ثرثرة فوق النيل لنجيب محفوظ
[align=justify]طبعت رواية (ثرثرة فوق النيل) سنة 1966م في ذروة مجد الرئيس جمال عبدالناصر, في وقت كان دأبُ الإعلام الرسمي التأكيدَ على انتصار الثورة والنظام وانعدام السلبيات والأخطاء. فجاءت(ثرثرة فوق النيل) لتنبه إلى كارثة قومية بدأت تطل برأسها، وتستشري في الجسم المريض,(أعني محنة الضياع وعدم الإحساس بالانتماء الوطني), خاصة في أوساط المثقفين الذين انعزلوا عن المجتمع وأصبحوا يعيشون في شبه غيبوبة:
نرى أن السفينة تسير دون حاجة إلى رأينا أو معاونتنا، وأن التفكير بعد ذلك لن يجدي شيئاً، وربما جرَّ وراءه الكدر وضغط الدم.
فكانت الرواية إرهاصاً لنكسة حزيران 1967م.وكانت شجاعة من نجيب محفوظ أن يعبِّر عن هذه السلبيات, وشجاعة أكبر من عبدالناصر أن يقول عن الرواية إنها صادقة, وعلينا أن نستفيد من هذا النقد السديد الخالي من سوء النية. فالرواية ليس فيها ما يؤذي (كبرياء) ناصر و(ديكتاتوريته) ! وهي من الحالات النادرة التي ينجو فيها الأدب ذو السوط النقدي من سطوة الساسة. وأحداث الرواية تدور حول الجدية في مواجهة العبث، والعبث: يعني فقدان المعنى، وانهيار الإيمان، والسير في الحياة بدافع الضرورة وحدها دون اقتناع ولا أمل.
والجدية: تعني الإيمان والتشبث بالحياة بما تفرضه من تحمل المسؤولية وقيام بالواجب.
وشخصيات الرواية تجتمع ليلاً في إحدى العوَّامات في شارع النيل بالجيزة، وينحصر اهتمامهم بالإدمان وبالعبث وبالكلام في اللامعقول، ولا يأبهون لما يجري حولهم من أحداث، إلا ما ينفع منها ما يكون مادة للضحك والسخرية.
وما العبث عندهم إلا تهرب من المسؤولية والواجب،فجعل نجيب لقاؤهم في (عوَّامة) مكانٌ أساسُه (الماء) بلا جذر ثابت أصيل، وجعل حديثهم (ثرثرة) لاجدوى منها ! فتحاول (سمارة) إخراجهم من دوامة التقوقع،بإثارة الحب في مشاعرهم، بغية إحياء الأمل في موات نفوسهم، فتستطيع بذكائها أن تجعل لنفسها موقعاً مميزاً داخل فضاء العوامة، فتوقظ لديهم شعور نائم الارتباك بأسئلتها المحرجة.
ويحبها (رجب)، ويقترح على الجميع قيامهم بنزهة ليلية بسيارته، وترحب هي بالفكرة ، ويرفض (أنيس) كونه الأكثر تطرفاً في العبث، لكنه يقبل تحت تأثير ضغط (سمارة) التي كانت تتوقع نتائج إيجابية من هذه النزهة.
لكنهم عند عودتهم تصدم السيارة بشبح أسود يطير في الهواء،وتدوي صرخة مروِّعة،فيصبحوا بموجبها جناة وقتلة، فيقرروا ترك الجثة والهرب،وقد غشَّاهم صمت جنائزي، ويعرفون أنه رجل في الخمسين كُسرت فقار ظهره وساقيه وتهشمت عظام رأسه، لم تعرف هوِّيته ولم يُعرف أهله.
وعند وصولهم إلى العوَّامة يقرر الأب الروحي للعبث – أي (أنيس) - تبليغ الشرطة بعدما اتضح له عجز (سمارة) عن القيام بذلك لاعتبارها الأكثر جدية، لأنها ببساطة لم تشأ أن تلقي بحبيبها «رجب» في السجن.
فينتهي المطاف به إلى اعتناق الجدية بعد رحلة طويلة مع اللامبالاة، وتصل (سمارة) إلى مبتغاها بطريقة لم تكن تتوقعها.
** ** **
ومما يلفت النظر في هذه الرواية تفوق نجيب محفوظ في التوظيف الجمالي للغة الذي يكاد يطابق بين النسق اللغوي والمدلول الفني في السياق الروائي.
فلم تعد البيئة والأحداث والشخصيات لذاتها،بل صارت أقرب إلى النموذج ، وبالتالي لم تفرض تفاصيلها الدقيقة كما في رواياته السابقة، وحلََّت اللغة بتوظيفها الجمالي والدلالي محل البطل والبيئة والأحداث.
