هشام البرجاوي
ما القومية؟
قبل أن نقترح تحليلا لقضية الأقليات القومية في الوطن العربي، علينا أن نتحقق من تعلمنا للقومية، علينا أن نتيقن من معرفة تعريفها الصائب، و علينا أن ندقق معلوماتنا على بعدين:البعد التاريخي و هو المنشأ و التشكل و البعد الفكري المنطوي على أهداف و أيديولوجيا التيار القومي.أعتقد أن وضع التعريف الحصيف للقومية يخلق مناخا للتعايش بين القوميين و الاسلاميين. أقترح عليكم مقالا نشرته في جريدة:"شباب المغرب" و في مدونتي:
غالبا ما نعتقد أن اندلاع القومية العربية و تحركها الثوري نتيجة مباشرة للاستعمار الذي تعرضت له الدول العربية، سواء من جانب القوى الغربية أو من جانب الحملة الدينية المسيسة التي تزعمها العثمانيون حين تمكنوا من بسط سيطرتهم على العراق و لبنان و مصر و غيرها من الأقطار العربية.ان الاقصاء الغاشم الذي أطبق على اللغة العربية بعد تفشي السلطة التركية لم يكن القوة الدافعة الوحيدة التي أنجبت الفكر القومي و أدت الى تأججه، فالدين الاسلامي، في صورته الشمولية، التصق بالمحيط العربي الذي احتضنه و أنشأه و أسهم في انضاجه، لينتقل بعد التأسيس الى الانتشار و التماسك و تشعب التأويلات و تنوع التوظيفات، بعد أن تسرب الى دول جديدة منها ايران و تركيا. فتركيا ترجمت الاسلام الى ذريعة للتوسع على حساب الدول العربية و توصل الحكام العثمانيون الى منصب:"خدام الحرمين الشريفين" و هم منصب حساس و ثقيل التأثير لم يضطلع به الا العرب منذ ظهور الاسلام الى اعلان قيام الدولة العثمانية.الصراع العربي العثماني استند الى عاملين أساسيين تمثلا في رغبة العرب في استرداد الوصاية على الديار المقدسة و اعادة الاعتبار الكامل الى اللسان العربي بوصفه اللغة المبينة التي انتقاها رب العالمين لايصال خطابه الاصلاحي و التنويري الى الانسانية.و بالتالي، فان نسب الفكر القومي العروبي الى الأزمة اللغوية الخطيرة التي اختطتها السلطة التركية نظرية تأريخية خاطئة، لأن تطور الاسلام و تنقية مفاهيمه و ازالة التأويلات الشخصانية التي اجتاحته مشروع كوني لا يتأتى بغير اصلاح العربية و بعثها و مشاركتها الكاملة في صناعة الوطن و الهوية اللذين يدافع عنهما المسلم دون خلفيات مذهبية أو منفعية.
القومية العربية ليست فكرا مناقضا للسلفية الدينية، و ليست طاقة علمانية تتغيا محاصرة الممارسة الدينية أو تقويض مشاركة علماء الدين في تدبير الشؤون السياسية.ان القومية العربية من خلال تجربة حزب البعث في العراق تيار متفتح تجاوز الأحقاد المطمورة و الخلافات المذهبية ليتحول الى تطبيق مقدس يتغذى على التعايش الطوائفي و البناء السوسيواقتصادي.فأقصى شواخص و مظاهر الحرية التي يمكن أن يتمتع بها المتدين الأصيل هي استيفاءه لحق العبادة المتكافئة مع معتقده، و الاستفادة من مساحات مخصصة لانشاء دور عبادته، و اذا استطاع الوصول الى دواليب السلطة فان موقفه يجب أن ينطلق من مسلمة البناء السوسيواقتصادي، لأن موقف التطوير المحلي يقدم فرصة عريضة لجميع فئات الشعب للاستفادة، و يضاعف من قوة الاحترام الممنوحة للمتدين المشارك في السلطة و يزيد من قدسية عباداته و رمزية طقوسه. أما اذا وصل عاشق تيار ديني معين الى السلطة على أساس دعم تياره و الانفراد بتنشيطه و بث أفكاره، فان الانطباع الذي ستسكتسبه المجموعات المعارضة لهذا التيار هو ارتكازه على أساليب الاقصاء و الاصلاح الفردي و ايمانه بمبدأ مرفوض قوامه:"معنا فتتطور و تستفيد، أو ضدنا فتهمش و تعاني".