الكتابة فصل دافئ
[align=justify]
كثيراً ما يقف القلب حائراً عند خط من خطوط الروح حين تبعثرني فواصل القصيدة وتأخذني إلى بحر ماله قرار. وأعترف ثم أشهد أن الكتابة دخول في المستحيل وغرق في الوجع الذي لا يرحم. لكن هل يستطيع الواحد منا أن يخلع شجرة واحدة من أشجار الإبداع رغم هذا القلق الذي يجتاح كل نقطة حبر أو قطرة عرق؟؟ تلك هي المعادلة التي يصعب أن تجد حلاً لها.. وإن أردت فهي في كل التعريفات معادلة تمتد في طوفانها حتى آخر السطور، وتنحسر في ارتدادها حتى ملامح الوجه.. وتبقى في كل الحالات صعوبة في يسر، ويسر في صعوبة، وغليان لا يعرف الهدوء..
يسألني الأصحاب أحياناً، ولا يبتعد الشباب عن مثل هذا السؤال في كثير من الأحيان: متى تكتب.. ومتى تحب أن تكتب..؟؟ وأحار في وضع الجواب أو صياغة التعريف الذي يعطي السائل ما يشفي.. فالكتابة فعل جميل لكنه حارق، ولذيذ لكنه جارف. فكيف أقول بكلمات بسيطة إنني أكتب على هذا الشكل أو ذاك؟؟ وهل يحق لي أن أنهي المسألة عند حد من الحدود؟ لماذا لا أقول ببساطة إنني أكتب في حالة فرحي وحزني، شجاعتي وخوفي، دفئي وبردي.. ولماذا لا أضع أمام القارئ أو السائل هذه الحالة الغريبة التي تعصف بي أحياناً فأشعر بالبرد صيفاً، وبالدفء شتاء.. هل يبدو ذلك صعباً على الفهم؟؟..
في أحيان كثيرة، وفي نوعٍ من الثورة على كل شيء، كنتُ أتمنى أن أخلع كل فصول الحبر والورق من حياتي.. لا أحد يستطيع أن يعرف تماماً كيف تصبح الكتابة سيفاً يقطع الأصابع والأنفاس في وقت ما.. ثم ودون سابق إنذار تتحول الكلمات إلى وردة تأخذك فيسكرك شذاها حتى الذهول، عندها تتمنى أن تتمدد على بساط من كلمات، لتكون الكتابة طريقك الأوحد. وفي كل الأحوال يكون فعل الكتابة فعلاً يخرج عن أي قانون أو ميزان أو تعريف. إنه الفعل الأكثر جمالاً وفاعلية وحركة وغلياناً..
في كثير من الأحيان يشعر الداخلون إلى عالم الكتابة حديثاً بالاختناق، حين لا يدرون ما يفعلون، وحين تصير الأوراق دعوة وإغراء وتمنعاً في وقت واحد. ولا يعرف الكاتب كيف يضع خطواته على الطريق، لأن الكلمات من أشد الأشياء مراوغة ودوراناً وقدرة على الهروب. تحاول أن تمسكها من هنا، فتهرب، ومن هناك فتنفر. وحين تضعها في قفص لا يناسب جنونها أو جموحها تكون مثل الأزهار الاصطناعية، تراها ولا تجد روحاً لها، وتجسّ نبضها، فتجدها دون أي حياة. ويسقط الكاتب في الامتحان، ويلعن الساعة التي أمسك فيها القلم.
إن أجمل ما يعطي الكلمة نبضها ينبع من فهم طبيعة فعل الكتابة، ومحاولة الدخول في كل جزء من أجزائه بخبرة ودراية وقدرة على التجول بحرية لاتحدّ.. في هذه الحالة يكون الكاتب واحداً من اثنين، فإما أنه قد أتقن فعل الكتابة حتى سكر بها وما عاد يهمه أن يستغرق ويغرق لأن الفعل لا يخرج عن كينونته وأناه وحركته الذاتية الطبيعية. وإما أنه قد تداخل مع الضوء والنور والروح الكتابية، فما عاد يهمه أن تدهسه لحظة الوجد بالمعنى الكامل، لأن الحروف وإن اشتعلت وازدادت لهيباً تعطيه جسدها فيتم هذا العناق الجميل الأخاذ..
أحياناً، وتلك معضلة ما بعدها معضلة، يصل الكاتب إلى حالة العقم، فإن كان عقماً مؤقتاً، فذاك عرض يزول ويعود الكاتب إلى حالته الطبيعية الجميلة من الإبداع. أما إن كان عقماً نهائياً دائماً، فهنا المصيبة التي تنهي الكاتب وتجعله بقية مبدع. ولا وقت لمثل هذا العقم، وإن كان على الأرجح أن يأتي في سن متأخرة، إذ كثيراً ما نجد أن الكاتب أخذ يكرر نفسه، ويعيد كل ما كتبه من قبل، ولا يقبل بالركون إلى الهدوء والسكينة. وفي كل الحالات، تكون حالة الإبداع قد وصلت عند هذا الكاتب إلى خط النهاية، ولا يجدي عندها طب أو دواء، فالكتابة حالة خاصة، ولا ينطبق عليها أي علم من علوم الطب. والأفضل أن يقتنع الكاتب بما وصل إليه.. وكفى..!!..
هل أخرج بهذا الكلام عن روح زاويتي التي عودت القارئ على نمط ما؟؟ أظن أنه لا معنى لأن تأخذ الكتابة نمطاً معيناً يرتاح إليه القارئ ويرضى أن يكون ذا شكل نهائي.. والأجدى أن تبقى الكتابة فعل تجدد وخروج عن القواعد والأنماط وما شابه، ليكون القارئ على موعد مع الجديد، لا مع ما تعود على خطوطه وخطواته وحركة سيره..
هل أردت أن أقول إن الكتابة جسر لا يشبه أي جسر؟؟ أم أنني أردت القول إن الكتابة وردة تشبه وردة الحلم؟؟ ربما كان هذا وذاك صحيحين.. لكن في كل خطوة من الخطوات يجدر الانتباه إلى أن الكتابة فصل من فصول الروح والقلب والدم، فصل من فصول الحب الذي لا يعرف الانطفاء.. وعلى الكاتب في كل الأحوال أن يدلل كتابته لتكون شجرة خضراء تطول وتكبر وتعطي، ولا تعرف الذبول، فالكتابة أروع وأجمل وأحلى من أن تسكن زاوية الإهمال..
[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|