعل ذلك هو الذي منح النص التآمري الفرادة، وجعله مغايراً للنصوص القصصية السائدة التي تستجيب جوانبها كلها للتحليل، وتكتمل به، دون أن يبقى فيها زيادة لمستزيد...
[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|