** ** **
وقد أخرج الرواية سنة 1971م حسين كمال (1934م - 2003م) أهم مخرجي السينما التقليدية التجارية المصرية، من تمثيل: أحمد رمزي، وعماد حمدي،وميرفت أمين، وماجدة الخطيب. وعدَّل المخرج نهاية الرواية فجعل الشبح المقتول فلاحة عجوز (رمز مصر)، ويصيح عماد حمدي (أنيس زكي): الفلاحة ماتت ولازم نِسلم نفسنا..الفلاحة ماتت ولازم نسلم نفسنا !
** ** **
وسنقوم بوصف الشخصيات الرئيسة من كلام نجيب محفوظ نفسه إلا ما اقتضته الضرورة من تحوير طفيف:
1 أنيس زكي: يقيم بالعوامة، موظف بوزارة الصحة، وهو مثقف كان طالباً ريفياً جاء إلى القاهرة والتحق بكلية الطب ولم يكمل دراسته واستطاع بواسطة أحد الأساتذة في الكلية أن يلتحق بالعمل في وزارة الصحة. ماتت زوجته وطفلته في شهر واحد بمرض واحد. اعتاد الإدمان، وتطلق عليه المجموعة لقب فارس الشلة وولي أمرهم. ساخط على الواقع، ومثقف. وهو بطل الرواية الرئيس، والراوي لأحداثها ويمثل صوت السارد الفني في الرواية.
يقول محفوظ: غادر الحجرة بقامته الطويلة الضخمة بحكم ضخامة عظامه لا بسبب أيِّ درجة من الامتلاء. وتجلَّى الوجوم في وجهه العريض، وحرَّك يده حركة حائرة. وقال له مدير الدائرة بنبرة حادة:
- ما رأيتُ في عينيك إلا الاحمرار والظلام والثقل. عيناك تنظران إلى الداخل لا إلى الخارج، فلا تستسلم للتدهور بلا حدود. أنت رجل في الأربعين، وهي سنُّ العقل فكفَّ عن العبث.(وندَّت عن يديه المغطاتين بشعيرات بيضاء شعثاء حركة وعيد).
وقال محفوظ: وقف في جلبابه الأبيض المنحسر عن أسفل ساقيه. والتقط من نافضة عقب سيجارة من السجائر التي دخنتها (سمارة) في أثناء الجلسة. بقي منها الفلتر البرتقالي وعقب أبيض مضغوط ،فتأملها طويلا ثم أعادها إلى موضعها وسط مجموعة من الهاموش الهالك، وتضوَّع من النيل شذاً مائي ذو نكهة أنثوية ،وخطر له أن يتسلى بعدِّ النجوم ولكن أعوزته الهمَّة، فرفع حاجبيه العريضين المتناسبين مع صفحة وجهه الطويلة العريضة الشاحبة.
2 احمد نصر: مديرالحسابات ،الموظف الكفء، متزوج، ولديه ابنة في سن المراهقة، وهو أب متدين،لكنه دائم الشعور بالروتين. يمتاز بأنفه الأقنى الطويل.
3 مصطفى راشد المحامي: تزوج عن غير حب مفتشة بوزارة التربية طمعاً في مرتبها. متذمر دائماً, يعرف خواءه النفسي، ويجد ملاذه في المخدرات وفي التطلع إلى المطلق دون منهج ولا جهد حقيقي. وقال محرِّكاً تفاحة آدم:
- إنَّ الدنيا لا تهمنا كما أننا لا نهمُّ الدنيا في شيء. (وتفاحة آدم: الحنجرة،جزء بارز يظهر في الجزء الأمامي للرقبة).
4 علي السيد: الناقد الفني على الرغم من نشأته الأزهرية إلا أنه يعيش حياة غير محافظة فهو من قرية ريفية وتزوج من امرأتين إحداهما ريفية تقليدية لترضي نوازعه المحافظة للسيادة، ومع ذلك فهو يعربد مع (سنية كامل) المرأة المتزوجة في العوامة، ويقيم أسسه الجمالية على المنفعة المادية مما يجعله مطارداً بإحساس التفاهة والخيانة، حالماً بمدينة فاضلة خيالية !
يمتاز بأنف أقنى طويل، في وجه عريض أميل للبياض. ويقول محفوظ: احمرَّت عيناه الكبيرتان، وبدا أنفه الكبير متهدلا لزجاً.
5 خالد عزوز: روائي مذهبه الفن للفن،عنده ولد وبنت. ورث عمارة عن والده ، لذلك لا يعمل، وبقي عالة على المجتمع. يجد مهربه في الإدمان والجنس والفن الهلامي الذي يفضح ما تنطوي عليه جوانحه من إباحية.
يضع نظارة ذهبية.
