المبدعة هدى الخطيب
هناك نوافذ كثيرة على العالم، وأنت فتحت أكثرها جدلاً. لقد مررت أنا بمثل هذه التجربة وكنت شاهداً على حالة موتٍ بطيء لولدي إثر إصابته بسرطان الرئة. مات الجسد الجسد بطء وألم وكان في نهاية رحلة حياته قد تجاوز الخطّ الأحمر الذي يفصل الأحياء عن الأموات. وكتبت رواية اسمها "أحياء في مملكة السرطان" واسمحي لي أن أنقل جزءاً صغيراً ذو علاقة مباشرة بالموضوع.
* * *
?ذه المرة أردت أن أشاهد الدنيا بعيون والدي التي لم تنغلق بعد وإلى الأبد. شاخ جسده مرة واحدة. قدمه اليسرى تورمت كثيراً بسبب نقص الغذاء وباتت البقع الداكنة على وجهه ورأسه دائمة. صفائح الدم لم تعد تحتمل وقع الحياة الرتيبة. أخذت تنفجر وتهجر مجراها الدموي غير المنقطع عبر الشرايين والأوردة.
معركة خاسرة استمرت ما يقارب ستة عشر شهراً. كيف يحتمل الإنسان كل هذه الأقراص الطبية. آلاف من الأقراص، بعضها للمعدة، للعظام، للهدوء النفسي والسكينة، للمغص ولسكرات الألم. يبتلعها والدي دون كلل يوماً بعد يوم. يتحول جسده لصيدلية متنقلة بل مستودعٍ للأدوية، ويصرخ الوعي والدماغ، هل من خلاص! في هذه الحالات جميعنا يعرف الجواب، الموت رحمة وخلاص. والكلمة الأخيرة تبقى بيد الخالق، فهو أدرى بخلقه منا. ندرك نحن العقلاء الأصحاء ذلك. ويرفضه المريض المحكوم بكل ما أوتي من قوة وإرادة. وكلما أدرك هذا المصير زاد رفضه للحظة النهاية. هذه سُنَّة الحياة، فعذراً يا والدي. دع الأمور تجري لأقدارها. أدرك اللاوعي عبثية الاستمرار، لم تعد اللحظة الجارية تحمل نشوة الحياة وتوقف الطبيب عن ذرّ الرماد في العيون. توقف عن تشجيعنا واكتفى بقول "لا حول ولا قوة إلا بالله". أجهر أخيراً بضعفه وأسلم بضعف الطب الحديث أمام هذه المعضلة. حان الوقت لإراحة الخيل بعد أن جابت بلاد الله الواسعة. لن تغادر فراشك يا والدي إلا لمثواك الأخير. عندما ستبدأ رحلة حياتك الجديدة. هل تملك القوة الآن لترسم على شفتيك المتشققتين ابتسامة! افعلها وابتسم؟
أخبرني ما الذي تراه الآن بعد أن تخطيت الخطوط الحمر التي تفصلنا عن العالم الآخر. أعرف أنك ترى أشياء كثيرة لا نراها نحن الذين نحوم من حولك. أعرف أنك تتحدث وأشخاص لا يظهرون لغيرك. كان يشير بإبهامه نحو المروحة المعلقة في السقف. هنا من يعتليها! شخص ما هناك يثير خوفك ورعبك، من يكون ذلك الشخص يا ترى! أهو الشيطان بعينه! أم أنه يكون ملاك الموت ينتظر بفارغ الصبر ساعة النهاية!… لا جواب! يرفض الحديث عن ذلك. بل ويسألنا بما تبقى لديه من قوة "هل ترونه أنتم أيضاً".
نهز رؤوسنا سلباً. عندها يستغرب استفساراتنا ويقول راجياً "لا تسألوني عنهم، لا أستطيع التحدث عن ذلك".
ثم يبدأ رفضه القاطع. يعبر عنه بسبابته ويده ورأسه، يهز رأسه مُحْتَداً وتراودنا الأسئلة مجدداً "ما الذي يرفضه الآن. هل قدموا لك عروضاً مشينة. ماذا يدور في عالمك الآن يا والدي؟ "ومن جديد تبقى أسئلتنا عقيمة. تبحث هي الأخرى عن بعض الإجابات التي لا تأتي ولن تأتي.
أشعر بأن البيت مأهول بالسكان. كأن عالماً آخر يشاركنا المنزل بصمت دون أدنى حركة أو إشارة. كنا نشعر بوجودهم عبر انفعالات والدي. ربما كان ذلك محض كوابيس وصراع من أجل الحياة. لا أظن ذلك. لأن ذاكرته أصبحت قوية وحادة كالموسى. كان يتذكر أشخاصاً ووجوهاً غابت عن عالم الأحياء منذ زمن طويل. أشخاص لا نعرف أسمائهم ولا نذكر حضورهم بيننا في الماضي القريب. لكن عمّي كان يهز رأسه موافقاً لأنه يذكر هؤلاء الأشخاص. عاصرهم هو الآخر وخاطبهم يوماً ما في الماضي البعيد. لكنه كان يفضل الصمت والابتسام. يهز رأسه بحيرة دون أن يهمس بكلمة واحدة.
بدأت التقرحات تظهر على جسده في منطقة الظهر وفي المؤخرة.
كنا ندهن المناطق بمرهم خاص يحتوي على مضاد حيوي. كان أثر السرير واضحاً في أطراف جسده. تقرحات تفوق في وطأتها وعفنها الوضع العربي الراهن.
*** *** ***