لو كانت مشاركة الجماعات الدينية في السلطات و الحكومات مبنية على قناعات وطنية لتفادى العالم الاسلامي برمته مشاكل ثانوية و ترفية من قبيل تسييس الدين و تديين السياسة و استغلال الدين و غيرها من المصطلحات الدخيلة على نسق التعايش المطلق و العتيق بين اللغة العربية و معتنقي الديانة الاسلامية.و لا يعاني القوميون الأقحاح و المخلصون لشروط القومية العربية من آفة الخطاب السياسي الموجه الى الجماهير، فالمنتسب لفئة دينية محددة لا يستطيع اخراج خطاب سياسي متسم بالبعد الاصلاحي الكوني الا من خلال مبادىء و أفكار الفئة التي ينتمي اليها و التي ساعدته على ارتقاء السلطة، أما السياسي القومي فان انتماءه القومي يملي عليه مواصفات و مفردات خطابه السياسي، و الذي يتركز على النهضة الاقتصادية و الجودة الاجتماعية و تشكيل الوزن الدولي بواسطة تطوير القوة العسكرية.و اذا استحضرنا النموذج العراقي تحت نظام صدام حسين، فان شروط القومية موجودة و مطبقة و سارية:اقتصاد مؤمم و موجه لتوفير حاجيات الشعب و اشباعها، جيش منظم و مجهز يمثل ضمانة استقرار اقليمي و توازن بين العرب و الايرانيين.و بالنظر الى جميع مقاييس تقييم مصداقية نظام سياسي يدعي القومية، فان العراق قدوة مثالية تستحق اقتفاء أثرها من حيث الوفاء للمبادىء و الشعارات.
ان تأريخ النهضة الأوروبية و انبلاج عصر الأنوار لم يقتصر على الفلسفة و التحليل المنطقي، لأن صناعة الأمم و انتاج الاستراتيجيات الاصلاحية ليس مجرد تنظير فكري و تطبيق أدبي، فالحرية التي نادى بها المفكرون الأوروبيون و استغاثوا بها لرفع الحيف الكاثوليكي تجسدت في الأعمال الأدبية العملاقة للأديب الفرنسي" فكتور هوجو" و الأديب "الفونس ضودي"، غير أنها عانقت الواقع و صارت سلوكا و عادات بعد الثورة الاستئصالية التي أعلنها الشعب الفرنسي ضد سلطة الملك التي دافع عنها رجال الدين و اعتبروها مقدسة و تمثيلا راقيا للارادة الالهية.و على الصعيد العربي، الأدباء المشيدون بالحرية تكاثروا و تغنى بها الشعراء العرب و مجدها الفلاسفة العرب لتنتج في الأخير ثورة استئصالية هي:"القومية العربية".الاسلام أقدم من العروبية لأن التزييف المدمر الذي لحق الأول أفضى الى ميلاد الثانية. و تصرف الشعوب منمط و واحد، يعكس لي شخصيا وحدة خالق الكون، ذلك الرب الذي نقدسه و نستعين به، فالشعوب الأوروبية استشعرت التشويه الذي اغتال نقاء المسيحية فظهر مصلحون من أمثال:"مارتن لوثر"لاحياء المسيحية و محاولة اصلاحها و تخليصها من التراث الخرافي، تماما كما حدث على المستوى العربي، فالاستخدام العثماني و الامبريالي الخاطىء للدين أدى الى ظهور نقيضه المتجلي في القومية المحتكمة الى الدين.هكذا هو اعتقادي، و الذي يؤمن ايمانا يقينيا بالتآلف و الامتزاج الكامل الذي يجمع بين المشروع العروبي و المرافعة عن الدين الاسلامي.