6 رجب القاضي: ممثل زير نساء، لا هم له سوى الحب والنساء. ظهر بقوامه الممشوق وسمرته الداكنة وقسماته الرشيقة. وقال باسماً بنبرته الموسيقية، كاشفاً عن أسنان بيضاء نضيدة.
7 سمارة بهجت: صحفية في مجلة (كل شيء). في الخامسة والعشرين من العمر.
حصلت على ليسانس اللغة الإنجليزية وهي دون العشرين بقليل.ورفضت زواجاً برجوازياً فاخراً من قريب لها من ناحية الأب، رغم مرتبها الصغير لأنها لم تكن تحبه. تسللت إلى العوامة بغية رصد هؤلاء المدمنين كشخصيات لمسرحية تعتزم كتابتها.
أنوثتها جذابة بلا عائق، وملامحها واضحة كأناقتها البسيطة، وسمرتها متبدية بلا رتوش، وعيناها عسليتان جميلتان، في نظرتهما ذكاء يصدُّ عن اكتناه أغوارهما.
ارتدت قميصاً أبيض وجونلا رمادية، وطوق القميص لا ينحسر على شيء من مشارف ثدييها كالأخريات.
8 سناء الرشيدي: طالبة بكلية الآداب قسم التاريخ. دون العشرين عمراً. سمراء.
تنتظم وجهها المستدير قسمات صغيرة دقيقة تنطق بالخفة، وتروِّض خصلة من شعرها المتمردة. قالت لمصطفى راشد، بنبرة كغزل البنات, أو كرنين الوتر الرفيع من القانون إذا مسَّته يد العازف خطأ:- يا لك من ساحر !
فابتسم إليها ابتسامة فاترة بدت في الضوء الأزرق الشاحب كامتعاضة.
9 ليلى زيدان: خريجة الجامعة الأميركية، مترجمة بوازرة الخارجية. عانس في الخامسة والثلاثين. رائدة في فضاء الحرية، ومرقت من بؤرة محافظة.
معتدلة القامة، ذات شعر ذهبي. ورغم انتهاء عمر شبابها الأول، كالرماد الزاحف على جواهر الجمرات، لم تزل بها ملاحة تشتهى في البشرة الصافية، رغم غلظ في أرنبة الأنف ونذير غامض يزحف مهدداً بالخراب.
مسَّها الكبر. هذه التجاعيد الخفيفة كالزغب حول طرف العين والفم، ومسحة من الجفاف القاسي المقفر لإناء لم يترع بماء.
10 سنية كامل: من بنات الميردي ديو (وهي مدرسة لتعليم البنات اليتيمات، أنشأها في القرن التاسع عشر الخديوي توفيق في شارع طلعت حرب، وفي عام 1921 م تم نقلها إلى جاردن سيتي).
عيناها رماديتان، وهي سمراء وعصبية وتحب الضحك، ومرحة الحيوية. لا يعيب جسمها الممتليء إلا أن نصفه الأعلى أضخم قليلا من الأسفل.وفي غيبوبة الحب والسطل لاتنسى أولادها. كما أنها تحب زوجها على طريقتها: تعاشره عاماً وتهجره عاماً، وتعود في النهاية إليه.
تساءلت وهي تزيح خصلة ضالة عن حاجبها.
11 عم عبده حارس العوَّامة وخادم رُوَّادها: يعيش في إزدواجية بين عمله كمؤذن للمصلى الذي بناه وبين عمله في القيادة (إحضار فتيات الليل لأصحاب العوَّامة ).
يعلو بقامته العملاقة هامة كوخه الطيني المسقوف بالأخشاب وسعف النخيل كشيء ضخم قديم عريق في القدم، بحيوية النظرة المنبثقة من دائرة التجاعيد الصلبة.
أرهبَ أنيس وهو ينظر إليه عمق الحفائر، وهاله الشعر الأبيض الكث البارز من جيب جلبابه كأزهار البلح. أمَّا جلبابه الدمور المنسدل كغطاء تمثال فينسدل على اللحم بلا عائق، وما اللحم إلا جلد على عظم (والدمور: قماش أبيض خشن ، يسمى الخام)، ولكن أيُّ عظم ؟! هيكل عملاق يناطح رأسه سقف العوَّامة، ويشع جاذبية لا تقاوم. كأنه رمزٌ حقيقي للمقاومة حيال الموت. وقال بزهو:
- أنا العوَّامة، لأنني أنا الحبال والفناطيس. وإذا سهوتُ عمَّا يجب لحظة، غرقتْ وجرفها التيار. ( والفناطيس: جمع فنطاس، وهو الحوض الذي يُجمع فيه الماء).
وضحك لاعتزازه الساذج الجذاب بنفسه.[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|